جوزف الحاج «كيف نعرض عمل فنان كبير من دون التورط في المديح، أو نقدّم موضوعاً مصوراً منذ ربع قرن متجنبين حجة إعادة النشر؟ وكيف نجدد ...
جوزف الحاج
«كيف نعرض عمل فنان كبير من دون التورط في المديح، أو نقدّم موضوعاً مصوراً منذ ربع قرن متجنبين حجة إعادة النشر؟ وكيف نجدد نظرتنا إلى عمل معروف عالمياً ؟ إنه رهان غبرييل بوريه، منظّم المعرض وجيوفانا غالفنزي، أرملة بازيليكو، حققاه في المعرض الحالي في «مركز جومييج الثقافي» نورماندي، فرنسا (حتى نهاية أيار الجاري).» تساءلت الكاتبة رافاييل برتو.
في المعرض الأعمال الرئيسية لغبرييل بازيليكو (1944- 2013) Gabriel BASILICO الذي صوره عن بيروت في 1991، بالأسود والأبيض كما بالألوان، في إطار المهمة الفوتوغرافية بإدارة دومينيك إده، وإشراف روبرت دلبير ودعم مؤسسة الحريري. لا شيء جديد حتى الآن، فالعمل عرض في أماكن عديدة وكُتب عنه الكثير، رغم أنه لا يزال يُلفت المهتمين ويشكل متعة بصرية حتى لمن تعرّف عليه في معارض أو كتب، لما تثيره طباعة صوره المشغولة بحرفية.

(رينيه بوري، روبرت فرانك، وفؤاد الخوري، جوزف كودلكا، ريمون دوباردون) أثناء تصويرهم في وسط بيروت.
إستدعي فريق المصورين هذا لتصوير وسط بيروت الخارجة من حروب دامت 15 عاماً، من 1975 حتى 1990. بعد فترة قصيرة على وقف النار، تجوّل هؤلاء في شوارع خالية إلاّ من أشباح الحرب، شهدت مواجهات عنيفة، نحت الرصاص والقذائف عماراتها. بازيليكو وحده عاد ثلاث مرّات متتالية، ليوثّق المراحل اللاحقة من إعادة الإعمار، التي خصّها المعرض الحالي بقسم من جدرانه.
لا يقدم هذا المعرض اللقطات النهائية المختارة فقط، بل يطرح طريقة جديدة في المشاهدة، تنقل المشاهد إلى هذه الأماكن بالذات. قبل أن تكون نظرة، تُقدّم الفوتوغرافيا كعمل جسدي، كإدراك للصورة نتيجة فعل أو عملية معقّدة: أولاً على أر
ض الواقع، كل صورة تتضمن محفزاتها عبر إحساسات سمعية وبصرية، تذكارية وروحانية؛ ثم ما يتراكم عبر التجربة، في إختيار الصور بوعي بالغ. الصور هي إنعكاس أوضاع، مادية ورمزية مرتبطة ببعضها البعض. يتيح المعرض فهماً معمقاً لموقف بازيليكو الجذري، في شوارع بيروت: أن نتفرّج على المدينة لا على أطلالها. وجهة نظر الصور تمكّن من فهم الخيارات، كما تنطبع في العمل، على مستوى التأطير والإضاءة والتكوينات. ملاحظة تلك التفاصيل التي تنقل الصورة من كونها مجرد مشهد عمراني، إلى مشهد مُدني، من شاهد على الماضي إلى مخطط ه
ندسي.

الفروق في قراءة المشاهد المُشرفة من زوايا عليا. الإيحاء بالتأرجح في صور الفرنسي رينيه بوري، تحيل بوضوح إلى مراقبة إستراتيجية لكل تقاطع، في سياق عسكري مُدني. عند اللبناني فؤاد الخوري، الميل أكثر وضوحاً: زاوية النظر التي إختارها بدت كأنها لتمركز قنّاص. هكذا قُدّمت المدينة قبل أي شيء، على أنها ساحة حرب. تجنبت صور بازيليكو هذه المواقف، فطرحت طريقة مختلفة لمشاهدة المدينة كمجموعة موحّد، تحيطها نظرة واحدة، تتخطّى التقسيمات الإستثنائية والشوارع والأحياء الصغيرة.
عندما يضيّق جوزف كودلكا مجال لقطته ليقترب أكثر، فيركّز على البعد الخطوطي للترابطات المدنية التي رأى فيها روبرت فرانك مجرد تشظيات، ترك بازيليكو فضاءات رحبة تسهل تنقل النظر في أرجائها. تجنّب الحواجز والكتل الحجرية الضخمة التي إستعملت كتحصينات. لم يحِد كاميرته عن علامات إنقسام المدينة بفعل حروبها الأهلية، ولا حتى عن الواجهات الممزقة بالقذائف. لكن وجهة نظره تبنّت باستمرار وسيلة لتجاوز كل ذلك، وتوجيه النظر إلى ما هو أبعد، نحو أفق معماري آخر ممكن.
عدا عن هذه الأمثلة، وبخلاف زملائه في هذه المهمة، لم يكن بازيلكو في وارد العودة إلى مكان شهد حدثاً في فترة سابقة. وإذا ما نأى بنفسه عن أن يكون شاهداً، ورفض الوثيقة المرئية التصنيفية، فإنه لم يرضخ أبداً إلى الميل نحو درامية تمثيلات المكان بوصفه الطابع السامي لتعظيم الخراب. من خلال منظار كاميرته، مارس بازيليكو دور مهندس معماري، مُدني، يُعدّ تخطيطات مدينة في ذروة التحوّل، متبعاً هنا تأويله الذاتي المستقل. في موقف يبتعد عن مفهوم رولان بارت «هذا ما كان»، تبنّى عرضاً لطروحاته بالصور: «هذا يمكن أن يكون»، و»هذا ما سيكون». من وسط بيروت في 1991، رفض بازيليكو التشريح، مفضلاً جسّ نبض المدينة المتهالك، والمتعذّر رصده.
أهمية معرض «جومييج» الحالي في جعلنا نفهم، أو على الأقل نقارب طريقة تكوين المصوّر لهكذا نظرة. المشاهدة المتأنية للصور المتسلسلة عن طريق طبع شريط الفيلم بكامل لقطاته مصغرة، تفتح فرضيات للمشاهد. الأكثر بروزاً هنا، هو من دون ريب، كيفية تكوّن نظرة مُدنية عبر الصور، وطريقة انفصالها عن النظرة الهندسية. عندما تقدّم هذه النظرة الهندسية العمارة، في أكثر الأحيان، من واجهتها الأمامية، في تأطير مضغوط يستبعد البيئة المحيطة، فإن النظرة المُدنية تميّز ترابط البنايات، وفضاءات التواصل، تاركة للأفق ولنقاط إنطلاق خطوط الأبعاد أن تظهر بكل وضوح، كإيحاءات بتنظيم شامل تدخل من ضمنه مشاهد المناطق المخرّبة الظاهرة في صور بازيليكو. الفروقات بين صوره تكمن أحياناً في الإطار أو في الإقتراب أو الإبتعاد أمتار قليلة عن الموضوع.
تناقض صوره كل أصناف التكلّف على حساب البحث عن دقة في المقاييس أبعاداً ومساحات، لأنه في حالات معينة، يتلاعب البعد المدُني في إضافة عناصر إلى المنظور، بفعل التراجع وإبراز الأبعاد. في حالات أخرى، يجب الإقتراب ورفع العدسة نحو الأعلى، لرؤية العمارات وهي تقوم والأحجام وهي تتجاور. شارك بازيليكو في «مهمات» تصويرية لمسح أمكنة مدنية. مهمة «داتار» في منتصف الثمانينات على الأراضي الفرنسية كانت من أكثر تجاربه منهجية وعمقاً حول المشهد الطبيعي المُدني.
«عمل بازيليكو قد لا يشبع الذاكرة ولا الحنين، لكنه ربما حاول معالجة آثار الحروب، فالأطلال برأيه ليست من علامات الحضور في ماض، لمجد مفقود، مدمّر نهائياً. يكشف بازيليكو مفهومه، يجعل من هذا الخراب واسطة لرؤى مستقبلية، لأمكنة محتملة، لـ»ما بعد»، فرصة لمدينة. في كشفه عن رغبته في تصوير اللامرئي، لم يعن أشباح الماضي، بل ظلال مرسومة لأناس من أزمنة لم تحن بعد. صوره متأثرة بإنسانية آتية، وربما في طور إعادة البناء.» كتبت برتو.
عن ملحق نوافذ
نوافذ
ليست هناك تعليقات