Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

محمد محمد خطابي(مُرَّاكُش الحَمْرَاء… عِنْدَمَا يَغْدُو المَاضِي حَاضِراً!)

غرناطة ـ «القدس العربي» : اختيرت مدينة مراكش مؤخراً من طرف أحد المواقع العالمية للسّياحة (Travelers’ Choice Awards 2015 ) كأوّل وِجْهة سي...



غرناطة ـ «القدس العربي»: اختيرت مدينة مراكش مؤخراً من طرف أحد المواقع العالمية للسّياحة (Travelers’ Choice Awards 2015 ) كأوّل وِجْهة سياحيّة في العالم من بين 25 مدينة، متجاوزةً مدناً مثل إستانبول ولندن وباريس وروما، وهذا ما كان قد أكّده منذ بضع سنوات الكاتب الإسباني فِرْنَانْدُو دِيَاثْ بْلاَخَا، من أنّ هذه المدينة التي تُلقّب بالبّهجة هي من أكثر المدن المغربية جذباً للسيّاح، على امتداد الحَوْل من مختلف أنحاء العالم. يرى هذا الكاتب أنّ التاريخ في هذه المدينة العريقة ما يزال حيّاً نابضاً، محتفظاً بأصالته وماضيه وبريقه وإشعاعه وعاداته وتقاليده وعوائده منذ عدّة قرون خلتْ، وهو يؤكّد إنّه إذا كان هناك مكان في العالم أصبح فيه ماضيه حاضره، وتوقّف فيه العصر الوسيط بكلّ سِحره ورونقه وبهائه وأساطيره وخياله، فإنّ هذا المكان هو المغرب، وهو يستدلّ بذلك على مدى حقيقة التقارب والتداني اللذين يطبعان الشعبين الإسباني والمغربي، بحكم تاريخهما المشترك، والموقع الجغرافي المتميّز للبلدين، خاصّةً بعد أن تشبّعت واغترفت أوروبّا، وشبه الجزيرة الإيبيرية وإسبانيا، على وجه الخصوص، من الإشعاع الحضاري والثقافي الإسلامي الزّاهر زهاءَ ثمانية قرون.
ويؤكّد الكاتب في هذا السياق أنّ لإسبانيا مع جيرانها الثلاثة – فرنسا والبرتغال والمغرب – مُعايشات، وصَوْلات، وجَولات، وذِكريات لمعارك، ومُواجهات انتصرت في بعضها وانهزمت في أخرى، فبالنسبة لفرنسا ما زال الإسبان يذكرون غزو نابليون لإسبانيا عام 1808 ومحاولته تنصيب أخيه خوسّيه بونابارتي على التاج الإسباني. ومع البرتغال ما فتئ التاريخ يذكّرنا ولو بغير حدّة هذه المرّة «بحرب البرتقال» التي أعلنها السّخيف مانويل غودوي ضد إسبانيا وفرنسا عام 1801. في حين كانت مواجهات وعراك الإسبان مع المغرب أطولَ وأكثرَ شراسةً وضراوةً وقسوةً وعِناداً..!

الغَوْصُ في ثَبَجِ التَّارِيخ
ويشير الكاتب: «ولنتوقّف في القرن العشرين المنصرم، ناسين، أو متناسين الحملة الأفريقية التي شاء وصادف الحظّ أن سُجِّلت بواسطة قلم «ألاركون»، ورُسِمت بريشة الفنّان فورتوني، إنّه على امتداد هذا القرن لا تكاد تمرّ خمس أو عشر سنوات من دون أن يشعر الإسبان بوجود أو حضور جارنا في الجنوب (المغرب) بين ظهرانينا: ففي عام 1909 برّانكو ديل لوبو (وادي الذئب) أو أغزار نأوُشّن، (حسب اسمه الأمازيغي الأصلي) وفي عام 1921 معركة أنوال الشهيرة، وفي عام 1934 مغاربة في أستورياس، وفي 1936 مغاربة في كلّ مكان، (خلال الحرب الأهلية الإسبانية التي اشتعل فتيلها عام 1936 ووضعت أوزارها عام 1939)، وفي 1956 هجوم على سيدي إيفني، وفي عام 1975 المسيرة الخضراء… واليوم المطالبة بسبتة ومليلية، والجزر المحاذية للسّواحل المغربية .
على الرّغم من كلّ ما سبق، وحسب هذا الكاتب، فإنّ المواطن الإسباني العادي لا يشعر بأيّ نوع من الحقد والضغينة نحو «المغاربة» الذين اعتاد الإسبان أن يدعوهم بشكل عشوائي ومُبهم وببساطة الإخوة «لُوسْ مُورُوسْ»، كما لو كانت أواصر الدم أقوى وأمتن وأعمق من ذكريات الحرب، والمواجهة والمناوشات.
إنّ المواطن الإسباني يذهب إلى المغرب بواعز قويّ، وبفضول غريب وبتطلّعٍ ولهفة، وهو بذلك يبدو وكأنّه يشرئبّ بعنقه على شفا الزّمن ويطلّ على حافة تاريخه الشخصي، أو ماضيه المشترك مع هذا البلد الجار.

بين فاسُ وقرطبة
فى معرض حديث الكاتب عن حاضرة فاس نجده يشير بالحرف الواحد: «أوقفتُ المرشدَ السياحيّ عندما هممنا بالدخول في زقاقٍ ضيّقٍ جدّا من أزقّة هذه المدينة العتيقة والعريقة، وأنا أشير إلى عود أو عمود من الخشب يتوسّط الزّقاق، وقلت له:
– هذا الشارع الضيّق يُغلق بالليل، أليس كذلك..؟
- أجل، ولكن كيف عرفتَ ذلك..؟
-لأنّ هذا ما كان يفعله سكّان قرطبة بالضبط في القرن الثاني عشر.
نعم إنّ الماضي جاثم وقائم وماثل وكائن هنا. إنّ المغاربة عندما يطلقون البارود في الهواء الطلق، فإنّما هم يقومون بنوع من العروض العسكرية التقليدية التي تصفها لنا المذكرات التاريخية القديمة العائدة للقرون الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر. إنّ المغرب بأجمعه إنّما هو نقلة نحو الأمس، والتجوال في مدينة مرّاكش على سبيل المثال هو نوع من الانبعاث عبر نفق الزّمن الغابر. كلّ شيء فيه يبدو ساكناً، ثابتاً وراسخاً في الذاكرة والوجدان، وفي الواقع، والحاضر كذلك، إنّ المغرب هو المكان الوحيد في العالم الذي ليس فيه مجال لتكرار الصّور، وتوارد المعالم العمرانية والمآثر التاريخية، لتنوّعها وتعدّد المناظر فيه وثرائها.
يقول الكاتب: إنّني إذا ما بنيتُ قصراً في المرتفعات والآكام الجبلية الإسبانية العالية، فإنّ ذلك سيكون مثيراً للسّخرية، إلاّ أنني إذا شيّدتُ منزلاً من هذا القبيل في مراكش- كما فعل بعضُ أصدقائي الإسبان، وغير الإسبان- فإنّ أحداً لن يضحك على محاولتي لإعادة استحضار الماضي، ذلك أنّ الماضي في المغرب لم يمت. وهكذا فإنّ العمّال الذين سَتُسْندُ إليهم مهمّة بناء الدارلا ينحدرون فقط من أصل هؤلاء العمّال الذين سبق لهم أن شيّدوا دورَ، وقصورَ، ومنازلَ قرطبة وغرناطة، بل إنهم سوف يقومون بهذا العمل المعماريّ بصبر، وأناة، وفنيّة، وحرفيّة، ومهارة أولئك نفسها.
(إنّ المسلم الذي يبني ….
مائة مثقال «دوبلاس»
كان يكسب في النّهار….
واليوم الذي كان لا يعمل فيه …
القدر نفسه كان يخسره كذلك..).
ويضيف الكاتب قائلاً «بل أنّهم سوف يستعملون المواد، والأدوات نفسَها التي اسْتُعملت في قرطبة وغرناطة. إنّهم سوف يعيدون اللّمسة والمهارة العريقتين القديمتين المتوارثتين سواء بالنسبة لهؤلاء الذين يشتغلون بالطّوب، أو بالفخار، أو الرّخام، أو بالفضّة، أو الذهب أو الخشب.

سّاحَةُ جَامَع الفْنَا.. تُراث إنساني
إذا كانت «ساحة جامع الفنا» الشهيرة في مدينة مرّاكش قد أصبحت تراثاً إنسانياً اليوم، تحت رعاية منظّمة اليونسكو العالمية، فالفضل في ذلك كما هو معروف يعود للكاتب الإسباني المعروف خوان غويتيسولو، الحاصل على جائزة سيرفانتيس في الآداب الإسبانية مؤخراً، هذا الكاتب الذائع الصّيت اختار هذه المدينة السّاحرة مكاناً أثيراً لإقامته وعيشه وإبداعاته، ويقول الكاتب فرناندو ديّاث بلاخا، كما قال العديد من الكتّاب العالميّين قبله: «إنه لكي نغوص في عمق التاريخ، ونجول في الماضي البعيد، ونتسربل بردائه ينبغي لنا أن نقوم بإطلالة على السّاحة العمومية الكبرى في مرّاكش التي يطلق عليها سكّان هذه المدينة إسم «ساحة جامع الفنا»، فساعة يدنا في هذا المكان السّحري قد تتحوّل في رمشة عين إلى ساعة شمسية، أو مائية، أو رملية، إذ نشعر ونحن في خضمّها أنّنا قد عُدنا القهقرى مئات السنين، إنّها السّاحة التي تُرْوىَ فيها قصيدة « السّيد» و»لاثيليستينا» و»كورباتشّو»، إنها ساحة شاسعة، واسعة، كاملة، وشاملة تماما كما كانت موجودة من قبل عندما كان عنصرعدم الرّاحة غير متوفّر في الدّور والقصور وفي المساكن والمنازل، فإنّ هذه الأخيرة كانت تقذف بالناس منذ الصّباح الباكر إلى الشّارع، حيث تتجسّد الحياةُ الدائمة الدّائبة اليومية للمواطن العادي، هناك يمكنك أن تأكل وتشرب وتفاوض وتناقش، أو أن تلهو. الكبار من أجل المال وقوت اليوم، والصّغار من أجل التسلّي، وفوق ذلك كلّه ترى أشياءَ مثيرة في أغرب عروض حلقية (نسبة إلى الحِلْقة) في العالم، حيث يغدو الشارعُ شبيهاً بسيرك كبير مباشر مقسّم إلى أطراف، وأجزاء، إلى أناس يتجمهرون زرافاتٍ ووحداناً في كلّ مكان، تتوفّر فيه جميع الأذواق التي تستجيب لكلّ الرّغبات، والأهواء وتُرضي كلَّ الأعمار. هناك تجد الرّجال البهلوانيين، ومروّضي الدّببة (كذا)، والقردة، والمعز، هناك يوجد الباعة والمشترون تتخلّلها تلك المناقشات و»الشطارة» اليومية، و»المساومة» الدائمة التي لا تنتهي حول الأسعار التي تشكّل جزءاً مهمّا جدّاً من الحياة الاجتماعية اليومية للمواطن المغربي، وللأجانب كذلك في زمننا الحاضر.
- حفظك الله يا رجل، كيف ترفض شراءَ شئٍ، فقط لأنه قيل لك أنه باهظ الثمن..؟
إنّكم سوف تهينون البائعَ حتى الموت، هذا الذي يساوم بدوره حتّى على كأس الشّاي، سبب وجوده وقوته اليومي..!

أُذُنُ بشّارالعَاشِقَة
إنّنا واجدون هناك علاوةً على ما سبق كذلك هؤلاء الذين يجمعون بين ماضي الأمس، وحاضر اليوم. إنهم «الحلائقيّون» الذين يروون أبهى القصص الخيالية، وينسجون أغربَ الحكايات الأسطورية تماماً كما كان يفعلُ أجدادُهم في القرون الوسطى. إنّ الأغلبية السّاحقة للمستمعين، المتفرّجين والمتتبّعين المبهورين بهذه القصص مثل سابقيهم لا يعرفون القراءةَ ولا الكتابة، ولهذا فإنّهم يَسْعَوْنَ إلى إشباع فضول (الأذن) بما لا يستطيع المتفرّج أو المتتبّع الوصول إليه، أو الحصول عليه بواسطة (العين)، وقد أصاب شاعرُنا الكبير البصير بشّار بن برد كبدَ الحقيقة عندما قال: يا قوم أذني لبعضِ الحيّ عاشقةٌ/ والأذنُ تعشقُ قبل العينِ أحيانا، إنهم هناك مشدوهون، مشدودون، مندهشون يقظون، وقد كوّنوا حلقةً مستديرةً بإحكام حول الرّجل الذي غالباً ما يكون طاعناً في السنّ، خَبَرَتْه الأيام، وحنّكته الليالي، أو نازلاً من أعالي جبال الأطلس الشامخة، أو نازحاً من صحارى القفار البعيدة، يسرد بوتيرة مسجوعة ومنغّمة رشيقة، وبكلمات منظومة مُفعمة رقيقة، ويحكي قصصاً
مثيرة وحكايات مُدهشة وأساطيرَ مهولة تدور حول الغواني الحِسان، ذوات الحُسْن الباهر والجمال الظاهر، وعن أميرات حسناوات صاحبات العفّة والصّون، وربّات البيوت والدلال المَصون، ومثلما يحكي عن الأخيار، فإنه يحكي عن الأشرار كذلك الذين يرجّحون كفّة الشرّ على جانب الخير، ويحكي عن الفوارس المغاوير، والفرسان الشجعان الذين يرفعون عالياً ألويةَ الخير، ورايات النّبل، وبنودَ الكرامة الخالدة منذ الأزل، عن هؤلاء القوم الذين لا توسّط بينهم، لهم الصّدرُ دون العالمين أو القبرُ..!.
بأسلوب التغنّي نفسه الذي طبع حكايات «السّيد» يجعلون المستمعين يعيشون في كلّ لحظة وحين الحدث المَحْكيّ، أو الموقف المَرْويّ. أتذكرون…؟ «سوف ترونَ سهاماً، وترمقون نبالاً تصعد إلى الفضاء، وأخرى تهوي من السّماء» عندما يتمّ وصف المعركة، ونعود لشاعرنا المُجيد بشّار بن برد القائل في هذا المجال: ( كأنّ مثارَ النّقع فوق رؤوسِنا / وأسيافِنا ليلٌ تَهَاوىَ كوَاكبُه )..أو «آه لو حضر السّيد القمبيطور» أو عنترةُ بن شدّاد، أو سيف بن ذي يزن، هكذا يُقال عندما يكون الرّاوي يكاد أن يوشِك من الانتهاء من روايته، أو حكايته – ومثلما كان يحدث في القرن الثاني عشر- يمنحه المستمعون المتتبّعون في الأخير بضعَ دريهمات، أو (مرابطيات) ثمّ يعودون إلى دورهم ليحلموا بما سمعوا، بينما يكون المتفرّجون الأجانب نحن المسيحييّن الغربييّن أمثالنا ندلفُ إلى غرفنا في الفنادق، في هدوء، لنعودَ ونسقطَ بعنف على القرن الواحد والعشرين.

محمّد محمّد خطّابي

ليست هناك تعليقات