
لم أدرِ أنّ صفحتي التي أمضيت الليل أجمع أفكارها كانت فارغة بيضاء ناعمة، وأنّ الصباح الذي تسرّب إلى عيوني لم يكن سوى وميض الكلمات التي تبعثرت على طاولتي وفاض بها مكتبي. لم أدرِ عندما بدأت أطاردها في ذلك الممرّ الطويل الذي يفضي إلى الشارع أنّني أطارد سراباً وخيالات، لم تكن سوى أوهام تفرّ من أمامي دون هوادة.
حملت أصواتي التي رحت ألملمها وأجمعها في راحة كفّي، والتي ما لبثت أن بدأت بالتسرّب من بين أصابعي ووقعت على الأرض. شاهدت فواصل كلماتي ترقص بين الحروف، لم يوقظها سوى إغفاءة نقطة. سمعت كلماتي تغنّي: ارقصي يا فواصل بين صفوف الكلمات واتّكئي يا همزة على كتف الألف، وارقدي يا سكون بسلام فوق روابي الحروف.
شاهدت رذاذ مطر يجوب الشوارع ويسابق السيّارات وربيعاً يفرّ من الحروب لم يستوقفه سوى نسيم هارب يتأبّط عطراً، يفوح سحراً، ينثره فوق الكلمات، لم يستوقفه سوى دمع ندى ينساب بحرارة على خد الصباح.
عبثاً أحاول تجميع كلماتي الهاربة وإعادتها إلى صفحتي، لكن دون جدوى، أصرخ بها، أرصفها، أدندن لها «يا لله تنام». تفرّ من جديد ألاحقها في الشوارع وعلى ضفاف الأرصفة، أمام متاجر أغلقت عيونها بأهداب حديديّة. وفوق شرفات راحت تسترق السمع إلى لهاثي المتناثر فوق أحلام المدينة. عثرت على كلمات ليست لي وأخرى تسلّقت جدراناً استقرّت على بقايا صور مبعثرة من زمن الحرب.
ركضت إلى سيّارتي أدير محرّكها ومذياعها، لم أسمع سوى أصوات الحروب تفوح منها رائحة الموت. أجوب الطرقات بحثاً عن كلماتي دون جدوى. وجدت «ينبغيّات» حائرة، تائهة، وحبّاً مسفوكاً على جدار القلب، رأيت طرقات مقطوعة توصل ما بين تخوم القلب ومشارف الروح. وليالي ماطرة توقظ وحش الرغبة وتؤجّج شهوات الجسد. رأيت وجوهاً اختفت خلف قاماتها، وكلمات غادرت حكاياها واستقرّت في قعر. رأيت مدينة قذفت ركامها كقيء ذاكرة ودفنته هناك في لجج الموج. مدينة تبني ذاكرة جديدة من اسمنت تتّسع حتّى حدود الاختناق، مدينة تتباهى بركامها وتتغنّى بدمارها العظيم.
لم أعد أبحث عن كلماتي التي ضاعت في زحمة المدينة وبين السيّارات، بين مساء أطفأ مصابيحه باكراً وليل أسدل الستار على آخر قطرة من سواده.
لم أعد أخيط من الدقائق والساعات أحلاماً أنسجها أطيافاً مطرّزة لا تلبث أن تخرّ صريعة على أضرحة الوقت.
لم تعد تغريني الكلمات التي أرصفها فوق الصفحات وبين الألواح المعدنيّة، أرتّبها بعناية وأنمّقها، وأسترق النظر إليها من وقت إلى آخر. أنهل من أحباري الملوّنة حكايات وقصصاً أرويها دون ملل.
كلماتي التي رحت ألاحقها ووجدتها متراصفة في صفحتي بعد رحلة تعب لم تكن سوى كلمات مبعثرة، لأفكار شاردة لم يجمع بينها رابط ولم يربط بينها حدث، أفكار قذفتها مخيّلتي بين لحظ عين ومرمى بصر، بين إغفاءة غالبها النعاس واستقرّت على بعد أرق.
إنّه الجحيم الذي يلفّ محيطنا ويطرق بابنا، إنّها كوابيس الحروب التي عشناها والحروب المقنّعة بوجوهها المتعدّدة التي ما زالت مقيمة بيننا وتلفّ حياتنا ونخاف أن يعيشها أطفالنا. حروب اعتادتنا واعتدناها وتهلّ ذكراها الأربعون قريباً كأنّها البارحة.. كأنّها الآن.
إنّها كلماتي المتعبة التي عانقت أفكاري الشاردة على صفحتي هذه، أغمضت عينيها وغفت.
زهير دبس
إستراحة- مجلة المغترب - العدد 42