أحمد زعزع خاص الرومي كانت أمي في سن الخامسة عشر عندما أتت بي إلى هذه الدنيا. قالت لي دوما أنها شعرت وكأنّها طفلة تربّي طفلا. كانت...
![]() |
أحمد زعزع |
كانت أمي في سن الخامسة عشر عندما
أتت بي إلى هذه الدنيا.
قالت لي دوما أنها شعرت وكأنّها طفلة تربّي طفلا. كانت تشتري الألعاب لكلينا وتلعب بها معي بحماس طفولي حقيقي، على حد قولها. لطالما ظنّ الناس عند رؤيتنا نسير سوياً، في سنين مراهقتي، أنها أخت لي وليست أما، وكان ذلك يُضحكها كثيراً.
أحبّها والدي من أوّل نظرة وهي في سنّ الثالثة عشر. تَمرّدَ على رغبة أبيه الصّارمة في الزواج من قريبته وأصرّ على موقفه بعناد غريب. كان يكبرها بسنوات وحين اعترضت جدّتي، أم والدتي، قائلة أن نوال ما زالت صغيرة، أخرج والدي مسدّسه ووضعه على الطاولة وقال: "الأمر محسوم، أريدها الآن وليس غدا". كان يشتري لها الشوكولا ويصطحبها إلى السينما برفقة أخوالي إلى أن ملّ منهم وأبعدهم بحزم عن مشاويره معها.
في الرابعة عشر من عمرها تزوّجت نوال من أبي ورزقا بطفل سُمّي أحمد. أنجبت نوال بعده صبيين وثلاثة بنات، لكن أحمد بقي محتفظا بمكانة خاصة في قلبها. هي عرفت كيف تحميه من الغرور والأنانية اللذان يرافقان الدلع الشديد، فطوّقته بحب صاف وأورثته طيبة خالصة وتفاؤلا أبديا بأن على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة والضّحك الكثير.
على الرغم من أنها لم تكمل تعليمها، كانت أمي قارئة نهمة. كانت تقرأ المجلات والكتب والروايات على أنواعها، وكانت تحرص دائما على وجود مصباح للقراءة بجانب سريرها غير عابئة بتذمّر أبي ومطالبته المتكرّرة بإطفاء النور.
كانت أمي رسّامة ماهرة بالفطرة ومن غير تدريب أو تعليم، ولعلّها أورثت هذه الموهبة إلى إبنتي الصغيرة التي تحمل إسمها وتتشابه معها في مرح الطّبع وخفّة الظل والروح.
امتلكت أمي حسا قوياً في الفكاهة والسخرية اللاذعة من كل شيء. لم يكن من كبير عندها إلا الجمل. عند عودتي من السينما كانت تسألني أن أروي لها الفيلم كاملاً، وأن أعيد عليها القصة بحذافيرها مهما طال شرحي. حرّضتني بذلك على تذوّق الأفلام واستيعاب تفاصيلها وتطوّر حكاياتها.
![]() |
حيفا |
كانت تُقلّد جاراتها الثرثارات لتنتزع مني ومن إخوتي، جمهورها المحبّ، الضحكات الهادرة. في حضور إحدى هذه الجارات، كانت أمي تلتفت نحونا وترفع حاجباً واحداً دلالة الضّيق الشديد من الثرثرة والكلام الفارغ ساخرة من حرجنا الهائل من أن تلاحظ الجارة شيئاً.
كانت تُحرّضنا على التقليد والمحاكاة. لا شيء مقدّس عندها. الأقرباء والجيران والمارة والباعة المتجولين، كلهم كانوا عرضة لعينها الثاقبة وملاحظاتها السّاخرة.
سألتني مرة وهي تُنظّف البيت بالمكنسة الكهربائية، كيف تظن شعور الصرصار إذا شفطه نربيج المكنسة؟ قلت لا أعرف. فتحت يديها ودارت حول الغرفة وهي تصرخ، واووووووووووو. حفظت المشهد وأعدت تمثيله لإخوتي لسنوات.
![]() |
أم أحمد |
وُلدت أمي في حيفا وعاشت فيها حتى سن العاشرة وحفظت في ذاكرتها، وروت لنا مرارا، تفاصيل البيت والمدينة وقصص الجيران عشيّة النكبة وبدايات الحرب النفسية الصهيونية وصولا إلى التهجير وحكاية هرب العائلة إلى لبنان. كانت عائلة أمي من العائلات التي بقيت لوقت طويل صامدة في ما كان يُعرف بالحي اليهودي في حيفا، وقد تلقّى جدّي الكثير من النصائح من معارفه بضروروة الرحيل حرصا على بناته.
قبل اللجوء إلى لبنان عام 1948 أصيبت أمي في كتفها بشظيّة قنبلة ألقتها العصابات الصهيونية قرب بيتها فتركت على جسدها ندبة دائمة. حكت لنا أمي مرارا عن فلسطين وأرضعتنا حبّ الأرض المسروقة وعذابات الشعب المنكوب في رياح التهجير والإقتلاع، وزرعت فينا وعيا نقديّا لأكاذيب الحكام وتواطؤ الأنظمة وخيانات الزعماء. فعلت ذلك وهي تضحك وتسخر وتهزأ، غير مبالية بضعف حيلتهاوصعوبات حياتها.
لم تكن تلك حياة سهلة. بعد أن كبر أولادها وتوزّعوا في المهاجر، تذمّرت أمي طويلا من الغربة التي إبتلعتهم، فكابدت شوق الفراق بألم وحسرة، ووجدت عزاءها في الصّور الفوتوغرافية التي علّمتنا جمعها والإهتمام بها.
في أوقات الضيق كانت أمي تخيط الثياب لإخوتي البنات. وفي أوقات البحبوحة كانت تشتري لنا من أغلى المحلات.
كانت أمي أنيقة ومتعطّرة في جميع الأوقات. أذكرها في المساء في طقسها المعهود وهي تضع عقد الغاردينيا، الذي يقطف حباته لها أبي من شجرة الحديقة، حول عنقها متأنّقة داخل البيت.
ذات يوم، ذهبت أمي إلى السوق في صيدا برفقة إخوتي البنات حيث مرّ بهم بائع يانصيب ينادي: السحب اليوم، السحب اليوم. توقّف البائع لحظة ونظر إلى أمي وقال: ولّا مش عايزين؟ حكت لي الحكاية وهي تضحك قائلة أن البائع لم يكن يدر أنه يُحدّث لاجئة فقدت بيتا وأرضا وعملا وحياة كاملة.
فقدنا أمي في عام 2003 بعد صراع قصير مع نوبة قلبية غادرة.
لم يشف أحد من ذلك الجرح المفتوح.
كانت أمي أميرة من فلسطين، تركت وراءها عطرا كثيرا يُحرّك قلوب أحفادها المنتشرين في أكثر من بلد ويحثّهم على تنشّق هواء حيفا، مدينة أمي المسروقة، أينما حلّوا.
* اعلامي لبناني مقيم في دبي
ليست هناك تعليقات