يوركي عبده ألماظ خمسة استهلالات 1- «شاعر سوري مبدع هو أدونيس، هزته الثورة الخمينية في إيران، وأظهرت أكثر نوازعه الدينية تأصلاً، فإذا ب...
يوركي عبده ألماظ
خمسة استهلالات
1- «شاعر سوري مبدع هو أدونيس، هزته الثورة الخمينية في إيران، وأظهرت أكثر نوازعه الدينية تأصلاً، فإذا به يبرر عدم فصل الحقل السياسي ليس عن الدين عموماً، وإنما عن دين بعينه هو الإسلام». وائل السواح (الأوان 6-9-2007).
2- «جاء العصفُ الجميلُ ولم يأتِ الخرابُ الجميل... أنا ساعة الهتك العظيم أتتْ وخلخلة العقول» أدونيس/ من قصيدة «مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف»1970
3- «لا أعرف أن أبكي، لو أنني أعرف لكنت حولت عيني إلى ينبوعين من الدمع، جنوبي في درعا، وشمالي في بانياس وجبلة». أدونيس (جريدة الحياة 2011).
4- «أنا مع الحراك الثوري مهما كانت النتائج، لأن هذا الحراك هو في حد ذاته دليل على حيوية الشعب ودليل على تشبثه بالحرية وتشبثه ببناء مستقبل مختلف» أدونيس (موقع القنطرة 2011).
5- «لا هيمنة في الأخير إلا للحرية، ولا أمن في الأخير إلا بالحرية». أدونيس «رسالة مفتوحة إلى الرئيس» (صحيفة السفير 2011).
[1ـ الشعراء يقولون ما لا يعلمون!
وكأن الشاعر لا يكفيه الشعر!؟ فتراه، يحشر أنفه في ما يجب وفي ما لا يجب! وإذا كان تورط الشاعر في ما لا يجب، أمر لا يختلف، في نتائجه السلبية على إبداعه وعليه شخصياً، سوى في اختلاف البشر في تحديد ما يجب وما لا يجب، فإن تدخله المحمود في ما يجب عليه أن يتدخل به، هو بدوره أمر محفوف بالمطبات والمخاطر.. ذلك أن الشاعر، حينها يخرج من منطقة اختصاصه ويدخل في اختصاصات سواه، أي خارج دائرة خبراته ومعارفه، إن لم أقل خارج طبيعته، وأكثر ما يغوي ويجذب الشعراء من أمور، على مدى التاريخ، وبخاصة في البلاد التي يتحكم بها الاستبداد، هي السياسة! الأبعد عن الشعراء بعدها عن أي صنف آخر من البشر، لكونها حقلاً له أمراؤه وأسياده، أمّا ما تلك المقولة الشهيرة التي ثبتها المفكر الحداثي الإنكليزي تيري إيغلتون في خاتمة كتابه «فكرة الثقافة»: «.. في وقت غدت الثقافة، في أنظمة الحكم السلطوية.. شكلاً أساسياً من أشكال الخروج والتمرد السياسي، حيث انتقلت عباءة المقاومة من المناضلين السياسيين إلى الشعراء». فإنها تبين وبكل دقة تمييز ايغلتون العمل الثقافي عن العمل السياسي، ملقياً على أكتاف الشعراء عباءة المقاومة لا عباءة السياسة ذاتها.
يقدم أدونيس في «تحية إلى الثورة الإيرانية» نموذجاً عربياً في غاية المثالية، وإن ليس في غاية الندرة، لتورط الشاعر في موضوع لا معرفة له فيه، جملةً وتفصيلاً. تاريخاً وحاضراً، فبأفضل الأحوال وصلته بعض أخبار الثورة الإيرانية خلال قيامها ثم نجاحها وإطاحتها بالشاه، فاحتفى الرجل بهذا الثورة وكتب تحيته هذه. إلاَّ أن أدونيس، كما سيبدو، لم يكتف بتحية ثورة وشعب، بل، وهنا المشكلة، راح يحمّل هذه الثورة كل صبواته، والشعب الإيراني كل أمانيه. وأحسب أن الوضع الإيراني القائم، وما بات معروفاً عن طبيعة نظام الملالي وولاية الفقيه من محافظة وعودة للماضي وتضييق على الحريات، أبعد ما يكون عن منهاج أي ثورة ذات أفق مستقبلي، وما استتبع ذلك من فساد واستبداد وقمع لفئات واسعة من الشعب، نتيجته ما حدث في الانتخابات الأخيرة والاحتجاجات الشعبية الكبيرة التي تلت، وبخاصة في قطاعي الشباب والمرأة، هذا وغيره جاء تأكيداً لخطل أدونيس في احتفائه المباشر، بالثورة الإيرانية، وأظن أن أدونيس نفسه يوافقني الآن بأنها قد خيبت أمله وآمال الكثيرين من العرب وغير العرب الذين شاركوه احتفاءه بها. أما ما يعيد عقد هذه الآمال كلها، إن لم يكن ثورة مضادة، فليس أقل من حركة إصلاح شاملة يقوم بها الشعب الإيراني الرائع نفسه مع قادته الإصلاحيين الكبار ممن نعرف كخاتمي وموسوي وسواهم، وممن لا نعرف وسيبرز في مجرى الأيام والأحداث..
تحيةٌ إلى الثورةِ الإيرانية
أفقٌ، ثورةٌ، والطغاةُ شَتات
كيفَ أروي لإيرانَ حبي
والذي في زفيري
والذي في شهيقي
تعجزُ عن قولِهِ الكلمات.
-
سأُغنّي لقُمٍّ لكي تتحولَ في صبواتي
نارَ عصفٍ، تطوفُ حولَ الخليج
وأقولُ المدى والنشيج.
...
شعبُ إيرانَ يكتبُ للشرقِ فاتحةَ الممكنات
شعبُ إيرانَ يكتبُ للغربِ وجهُكُ يا غربُ مات
شعبُ إيرانَ شرقٌ تأصلَّ في أرضنا ونبي
إنه رفضُنا المؤسِسُ، ميثاقُنا العربي.)
أدونيس (صحيفة السفير 1979).
2- أي تحية وأي شاعر
غريبة هذه القصيدة التي كتبها أدونيس احتفاء بالثورة الإيرانية، ونشرت مرة واحدة فقط بصحيفة السفير اللبنانية سنة 1979، ثم اختفت. فلم تتضمنها أي من مجموعات أدونيس الشعرية أو غير الشعرية، كتلك الكتب التي يجمع بها مقالاته وتأملاته وخواطره. غريبة كشعر، وغريبة كأفكار. وغريب أكثر أن يكون صاحبها أدونيس، «سيد الحداثة الشعرية العربية دون منازع»! نعم أنا أصدق هذا. أو ربما يصحُّ أكثر السؤال، من له أن يكتب قصائد كهذه سوى شعراء كبار، كأحمد شوقي، والجواهري، وأدونيس.. ونزار قباني، مثلاً عندما كتب عن قيام ما سمِّي الميثاق بين سوريا والعراق، ثم ما لبث وأن ألغي لادعاء العراقيين أن السوريين كانوا يعدون لهم مقلباً، فالشعراء في غمرة انفعالاتهم وحماستهم يتركون لألسنتهم أن تنطق على هواها. أقول ألسنتهم ولا أقول أقلامهم، لأن القلم، معدن وخشب وحبر، طبيعته أن يفكر، أن يتأنى، أن يختار. لكن اللسان، لحم ودم وأعصاب، يشطح مع اللحظة، ينفعل، مطابقاً القلب والهوى. إلاّ أن هناك من يقول إن كان صحيحاً أن الشعر يحار بين أن يكون ابن اللسان أو ابن القلب، فليس له أبداً أن يكون ابن العقل!
ولكن كيف لشاعر بمستوى أدونيس، بترفعه عن كل ما يعمّ ويخمّ، بعد السطر الأول المحتشد بأربع كلمات ثقيلة المعاني: (أفقٌ، ثورةٌ، والطغاةُ شتات)، الذي يطرح السؤال: لماذا وضع كلمة (أفق) بدايةً!؟ فالثورة قد حصلت، وتمَّ تشتت الطغاة، فالشاه المخلوع بقي لفترة طويلة مشتتاً تتقاذفه الدول والعواصم، التي كانت تفرش له سابقاً البساط الأحمر من باب الطائرة إلى باب المطار، فلم تقبله أن يحلَّ فيها كل من فرنسا وإيطاليا ولا حتى الولايات المتحدة الأميركية، التي يتهمه البعض بالعمالة لها، ويزيدون بأنها خذلته، حتى حطَّ في مصر بدعوة من رئيسها المؤمن محمد أنور السادات، ومكث فيها حتى مات. ولكن يبدو في ملة أدونيس واعتقاده، إن ما حصل؛ الثورة، وتشتت الطغاة، ليس سوى البداية، وإن لها أفقاً أبعد من هذا تصبو إليه، أفما كان يمكنه أن يقول، كاقتراح لا أكثر: (ثورةٌ،...، أفقٌ)!؟. لكننا نعلم أن «أفق» كمفردة، وكدلالة، لها وقعها في القاموس الأدونيسي، ومن الجيد بعرفه، استخدامها كلما أتاحت الفرصة، وربما يجد أدونيس أنه شيء جيد أن يبتدئ بها. غير أن مصدر استغرابي، هو كيف لشاعر بمستواه وخبرته، أن ينتقل مباشرة بعد هذا السطر إلى: «كيف أروي لإيران حبي»، أقصد، من دون توطئة كافية لهذا الانتقال. مع الانتباه إلى أن استخدامه لفعل «أروي» لا يصحّ إذا أعملنا الحرص على الدقة والسدادة في التعبير، إلا بإضافة كلمة حكاية أو قصة أو سيرة، لتصير: «كيف أروي قصة حبي» مثلاً! غير أن أدونيس، الشاعر الكاره للتفاسير والشروحات كما نعرفه، يفسر، ويشرح لنا، أن سبب هذا السؤال، الذي سمح لنفسه به، علماً بأنه يُسمح للجميع بهذا ما عدا الشعراء الذين مهمتهم في الأصل، مهنتهم، لأنهم سادة الكلام، أن يجدوا دائماً السبل القادرة على التعبير عن أي شيء، هو أن: «الذي في زفيري والذي في شهيقي تعجز عن قولهِ الكلمات»، فأي حبٍّ لإيران، كبير، عميق، جارف، تعجز عن قوله الكلمات!؟ ثم أي مستوى شعري بسيط يظهره هذا التساؤل البالغ السذاجة، والذي عادة ما يستخدم من قبل هواة الشعر والمبتدئين، الذين يرددون دائماً ما معناه: كيف أصف، كيف أعبر، كيف أقدر على قول، ما تعجز عن قوله الكلمات!
[2ـ نبوءات أم صَبوات؟
المقطع الثاني الذي يبدو وكأن أدونيس لا يستطيع به كبح جماح عواطفه، ولن أجاري وائل سواح هنا وأقول، نوازعه، يبدأه بـ»سأغني». ليس للثورة، أو البلد، أو الشعب الذي شتت الطاغية، بل لـ»قمّ»، المركز الديني المعروف، وذلك لأنه يعلم كالجميع بأن الثورة الإيرانية ثورة دينية أولاً وأخيراً. وهو لا يغني، بل «يصلي»، إذا سمحتم لي باقتراح مفردات بديلة أراها أكثر دقة لأنها تتضمن ما يشبه الدعاء، لـ»قمِّ«، لا لأنها قامت بثورتها وحسب، بل كي تتحول في صبواته (صلواته): «نار عصف تطوف حول الخليج»، وطبعاً المقصود، الخليج العربي أو الفارسي لا داعي في هذه المناسبة للتحديد، وما حول الخليج الذي يصبو أدونيس أن تطوف به نار عصف الثورة الإيرانية، هو الدول الخليج العربية، العراق والكويت والسعودية وقطر والبحرين والإمارات، لينتهي المقطع على الطريقة التنبؤية الأدونيسية، فالشعر عند أدونيس رؤية ونبوءة، كما تعلمون: «وأقول المدى والنشيج»، بمعنى أن يعمَّ عصف النار كل المدى، ويعمّ النشيج!؟ وهنا، حقيقة، لا أدري أي حبّ، أي احتفاء بثورة، صبوات الشاعر تريدها أن تصل لهكذا نتيجة. فلو كانت نبوءة أدونيس، جاءت، مع السماح لي بتغيير القافية: «أقول المدى والنشيد» لكان الأمر مفهوماً ومبرراً. خصوصاً وأني لا أظن أن أدونيس الآن أو في الماضي، كان متأثراً بموجة العداء الصريح من الناصرية والبعثية والقومية واليسارية، للسعودية ودول الخليج من الكويت للإمارات لعمان، فما زلنا نسمع من يلقبون أناس هذه البلاد بلقب: «العقل» (بالقاف المعجمة)، ساخرين من محافظتهم على ارتداء العقال، وما زال بعضنا يذكر الشعارات التي كانت تكتب على جدران الجوامع وبوابات المدارس، وبخاصة في عقد الستينات، مثل: «أمريكا رأس الأفعى والسعودية ذنبها»، والتي لليوم قابلة لأن تعود وتظهر في مناسبة أو أخرى. ومن الأمثلة الراهنة على هذه النظرة، ما كتبه منار ديب في صحيفة قاسيون 23/3/2009، للملف الذي أعدته صحيفة الجزيرة السعودية عن الروائي والشاعر الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي، حيث وصف السعودية بأنها: «النظام الذي يقطع الرؤوس في الساحات، ويمنع المرأة من قيادة السيارة، ويستعبد العمال الأجانب، ويقيم أوثق التحالفات مع الإمبريالية وأعداء الشعوب»!؟ إذن الأسطوانة ما زالت صالحة، والأغنية المسجلة عليها سوف دائماً تبقى مفضلة، على ما يبدو بالنسبة للبعض، ما دامت السعودية غير محكومة من قبل حزب قومي مناضل أو يساري أممي!؟
ربما يعترض أحدهم ويقول: لماذا لا تعتبر ما يقوله أدونيس في هذه القصيدة، لا أكثر ولا أقل من تنبؤ، كما تنبأ مرة في قصيدته «قبر من أجل نيويورك»، بتفجير مركز التجارة العالمي، كما اكتشف البعض!؟ لماذا لا تعتبره تحذيراً، علينا أن نتنبه له، إنذاراً بنار تعصف، وكأنها نار نووية، بالخليج!؟ الرد هو أن النبوءة هنا، أقرب إلى الأمنية، والإنذار، أقرب إلى التهديد، فهو يقول: «أغني لقمٍّ لكي تتحول في صبواتي.. نار عصف..» وكأن أدونيس هنا يكرر استخدام إحدى أشهر جمله في قصيدة «مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف» كما أذكر: «جاء العصف الجميل ولم يأت الخراب الجميل». نعم أدونيس واحد من سلالة المخربين الكبار في تاريخ الثقافة والفكر العربي بالتأكيد. هو الذي يلقب نفسه: «لغم الحضارة/ هذا هو اسمي».
[3 ـ الرافض أبداً يقبل ويبارك!
أدونيس الرافض أبداً. إنه يريد أن يؤسس الحياة على الرفض، يؤسس الشعر والفكر والهوية وكل شيء على قاعدة السؤال والرفض. لكنه هنا لا يسأل، هنا يقبل، بل يحتفي، أعود وأكرر التعبير ذاته، بالثورة الإيرانية و(قمٍّ) والشعب الإيراني. ولا أدري أية تأثيرات حزبية «قومية سورية» بقيت قادرة من حين لآخر لأن تجعل منه شعوبياً، كما حين اتهمه مرة يوسف الخال في أحد رسائله، قائلاً له: «عد إلى الوحل» وهو ما أورده أدونيس في نهاية كتابه «الشعرية العربية» (دار العودة- بيروت-1985)، فها هو في المقطع الثالث والأخير في النص أعلاه يفسر ما يكتبه شعب إيران للعالم: «للشرقِ يكتبُ فاتحةَ الممكنات»، والسؤال: «ممكنات ماذا؟» لا نريد التوقف عنده، أمّا ما يكتبه شعب إيران للغرب: «شعبُ إيرانَ يكتبُ وجهُك يا غربُ مات». فأية نبوءة هذه وأية أمنية!؟ وماذا يجده أدونيس مستحقاً للتهليل في موت وجه الغرب، أية شرقية هذه تقوم على مجابهة الغرب والعداء له و.. قتله. ثم يأتي الأغرب من هذا كله، هذان السطران الأخيران في القصيدة، الأول في ركاكته، وكأنه كتب، وهذه الملاحظة تنطبق على القصيدة برمتها، أذكرها من باب إيجاد العذر للقصيدة ولصاحبها أكثر من توكيد حكم نقدي عنها، بتسرع واعتباطية شديدين. حيث يلاحظ أن الصفتين اللتين يصف بهما أدونيس شعب إيران: «شرقٌ ونبي» لا تصلحان للعطف، أي لا يصح جمعهما إلاّ بتساهل ما. كما أنه من الغريب القول، إن شعب إيران الذي ليس شعباً عربياً، وهذا ليس من باب العداء أو رفض الآخر، فالإيرانيون ليسوا عرباً، وتلك لعمري حقيقة لا أظن أحداً يخجل أو يقلقه شيء من تردادها، والإيرانيون أنفسهم، على ضروبهم كافة، شيعة أو سنة، لا يدعون أي عروبة، لا بل أذكر أنني حضرت ضمن مهرجان للسينما الإيرانية كان يقام في دمشق، قلب العروبة النابض، منذ عشرين سنة على الأقل، فيلماً إيرانياً عن الحرب مع العراق، فرأيت وسمعت فيه حشداً من الإيرانيين يتظاهرون في شوارع طهران وهم يسبون العرب ويلعنونهم. أقول إنه من الغريب أن يكون: «شعب إيران شرقٌ تأصَّلَ في أرضنا»، والـ(نا) هنا يقصد بها العرب، نحن العرب الذين يتوجه إليهم أدونيس بهذا الكلام! وهذا ما يؤكده أدونيس في السطر الثاني، من دون أي شك في تفسيري وفي تفسيره، لماذا شعب إيران شرقٌ تأصَّلَ في أرضنا ونبي؟ بكونه: «رفضُنا المؤسِّسُ، وميثاقُنا العربي». فيا له من تفسير أن يكون شعب ما رفضاً مؤسساً لشعب آخر، وميثاقاً لأمة أخرى.
[4 ـ حق الشاعر في النسيان
ليست غايتي من العودة لقصيدة أدونيس هذه والكتابة عنها، بعد خمس وثلاثين سنة من نشرها في صحيفة السفير، سنة 1979، المشاركة في رمي الحجارة على شجرة أدونيس الخضراء والمثمرة، كما يفعل غيري، أو النيل من أرائه ومواقفه مهما كانت، وخصوصاً في موقفه ذاك من الثورة الإيرانية الذي كنت، أعترف، أشاركه فيه ولو بصبوات مختلفة، كما أني أبعد الناس عن محاولة النيل من شخصه الكريم، هو الذي استقبلني مرة في بيته في بيروت، بكل تلك الحفاوة واللطف، مع أنه لم يكن يعرفني، ولكن أيضاً ببعض الحذر، فقد ناله من الأصدقاء، وبخاصة المقربين منهم، ما ناله، لأن هذه الأمور التي يقوم بها البعض بقصد الإساءة لشخصية أدبية كبيرة لأسباب ولغايات غير أدبية، كثيراً ما تنبع من ضغائن شخصية، ومشاعر غيرة وحسد للمكانة التي لا مثيل لها التي بات أدونيس يتمتع بها، عربياً وعالمياً، وغالباً أيضاً ما تؤدي إلى نتائج تعاكس تلك التي يأملونها منها، فمن يشتهر من الشعراء، هم من تكثر وتزيد عن حدها مهاجمتهم أدبياً وشخصياً، كما حصل للمتنبي مثلاً، وكما حصل لأحمد شوقي وجبران خليل جبران ونزار قباني، وكما حصل ويحصل لأدونيس أكثر من الجميع. ما كتبته لم يكن سوى إلقاء نظرة، وإبداء رأي، أو لأقل مراجعة سريعة، لما يمكن لشاعر، مهما بلغت مكانته وبلغت ثقافته، أن يقع من هفوات، ويا لها من هفوات، على الصعيد الشعري والصعيد الفكري بآن، خصوصاً عندما يورط نفسه وشعره في التعبير عن مواقف سياسية وشبه سياسية، لا علاقة له بها كشاعر. هذا ما أقوله لنفسي قبل أن أقوله لغيري، وقبل أن يقوله أحد لي، والبعض قد فعل وقاله لي صراحة، فالشعراء عامة يستسلمون لأهوائهم ونوازعهم، وفي الوقت نفسه لا يقبلون مساءلة من أحد، حتى أنفسهم. نعم ليس الشعراء من أولئك الناس الذين يضعون أنفسهم تحت أية مساءلة، أو يقبلون التقيد بأي شرط. حتى وإن اكتشفوا بعد حين أخطاءهم، مؤثرين أن ينسوا ما قالوه ذات يوم، ويمحوه، وإن لم يستطيعوا، نراهم يحاولون تقديم تفسير آخر له، وذلك كي يتجنبوا الاعتراف بأخطائهم، والاعتذار عنها. أما قال محمود درويش: «لا تعتذر عمّا فعلت» وصفق له الجمهور. ولكن هذه القصيدة لم يكتبها أدونيس وهو في التاسعة عشرة أو في الرابعة والعشرين من عمره، كما عندما كتب ملحمته: «قالت الأرض» التي كان بيتها الأخير:
قيل: كونٌ يُبنى. فقيل: بلادٌ
جُمِعت كلُّها، فكانت سعادة
وهي إشارة صريحة إلى أنطون سعادة مؤسس وزعيم الحزب السوري القومي الإجتماعي، الذي كان أدونيس في منتصف القرن الماضي ينتمي إليه، والتي عندما أعاد نشرها ضمن مجموعته الشعرية «قصائد أولى»، جاءت كمقاطع مرقمة من /1 إلى 41/ حاذفاً منها مقاطع عديدة، السطر الأخير هذا كان من إحداها.. أمّا قصيدة «تحية إلى الثورة الإيرانية» فقد كتبها أدونيس عام 1979 وهو في عمر الثامنة والأربعين، أي العمر الذي عبر خلاله أدونيس الكثير من الأحداث والكثير من التجارب، الكبيرة والأليمة، الشخصية والعامة، وصار من المتوقع منه ألاّ يتأثر وينفعل بالأشياء كما تتراءى له لأول مرة لحظة ظهورها. وأظن أن أدونيس نفسه، كان يعتبر هذه القصيدة، كما عنوانها، تحية، لا أكثر، فهو لم يضمنها في أعماله الشعرية الكاملة بطبعاتها المتعددة، ولا في أي من مجموعاته الشعرية المفردة، التي أتباهى بامتلاكي الطبعات الأولى النادرة لها، ومنها مجموعة «المسرح والمرايا» ومجموعة «كتاب التحولات والهجرة بين أقاليم النهار والليل» وكذلك «أغاني مهيار الدمشقي»، المجموعة الأحبّ إليّ، طبعة مجلة مواقف، وهي تحتل مع باقي كتبه رفّاً كاملاً من مكتبتي الشعرية، المحتلة كلّ رفوفها، أصلاً، بمزاجي الشعري الخاص، والخاضعة لشرطي الخاص في أن ما يستحق الاحتفاظ به من كتب الشعر، هو ما يعود أمثالي إليه، كما يعودون لامرأة، على حد قول أنسي الحاج عن مجموعة توفيق الصائغ الأولى (ثلاثون قصيدة-1958)، أو كما يعود الجميع، ناجحين وفاشلين، قبل الموت وبعده.. للوطن..
بودابست ـ رومانيا
نوافذ
خمسة استهلالات
1- «شاعر سوري مبدع هو أدونيس، هزته الثورة الخمينية في إيران، وأظهرت أكثر نوازعه الدينية تأصلاً، فإذا به يبرر عدم فصل الحقل السياسي ليس عن الدين عموماً، وإنما عن دين بعينه هو الإسلام». وائل السواح (الأوان 6-9-2007).
2- «جاء العصفُ الجميلُ ولم يأتِ الخرابُ الجميل... أنا ساعة الهتك العظيم أتتْ وخلخلة العقول» أدونيس/ من قصيدة «مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف»1970
3- «لا أعرف أن أبكي، لو أنني أعرف لكنت حولت عيني إلى ينبوعين من الدمع، جنوبي في درعا، وشمالي في بانياس وجبلة». أدونيس (جريدة الحياة 2011).
4- «أنا مع الحراك الثوري مهما كانت النتائج، لأن هذا الحراك هو في حد ذاته دليل على حيوية الشعب ودليل على تشبثه بالحرية وتشبثه ببناء مستقبل مختلف» أدونيس (موقع القنطرة 2011).
5- «لا هيمنة في الأخير إلا للحرية، ولا أمن في الأخير إلا بالحرية». أدونيس «رسالة مفتوحة إلى الرئيس» (صحيفة السفير 2011).
[1ـ الشعراء يقولون ما لا يعلمون!
وكأن الشاعر لا يكفيه الشعر!؟ فتراه، يحشر أنفه في ما يجب وفي ما لا يجب! وإذا كان تورط الشاعر في ما لا يجب، أمر لا يختلف، في نتائجه السلبية على إبداعه وعليه شخصياً، سوى في اختلاف البشر في تحديد ما يجب وما لا يجب، فإن تدخله المحمود في ما يجب عليه أن يتدخل به، هو بدوره أمر محفوف بالمطبات والمخاطر.. ذلك أن الشاعر، حينها يخرج من منطقة اختصاصه ويدخل في اختصاصات سواه، أي خارج دائرة خبراته ومعارفه، إن لم أقل خارج طبيعته، وأكثر ما يغوي ويجذب الشعراء من أمور، على مدى التاريخ، وبخاصة في البلاد التي يتحكم بها الاستبداد، هي السياسة! الأبعد عن الشعراء بعدها عن أي صنف آخر من البشر، لكونها حقلاً له أمراؤه وأسياده، أمّا ما تلك المقولة الشهيرة التي ثبتها المفكر الحداثي الإنكليزي تيري إيغلتون في خاتمة كتابه «فكرة الثقافة»: «.. في وقت غدت الثقافة، في أنظمة الحكم السلطوية.. شكلاً أساسياً من أشكال الخروج والتمرد السياسي، حيث انتقلت عباءة المقاومة من المناضلين السياسيين إلى الشعراء». فإنها تبين وبكل دقة تمييز ايغلتون العمل الثقافي عن العمل السياسي، ملقياً على أكتاف الشعراء عباءة المقاومة لا عباءة السياسة ذاتها.
يقدم أدونيس في «تحية إلى الثورة الإيرانية» نموذجاً عربياً في غاية المثالية، وإن ليس في غاية الندرة، لتورط الشاعر في موضوع لا معرفة له فيه، جملةً وتفصيلاً. تاريخاً وحاضراً، فبأفضل الأحوال وصلته بعض أخبار الثورة الإيرانية خلال قيامها ثم نجاحها وإطاحتها بالشاه، فاحتفى الرجل بهذا الثورة وكتب تحيته هذه. إلاَّ أن أدونيس، كما سيبدو، لم يكتف بتحية ثورة وشعب، بل، وهنا المشكلة، راح يحمّل هذه الثورة كل صبواته، والشعب الإيراني كل أمانيه. وأحسب أن الوضع الإيراني القائم، وما بات معروفاً عن طبيعة نظام الملالي وولاية الفقيه من محافظة وعودة للماضي وتضييق على الحريات، أبعد ما يكون عن منهاج أي ثورة ذات أفق مستقبلي، وما استتبع ذلك من فساد واستبداد وقمع لفئات واسعة من الشعب، نتيجته ما حدث في الانتخابات الأخيرة والاحتجاجات الشعبية الكبيرة التي تلت، وبخاصة في قطاعي الشباب والمرأة، هذا وغيره جاء تأكيداً لخطل أدونيس في احتفائه المباشر، بالثورة الإيرانية، وأظن أن أدونيس نفسه يوافقني الآن بأنها قد خيبت أمله وآمال الكثيرين من العرب وغير العرب الذين شاركوه احتفاءه بها. أما ما يعيد عقد هذه الآمال كلها، إن لم يكن ثورة مضادة، فليس أقل من حركة إصلاح شاملة يقوم بها الشعب الإيراني الرائع نفسه مع قادته الإصلاحيين الكبار ممن نعرف كخاتمي وموسوي وسواهم، وممن لا نعرف وسيبرز في مجرى الأيام والأحداث..
تحيةٌ إلى الثورةِ الإيرانية
أفقٌ، ثورةٌ، والطغاةُ شَتات
كيفَ أروي لإيرانَ حبي
والذي في زفيري
والذي في شهيقي
تعجزُ عن قولِهِ الكلمات.
-
سأُغنّي لقُمٍّ لكي تتحولَ في صبواتي
نارَ عصفٍ، تطوفُ حولَ الخليج
وأقولُ المدى والنشيج.
...
شعبُ إيرانَ يكتبُ للشرقِ فاتحةَ الممكنات
شعبُ إيرانَ يكتبُ للغربِ وجهُكُ يا غربُ مات
شعبُ إيرانَ شرقٌ تأصلَّ في أرضنا ونبي
إنه رفضُنا المؤسِسُ، ميثاقُنا العربي.)
أدونيس (صحيفة السفير 1979).
2- أي تحية وأي شاعر
غريبة هذه القصيدة التي كتبها أدونيس احتفاء بالثورة الإيرانية، ونشرت مرة واحدة فقط بصحيفة السفير اللبنانية سنة 1979، ثم اختفت. فلم تتضمنها أي من مجموعات أدونيس الشعرية أو غير الشعرية، كتلك الكتب التي يجمع بها مقالاته وتأملاته وخواطره. غريبة كشعر، وغريبة كأفكار. وغريب أكثر أن يكون صاحبها أدونيس، «سيد الحداثة الشعرية العربية دون منازع»! نعم أنا أصدق هذا. أو ربما يصحُّ أكثر السؤال، من له أن يكتب قصائد كهذه سوى شعراء كبار، كأحمد شوقي، والجواهري، وأدونيس.. ونزار قباني، مثلاً عندما كتب عن قيام ما سمِّي الميثاق بين سوريا والعراق، ثم ما لبث وأن ألغي لادعاء العراقيين أن السوريين كانوا يعدون لهم مقلباً، فالشعراء في غمرة انفعالاتهم وحماستهم يتركون لألسنتهم أن تنطق على هواها. أقول ألسنتهم ولا أقول أقلامهم، لأن القلم، معدن وخشب وحبر، طبيعته أن يفكر، أن يتأنى، أن يختار. لكن اللسان، لحم ودم وأعصاب، يشطح مع اللحظة، ينفعل، مطابقاً القلب والهوى. إلاّ أن هناك من يقول إن كان صحيحاً أن الشعر يحار بين أن يكون ابن اللسان أو ابن القلب، فليس له أبداً أن يكون ابن العقل!
ولكن كيف لشاعر بمستوى أدونيس، بترفعه عن كل ما يعمّ ويخمّ، بعد السطر الأول المحتشد بأربع كلمات ثقيلة المعاني: (أفقٌ، ثورةٌ، والطغاةُ شتات)، الذي يطرح السؤال: لماذا وضع كلمة (أفق) بدايةً!؟ فالثورة قد حصلت، وتمَّ تشتت الطغاة، فالشاه المخلوع بقي لفترة طويلة مشتتاً تتقاذفه الدول والعواصم، التي كانت تفرش له سابقاً البساط الأحمر من باب الطائرة إلى باب المطار، فلم تقبله أن يحلَّ فيها كل من فرنسا وإيطاليا ولا حتى الولايات المتحدة الأميركية، التي يتهمه البعض بالعمالة لها، ويزيدون بأنها خذلته، حتى حطَّ في مصر بدعوة من رئيسها المؤمن محمد أنور السادات، ومكث فيها حتى مات. ولكن يبدو في ملة أدونيس واعتقاده، إن ما حصل؛ الثورة، وتشتت الطغاة، ليس سوى البداية، وإن لها أفقاً أبعد من هذا تصبو إليه، أفما كان يمكنه أن يقول، كاقتراح لا أكثر: (ثورةٌ،...، أفقٌ)!؟. لكننا نعلم أن «أفق» كمفردة، وكدلالة، لها وقعها في القاموس الأدونيسي، ومن الجيد بعرفه، استخدامها كلما أتاحت الفرصة، وربما يجد أدونيس أنه شيء جيد أن يبتدئ بها. غير أن مصدر استغرابي، هو كيف لشاعر بمستواه وخبرته، أن ينتقل مباشرة بعد هذا السطر إلى: «كيف أروي لإيران حبي»، أقصد، من دون توطئة كافية لهذا الانتقال. مع الانتباه إلى أن استخدامه لفعل «أروي» لا يصحّ إذا أعملنا الحرص على الدقة والسدادة في التعبير، إلا بإضافة كلمة حكاية أو قصة أو سيرة، لتصير: «كيف أروي قصة حبي» مثلاً! غير أن أدونيس، الشاعر الكاره للتفاسير والشروحات كما نعرفه، يفسر، ويشرح لنا، أن سبب هذا السؤال، الذي سمح لنفسه به، علماً بأنه يُسمح للجميع بهذا ما عدا الشعراء الذين مهمتهم في الأصل، مهنتهم، لأنهم سادة الكلام، أن يجدوا دائماً السبل القادرة على التعبير عن أي شيء، هو أن: «الذي في زفيري والذي في شهيقي تعجز عن قولهِ الكلمات»، فأي حبٍّ لإيران، كبير، عميق، جارف، تعجز عن قوله الكلمات!؟ ثم أي مستوى شعري بسيط يظهره هذا التساؤل البالغ السذاجة، والذي عادة ما يستخدم من قبل هواة الشعر والمبتدئين، الذين يرددون دائماً ما معناه: كيف أصف، كيف أعبر، كيف أقدر على قول، ما تعجز عن قوله الكلمات!
[2ـ نبوءات أم صَبوات؟
المقطع الثاني الذي يبدو وكأن أدونيس لا يستطيع به كبح جماح عواطفه، ولن أجاري وائل سواح هنا وأقول، نوازعه، يبدأه بـ»سأغني». ليس للثورة، أو البلد، أو الشعب الذي شتت الطاغية، بل لـ»قمّ»، المركز الديني المعروف، وذلك لأنه يعلم كالجميع بأن الثورة الإيرانية ثورة دينية أولاً وأخيراً. وهو لا يغني، بل «يصلي»، إذا سمحتم لي باقتراح مفردات بديلة أراها أكثر دقة لأنها تتضمن ما يشبه الدعاء، لـ»قمِّ«، لا لأنها قامت بثورتها وحسب، بل كي تتحول في صبواته (صلواته): «نار عصف تطوف حول الخليج»، وطبعاً المقصود، الخليج العربي أو الفارسي لا داعي في هذه المناسبة للتحديد، وما حول الخليج الذي يصبو أدونيس أن تطوف به نار عصف الثورة الإيرانية، هو الدول الخليج العربية، العراق والكويت والسعودية وقطر والبحرين والإمارات، لينتهي المقطع على الطريقة التنبؤية الأدونيسية، فالشعر عند أدونيس رؤية ونبوءة، كما تعلمون: «وأقول المدى والنشيج»، بمعنى أن يعمَّ عصف النار كل المدى، ويعمّ النشيج!؟ وهنا، حقيقة، لا أدري أي حبّ، أي احتفاء بثورة، صبوات الشاعر تريدها أن تصل لهكذا نتيجة. فلو كانت نبوءة أدونيس، جاءت، مع السماح لي بتغيير القافية: «أقول المدى والنشيد» لكان الأمر مفهوماً ومبرراً. خصوصاً وأني لا أظن أن أدونيس الآن أو في الماضي، كان متأثراً بموجة العداء الصريح من الناصرية والبعثية والقومية واليسارية، للسعودية ودول الخليج من الكويت للإمارات لعمان، فما زلنا نسمع من يلقبون أناس هذه البلاد بلقب: «العقل» (بالقاف المعجمة)، ساخرين من محافظتهم على ارتداء العقال، وما زال بعضنا يذكر الشعارات التي كانت تكتب على جدران الجوامع وبوابات المدارس، وبخاصة في عقد الستينات، مثل: «أمريكا رأس الأفعى والسعودية ذنبها»، والتي لليوم قابلة لأن تعود وتظهر في مناسبة أو أخرى. ومن الأمثلة الراهنة على هذه النظرة، ما كتبه منار ديب في صحيفة قاسيون 23/3/2009، للملف الذي أعدته صحيفة الجزيرة السعودية عن الروائي والشاعر الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي، حيث وصف السعودية بأنها: «النظام الذي يقطع الرؤوس في الساحات، ويمنع المرأة من قيادة السيارة، ويستعبد العمال الأجانب، ويقيم أوثق التحالفات مع الإمبريالية وأعداء الشعوب»!؟ إذن الأسطوانة ما زالت صالحة، والأغنية المسجلة عليها سوف دائماً تبقى مفضلة، على ما يبدو بالنسبة للبعض، ما دامت السعودية غير محكومة من قبل حزب قومي مناضل أو يساري أممي!؟
ربما يعترض أحدهم ويقول: لماذا لا تعتبر ما يقوله أدونيس في هذه القصيدة، لا أكثر ولا أقل من تنبؤ، كما تنبأ مرة في قصيدته «قبر من أجل نيويورك»، بتفجير مركز التجارة العالمي، كما اكتشف البعض!؟ لماذا لا تعتبره تحذيراً، علينا أن نتنبه له، إنذاراً بنار تعصف، وكأنها نار نووية، بالخليج!؟ الرد هو أن النبوءة هنا، أقرب إلى الأمنية، والإنذار، أقرب إلى التهديد، فهو يقول: «أغني لقمٍّ لكي تتحول في صبواتي.. نار عصف..» وكأن أدونيس هنا يكرر استخدام إحدى أشهر جمله في قصيدة «مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف» كما أذكر: «جاء العصف الجميل ولم يأت الخراب الجميل». نعم أدونيس واحد من سلالة المخربين الكبار في تاريخ الثقافة والفكر العربي بالتأكيد. هو الذي يلقب نفسه: «لغم الحضارة/ هذا هو اسمي».
[3 ـ الرافض أبداً يقبل ويبارك!
أدونيس الرافض أبداً. إنه يريد أن يؤسس الحياة على الرفض، يؤسس الشعر والفكر والهوية وكل شيء على قاعدة السؤال والرفض. لكنه هنا لا يسأل، هنا يقبل، بل يحتفي، أعود وأكرر التعبير ذاته، بالثورة الإيرانية و(قمٍّ) والشعب الإيراني. ولا أدري أية تأثيرات حزبية «قومية سورية» بقيت قادرة من حين لآخر لأن تجعل منه شعوبياً، كما حين اتهمه مرة يوسف الخال في أحد رسائله، قائلاً له: «عد إلى الوحل» وهو ما أورده أدونيس في نهاية كتابه «الشعرية العربية» (دار العودة- بيروت-1985)، فها هو في المقطع الثالث والأخير في النص أعلاه يفسر ما يكتبه شعب إيران للعالم: «للشرقِ يكتبُ فاتحةَ الممكنات»، والسؤال: «ممكنات ماذا؟» لا نريد التوقف عنده، أمّا ما يكتبه شعب إيران للغرب: «شعبُ إيرانَ يكتبُ وجهُك يا غربُ مات». فأية نبوءة هذه وأية أمنية!؟ وماذا يجده أدونيس مستحقاً للتهليل في موت وجه الغرب، أية شرقية هذه تقوم على مجابهة الغرب والعداء له و.. قتله. ثم يأتي الأغرب من هذا كله، هذان السطران الأخيران في القصيدة، الأول في ركاكته، وكأنه كتب، وهذه الملاحظة تنطبق على القصيدة برمتها، أذكرها من باب إيجاد العذر للقصيدة ولصاحبها أكثر من توكيد حكم نقدي عنها، بتسرع واعتباطية شديدين. حيث يلاحظ أن الصفتين اللتين يصف بهما أدونيس شعب إيران: «شرقٌ ونبي» لا تصلحان للعطف، أي لا يصح جمعهما إلاّ بتساهل ما. كما أنه من الغريب القول، إن شعب إيران الذي ليس شعباً عربياً، وهذا ليس من باب العداء أو رفض الآخر، فالإيرانيون ليسوا عرباً، وتلك لعمري حقيقة لا أظن أحداً يخجل أو يقلقه شيء من تردادها، والإيرانيون أنفسهم، على ضروبهم كافة، شيعة أو سنة، لا يدعون أي عروبة، لا بل أذكر أنني حضرت ضمن مهرجان للسينما الإيرانية كان يقام في دمشق، قلب العروبة النابض، منذ عشرين سنة على الأقل، فيلماً إيرانياً عن الحرب مع العراق، فرأيت وسمعت فيه حشداً من الإيرانيين يتظاهرون في شوارع طهران وهم يسبون العرب ويلعنونهم. أقول إنه من الغريب أن يكون: «شعب إيران شرقٌ تأصَّلَ في أرضنا»، والـ(نا) هنا يقصد بها العرب، نحن العرب الذين يتوجه إليهم أدونيس بهذا الكلام! وهذا ما يؤكده أدونيس في السطر الثاني، من دون أي شك في تفسيري وفي تفسيره، لماذا شعب إيران شرقٌ تأصَّلَ في أرضنا ونبي؟ بكونه: «رفضُنا المؤسِّسُ، وميثاقُنا العربي». فيا له من تفسير أن يكون شعب ما رفضاً مؤسساً لشعب آخر، وميثاقاً لأمة أخرى.
[4 ـ حق الشاعر في النسيان
ليست غايتي من العودة لقصيدة أدونيس هذه والكتابة عنها، بعد خمس وثلاثين سنة من نشرها في صحيفة السفير، سنة 1979، المشاركة في رمي الحجارة على شجرة أدونيس الخضراء والمثمرة، كما يفعل غيري، أو النيل من أرائه ومواقفه مهما كانت، وخصوصاً في موقفه ذاك من الثورة الإيرانية الذي كنت، أعترف، أشاركه فيه ولو بصبوات مختلفة، كما أني أبعد الناس عن محاولة النيل من شخصه الكريم، هو الذي استقبلني مرة في بيته في بيروت، بكل تلك الحفاوة واللطف، مع أنه لم يكن يعرفني، ولكن أيضاً ببعض الحذر، فقد ناله من الأصدقاء، وبخاصة المقربين منهم، ما ناله، لأن هذه الأمور التي يقوم بها البعض بقصد الإساءة لشخصية أدبية كبيرة لأسباب ولغايات غير أدبية، كثيراً ما تنبع من ضغائن شخصية، ومشاعر غيرة وحسد للمكانة التي لا مثيل لها التي بات أدونيس يتمتع بها، عربياً وعالمياً، وغالباً أيضاً ما تؤدي إلى نتائج تعاكس تلك التي يأملونها منها، فمن يشتهر من الشعراء، هم من تكثر وتزيد عن حدها مهاجمتهم أدبياً وشخصياً، كما حصل للمتنبي مثلاً، وكما حصل لأحمد شوقي وجبران خليل جبران ونزار قباني، وكما حصل ويحصل لأدونيس أكثر من الجميع. ما كتبته لم يكن سوى إلقاء نظرة، وإبداء رأي، أو لأقل مراجعة سريعة، لما يمكن لشاعر، مهما بلغت مكانته وبلغت ثقافته، أن يقع من هفوات، ويا لها من هفوات، على الصعيد الشعري والصعيد الفكري بآن، خصوصاً عندما يورط نفسه وشعره في التعبير عن مواقف سياسية وشبه سياسية، لا علاقة له بها كشاعر. هذا ما أقوله لنفسي قبل أن أقوله لغيري، وقبل أن يقوله أحد لي، والبعض قد فعل وقاله لي صراحة، فالشعراء عامة يستسلمون لأهوائهم ونوازعهم، وفي الوقت نفسه لا يقبلون مساءلة من أحد، حتى أنفسهم. نعم ليس الشعراء من أولئك الناس الذين يضعون أنفسهم تحت أية مساءلة، أو يقبلون التقيد بأي شرط. حتى وإن اكتشفوا بعد حين أخطاءهم، مؤثرين أن ينسوا ما قالوه ذات يوم، ويمحوه، وإن لم يستطيعوا، نراهم يحاولون تقديم تفسير آخر له، وذلك كي يتجنبوا الاعتراف بأخطائهم، والاعتذار عنها. أما قال محمود درويش: «لا تعتذر عمّا فعلت» وصفق له الجمهور. ولكن هذه القصيدة لم يكتبها أدونيس وهو في التاسعة عشرة أو في الرابعة والعشرين من عمره، كما عندما كتب ملحمته: «قالت الأرض» التي كان بيتها الأخير:
قيل: كونٌ يُبنى. فقيل: بلادٌ
جُمِعت كلُّها، فكانت سعادة
وهي إشارة صريحة إلى أنطون سعادة مؤسس وزعيم الحزب السوري القومي الإجتماعي، الذي كان أدونيس في منتصف القرن الماضي ينتمي إليه، والتي عندما أعاد نشرها ضمن مجموعته الشعرية «قصائد أولى»، جاءت كمقاطع مرقمة من /1 إلى 41/ حاذفاً منها مقاطع عديدة، السطر الأخير هذا كان من إحداها.. أمّا قصيدة «تحية إلى الثورة الإيرانية» فقد كتبها أدونيس عام 1979 وهو في عمر الثامنة والأربعين، أي العمر الذي عبر خلاله أدونيس الكثير من الأحداث والكثير من التجارب، الكبيرة والأليمة، الشخصية والعامة، وصار من المتوقع منه ألاّ يتأثر وينفعل بالأشياء كما تتراءى له لأول مرة لحظة ظهورها. وأظن أن أدونيس نفسه، كان يعتبر هذه القصيدة، كما عنوانها، تحية، لا أكثر، فهو لم يضمنها في أعماله الشعرية الكاملة بطبعاتها المتعددة، ولا في أي من مجموعاته الشعرية المفردة، التي أتباهى بامتلاكي الطبعات الأولى النادرة لها، ومنها مجموعة «المسرح والمرايا» ومجموعة «كتاب التحولات والهجرة بين أقاليم النهار والليل» وكذلك «أغاني مهيار الدمشقي»، المجموعة الأحبّ إليّ، طبعة مجلة مواقف، وهي تحتل مع باقي كتبه رفّاً كاملاً من مكتبتي الشعرية، المحتلة كلّ رفوفها، أصلاً، بمزاجي الشعري الخاص، والخاضعة لشرطي الخاص في أن ما يستحق الاحتفاظ به من كتب الشعر، هو ما يعود أمثالي إليه، كما يعودون لامرأة، على حد قول أنسي الحاج عن مجموعة توفيق الصائغ الأولى (ثلاثون قصيدة-1958)، أو كما يعود الجميع، ناجحين وفاشلين، قبل الموت وبعده.. للوطن..
بودابست ـ رومانيا
نوافذ
ليست هناك تعليقات