Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

مجازر الأرمن وتفكك السلطنة العثمانية إلى دولة - أمة تبطن استبعاد غير الأتراك

ريمون كيفوركيان  الأربعاء، ٨ أبريل/ نيسان ٢٠١٥(الحياة) في تموز (يوليو) 1908 ارتقت لجنة الاتحاد والترقي، الاسم الرسمي لضباط تركيا الفتاة،...

ريمون كيفوركيان


 الأربعاء، ٨ أبريل/ نيسان ٢٠١٥(الحياة)
في تموز (يوليو) 1908 ارتقت لجنة الاتحاد والترقي، الاسم الرسمي لضباط تركيا الفتاة، سدة حكم السلطنة. فبعث ارتقاؤها آمالاً حارة في الأقوام التي اضطهدها النظام السابق وأذاقها ألوان القهر. وتوقعت دول أوروبا إقرار الحكام الجدد إصلاحات يجمعها إطار الدولة – الأمة. ويبطن هذا الإطار استبعاد الجماعات القومية غير التركية، شأن اليونانيين والأرمن. وأدت الخسائر الإقليمية المتعاقبة، بعد هزائم النظام الجديد في الحروب البلقانية المهينة (1912-1913) إلى انتزاع الأراضي الأوروبية المتبقية من السلطنة، ما عدا تراقيا (الرومللي) واستانبول، وإلى موازين قوى جديدة في اللجنة المركزية العسكرية، أو قيادة الاتحاد والترقي. فتصدرها في 1913، أكثر الضباط تطرفاً. وبددت أوهام اليونانيين والأرمن حملة مقاطعة حوانيتهم وشركاتهم التي أيدتها السلطنة العثمانية في 1912. وتغذت الحملة من إرث الازدراء والتنكيل الذي رعاه عبد الحميد الثاني حين أمر بمجازر 1894-1896، وأقر في الجمهور صورة اليوناني أو الأرمني «الخائن» الذي يستحق «القصاص» على خيانته.
وماشى قرار السلطنة العثمانية الدخول في الحرب، الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1914، إلى جانب ألمانيا والنمسا – المجر، النزعة المتطرفة التي غلبت على اللجنة المركزية الاتحادية. وساهم القرار في بلورة الإطار المناسب لتدمير الجماعات غير التركية والخاضعة للسلطنة. وكان الأرمن، وهم متهمون بالميل جماعياً إلى الروس، أكثر الجماعات عرضةً للتشكيك في ولائهم العثماني. ودخول الحرب أتاح تعبئة الأرمن البالغين 20 إلى 40 سنة. وتحول التفتيش عن الأرمن المدعوين إلى الخدمة العسكرية نهباً رسمياً ومباحاً لمنازلهم وممتلكاتهم باسم «الضرورات العسكرية»، وسطا العسكر على الحنطة والدواب وصادر أصحابها الأرمن عليها.
وكانت لجنة الاتحاد والترقي خططت لتتريك منطقة الأناضول، وبسط سيادة قومية واحدة ومتجانسة على آسيا الصغرى، منذ استيلاء ضباطها على السلطة في 1908. وحال الأرمن والسريان، أي القومان الأصيلان في الأناضول وغير التركيين، دون الخطة، واعترضا طريقها. فكان استئصالهما السبيل إلى إنفاذها. وأراد ضباط اللجنة ملء الفراغ الذي يخلف نقل السكان المحليين وترحيلهم بالقوة، بحسب أولويات ترتيب الأقوام في ضوء ميلها إلى الاندماج في القوم الأكثري، بمهاجرين مسلمين ترجع أصولهم إلى البلقان. ويستجيب التصرف الداخلي بجماعات تاريخية تتكون منها السلطنة، حوافزَ أيديولوجية قومية، من جهة، ولكنها كذلك جزء من خطة أعظم طموحاً، وترمي إلى إنشاء اتصال جغرافي وسلطاني (ديموغرافي) بين أتراك تركيا وبين الناطقين بالتركية من سكان القوقاز.
ومنذ أوائل نيسان (أبريل) 1915، عمدت الصحافة الاستانبولية الاتحادية إلى الكلام على الأرمن بنبرة مختلفة. فوصفتهم بـ»أعداء الداخل»، وبخونة الوطن والمتضامنين مع الحلف الثلاثي (فرنسا- بريطانيا- روسيا). وسُربت إلى الصحافة إيحاءات تتهمهم بالتآمر على أمن الدولة وتعد الجمهور إلى استقبال إجراءات جذرية في حق الجماعة الأرمنية كلها. ويعود قرار استئصال الأرمن إلى اجتماعات عقدتها اللجنة المركزية الاتحادية بين 20-25 آذار (مارس) 1915 دعي إليها أعضاء اللجنة بعد رجوع الدكتور بهاء الدين شاكر، رئيس المنظمة الخاصة («تشكيلاتي مخصوصة» في التركية). و»تشكيلاتي مخصوصة» جماعة شبه عسكرية ترتبط مباشرة بقيادة لجنة الاتحاد والترقي، قوامها مجرمون أعفوا من قضاء عقوباتهم أو ميليشيات قبلية تضم شراكسة وكرداً، وكانت أنشئت في تموز- آب (أغسطس) 1914، وأعدت لتصفية مرحلين أرمن من غير احتكام إلى هيئات إدارية أو قضائية رسمية. وتصدر إليها أوامر رئيسها مباشرة ومن غير وسيط. والمرحلة الأولى من الهندسة السكانية، من آذار 1915 إلى نيسان 1916، قضت بنفي «الخونة» المحتملين بعيداً من ميادين الحرب. والمعنى الفعلي للإجراء الرسمي هو القضاء على الرجال البالغين.

شباط (فبراير) 1915: القضاء على المجندين
أدت ظروف الحرب، وإلزامها من هم في سن الـ20 إلى 40 سنة بالالتحاق في صفوف المجندين منذ 3 آب 1914، إلى إخلاء الأرياف الأرمنية من معظم الرجال. وبدا الإجراء الذي أخلى الأرياف من مقاومة متوقعة، مناسباً. وفي 25 شباط 1915، أصدر وزير الحرب، أنور (باشا)، أمراً بنزع سلاح المجندين الأرمن في صفوف الجيش الثالث، ونقلهم إلى «أفواج عمل»، قبل قتلهم جماعات صغيرة في أماكن نائية. ومن حالفهم الحظ من هؤلاء، أسرهم الروس في معركة ساري كاميش، وأرسلوهم إلى معتقلات سيبرية مع مواطنيهم الأتراك.

24 نيسان: توقيف النخب
منذ 24 نيسان 1915، اتخذ إجراء آخر في إطار خطة استئصال الأرمن تناول النخب السياسية والاقتصادية والفكرية والدينية (الأطباء والمحامين والمدرسين والصحافيين والكتاب والسياسيين وغيرهم). وكانت أعدت بأسمائهم لوائح دقيقة. وأوقف مئات من هؤلاء في استانبول ومدن المناطق ليلة 24 إلى 25 نيسان. وقتل بعضهم في الحال، وسيق بعض آخر موقتاً إلى معتقلات حول أنقرة وكاستامونو قبل قتلهم. وسبق الخطة إعداد دقيق تولاه مئات من المخبرين. وعين وزير الداخلية، طلعت باشا، لجنة خاصة أشرفت على لجنة الاتحاد والترقي العليا. ومن أعضاء اللجنة الخاصة إسماعيل جنبولات، مدير الأمن العام ومحافظ استانبول، وعزيز بك، مدير الأمن العام في وزارة الداخلية، وعلي مينيف، مساعد وكيل الداخلية، إلى بدري بك، قائد شرطة العاصمة، ومصطفى رشاد، مدير الإدارة السياسية في وزارة الداخلية، ومراد بك، مساعد مدير العاصمة.
وبعد القضاء على النخب والمجندين، تعاقبت مراحل استئصال السكان الأرمن من غير انقطاع. وأفضت كلها، على رغم اختلاف أحوال المناطق ووجوه العمل فيها، إلى نتيجة واحدة. ففي الولايات أو المحافظات لجأت السلطات الاتحادية إلى مرسوم نشر في 24 نيسان 1915، وأوجب على الأفراد التخلي عن أسلحتهم، في غضون 5 أيام، وتسليمها إلى القادة العسكريين. والإجراء العام هذا قصد به الأرمن فعلاً. وكان ذريعة إلى تفتيش المنازل والمدارس والكنائس، وإلى سجن الوجهاء المحليين واستنطاقهم من غير تحفظ أو امتناع من التعذيب. وأخرج الأمر الهيئات الأرمنية المحلية، فلم يسعها الامتناع من التعاون مع السلطات المحلية خشية رميها بتهمة التمرد. وكان عليها، في الوقت نفسه، جمع السلاح، بل الوشاية بمن يمتنعون من تسليمه، وهي على دراية بأن نزع السلاح من السكان يتركهم لقمة سائغة للصوص ورجال القبائل. والشواهد كثيرة على تلبية مجالس الرعايا، وأعضاؤها من المحازبين السياسيين والوجهاء المحليين والأساقفة، طلب السلطات المحلية، وانصياعها لها.
والوجهاء المحليون والذكور البالغون، في الولايات الشرقية الست، قتلوا، بعد وقت اعتقال قصير في أماكن نائية، إما ذبحاً أو ربط العشرة معاً بالحبال ورموا في الفرات أو دجلة. وحملت مياه النهرين جثث القتلى إلى الباديتين السورية والعراقية طوال أسابيع. وعلى رغم الشروع في ترحيل بقية الجماعات الأرمنية، أي النساء والأطفال والمسنين، في بعض الولايات، إلا أن ترحيلها من الولايات الشرقية، أرضروم وفان وبلتيس، لم يقرره مجلس الوزراء رسمياً إلا في 13 أيار (مايو) 1915. وفي 23 أيار، أبلغت مديرية إسكان العشائر والمهاجرين، وهي الجهاز الذي أوكلت إليه لجنة الاتحاد والترقي المركزية توحيد السكان، الولايات أن في مستطاعها إسكان المرحلين في الجنوب، أي بالموصل وولايتها، وبعد أسابيع قليلة، في 7 تموز 1915، وسَّعت المديرية مناطق «الاستضافة» إلى الأجزاء الجنوبية والغربية من ولاية الموصل، على ضفة مجرى الفرات إلى حلب ودير الزور في سورية.
وتوضح مذكرة المديرية إلى السلطات الإدارية والبوليسية المحلية أن على مناطق الإسكان أن تبعد عن الحدود الإيرانية 80 كلم وعلى بعد 25 كلم من حدود ولاية ديار بكر، وقرى حوضي الفرات والخابور. وتشمل قرى الجبهة الغربية من ولاية حلب، والنواحي الجنوبية والشرقية ما عدا شمالها والأراضي السورية؛ إلى سنجق حوران وسنجق الكرك، وتستثني منها الأراضي الواقعة على 25 كلم من خط سكة الحديد. وتوصي المذكرة بألا تتجاوز نسبة الأرمن المنفيين إلى هذه المناطق 10 في المئة من جملة سكانها المسلمين.
وأصاب الترحيل أولاً الأرمن المقيمين في ولايات الشرق الست، بتليس وسيواس وأرضروم وفان وديار بكر ومعمورة العزيز. فهذه الولايات هي موطن الأرمن التاريخي، وتصدرت خطة الاستئصال. وبدا ترحيل أهل المســـتوطنات الأرمــنية الأناضولية، إلى الغرب، وهي موطن تأخر توطنها، إجراء مكملاً وليس أصيلاً. ولم تكن سيرورة الاستئصال واحدة في كل الولايات. فالخطة لحظت في ولايات الشرق قتلاً مباشراً أو استعمال قوة عمل الرجال في نقل التموين على ظهورهم إلى الجيش الثالث أو في تعبيد الطرق. ونجم عن عمل السخرة في مثل هذه الأحوال موت معظم الرجال، ومن لم يمت قتل بالسلاح الأبيض في مكان ثانٍ وعلى حدة. وعلى خلاف الولايات الشرقية، حل أرمن الغرب، وهم قلة في وسط السكان الترك، مع عائلاتهم، وفي أحيان قليلة في القطارات، وغالباً مشوا بمحاذاة خط سكة الحديد.
وبين نيسان وأيلول (سبتمبر) 1915، بلغ عدد قوافل المرحلين 306 قافلة، وبلغ عدد المرحلين 1،040،782 أرمينياً، معظمهم من النساء والأطفال، اقتيدوا إلى مناطق صحراوية في سورية والعراق. وسلكت مواكب الموت، طوال مئات الكيلومترات، طرقاً غير معروفة ولا مألوفة، تولت مراقبتها ألوية المنظمة الخاصة، وسطت على الرجال المتخلفين عن الركب فقتلتهم، وعلى النساء اليافعات فاغتصبتهن. وحصل انتخاب طبيعي، فسقط الضعفاء على جهتي الطريق، ولم يبلغ غير 15 إلى 20 في المئة من مرحلي ولايات الشرق مقصدهم. ومن بقوا على قيد الحياة أنزلوا مخيمات اعتقال في الصحراء السورية والصحراء العراقية، تحت خيام هزيلة وفي أحوال صحية مروعة. ففشت الأوبئة في المخيمين، وتضافر فعلها مع الجوع على قتل مئات الضحايا في اليوم الواحد. وبلغ عدد القتلى، في آب 1915، 120 ألفاً من مجندي الجيش الثالث. وقتل عشرات الآلاف من أرمن الولايات الشرقية، ومثلهم على الطريق.


* مدير بحوث برتبة شرف (جامعة باريس الثامنة)، عن «ليستوار» الفرنسية، شباط (فبراير) 2015، اعداد منال نحاس

ليست هناك تعليقات