كان الأستاذ. وحين وصل إلى مدرسة قسطل كان يزن ١٣٧ كيلوغراماً، مربوعاً، متزناً، يهوى الشطرنج والجدل وكتب دار رادوغا التي كان يقتنيها من...
وحين وصل إلى مدرسة قسطل كان يزن ١٣٧ كيلوغراماً، مربوعاً، متزناً، يهوى الشطرنج والجدل وكتب دار رادوغا التي كان يقتنيها من شارع القوتلي، ولم يستغرق طويلاً حتى وجد من يبدد معه وحشة الريف بالنظر إلى الجنود والأحصنة والأفيال والقلاع والوزيرين وملكٍ لا بد أن يقف مزهواً بوحدته في النهاية، كان يربح دائماً حتى حلّ الوقت الذي لم يعد فيه ينظر إلى الرقعة أو وجه الخصم بل إلى حيث تتحرك ابنة الخصم، طالبة الكفاءة، بين المطبخ والغرفة الأخرى والدفاتر والتنتنا والمرآة وتمارين المكياج وظلّ الأم القادرة التي كانت تراقب كل شيء بطرف العين وتديره بخبث، لم تقل له سوى أنها ما تزال صغيرة ولم تشترط عليه سوى أن يخسر، فخسر الجنود والحصانين والفيلين والقلعتين والوزير والملك، وخسر في الكلام و خسر ثلاثة أرباع عقله حين أخذ يدخن في اليوم ثلاثة باكيتات حمراء طويلة مع زجاجتي عرق واحد ليتر، وخسر النوم وخسر قمصانه وبناطيله ومعطفه وملابسه الداخلية حين خسر ، الأهمَّ المشترطَ عليه، ٧٧ كيلوغراماً حتى لم يعد يميزه أصدقاءه القدامى حين كان ينزل حلب ولم تبق لديه سوى كتب دار رادوغا التي كان يقتنيها من مكتبة الفجر التي تحولت بدورها مع البيروسترويكا إلى محل للكنافة حين لم تعد الأمطار تهطل في موسكو حتى تُرفع المظلات في حلب.
كان شعره قد شاب تماماً، عجوزاً معصعصاً في الخمسينات، مدير مدرسة على وشك التقاعد، لست متأكداً كانت مدرسة عدنان المالكي، جول جمال، مازن دباغ، وجيه عبدالدايم أو اسم شهيد آخر، يعاني من الحكة المزمنة، يتذمر ويغضب لأي سبب كان كما أخبرتني شيرين ( الحبيبة عند الأكراد لا بد أن يكون اسمها شيرين) قالت شيرين أنه مثلاً، المكدوس، يغضب إذا كان الحدّ أي الفلفل الأحمر فيه حلواً أو حاراً، أو الملح زائداً أو الباذنجان كبيراً قليلاً أو غير مسلوق كما يرى هو، أو الجوز ليس دسماً أو اللوز ليس مجروشاً كما يرغب، والثوم ليس مدقوقاً جيداً أو الزيت خفيفاً أو، أو، أو، وفي اليوم الذي اصطحبتني معها، لتقدمني إليه، وبينما كنت أتأمل مكتبته، وما أن نطقت شيرين: بابا، هدا محمد اللي......، حتى غضب وقال: ماني بابا، أنا خرى، ......وبدأ يلعن ويشتم ويرغي ويلعي، أصبحت شبه أطرش، فقط كنت أرى فمه ينفتح وينغلق، ولم أسمع واضحاً سوى: اللي بدو يدخل بيت عالم وناس بيجي من الباب، مو من طيزي، وبالطبع لم تكن طيزه تتسع لي رغم نحولي حينئذ لأخرج منه، بهدوء أخذت عيناي، لتحفظان ماء الوجه، أخذتا تتحركان بلباقة على دوستويفسكي، تشيخوف، غوغول، ليرمونتوف، شولوخوف، تولستوي، كوبرين، تورغينيف، ما العمل، كيف سقينا الفولاذ، وداعا غولساري حتى وصلت الباب الذي خرجت منه إلى السريان القديمة جانب محطة العدس لأمشي وأمشي حتى أتعلّم كيف أدخل وأتزن وأهوى الشطرنج والجدل والطبخ مكتسباً غراماً وراء غرام لأصبح في وزنه الستاندرد حين وصل مدرسة قسطل ذات يوم، ومع الحرب المباركة التي نغار جميعاً عليها ونعمل على ألا تنتهي، بدأت أخسر، شيئاً وراء شيء، حتى لم تعد الخسارة تثير الغرابة، خسرت كل شيء إلا هذه ال ١٣٧ كيلوغراماً وفعلت وما أزال كل ما ظننته المستحيل لأخسره ولم.
ليست هناك تعليقات