يوسف بزي ما بين 2004 و2011، انغمست في الشأن العام على نحو ميداني، منخرطاً في العمل السياسي المدني المباشر والمنظم. وترتب على تور...
يوسف بزي
ما بين 2004 و2011، انغمست في الشأن العام على نحو ميداني، منخرطاً في العمل السياسي المدني المباشر والمنظم. وترتب على تورطي هذا، ظهور إعلامي بين الحين والآخر، هو على الأغلب «طلات» تلفزيونية تعليقاً أو إبداءً لرأي أو مساجلة. وطوال تلك الفترة العصيبة سياسياً، والمليئة بالوعود والمخاطر في آن، كنت غالباً ما أشعر أن مقايضة خفية تحدث في داخلي. فمقابل كل مهارة أكتسبها في «الأداء» التلفزيوني، كسرعة الإجابة، أو لغة الوجه والجسد، والنبرة الصوتية، أو حتى انتقاء لون الثياب، أو ترتيب العبارات والألفاظ، كنت أخسر شيئاً من نفسي، من سجيتي، من ميلي الدائم إلى الوضوح حتى الوقاحة والفظاظة. كان التلفزيون يفرض علي شروطه، أي أن أصير ممثلاً، مؤدياً يُخرج من أكمامه كلاماً يبدو للعامة أنه فهم وسياسة. وحتى ولو كان هذا الكلام موضوعياً ونابعاً من رؤية ومعرفة وموقف واضح، إلا أن الشرط التلفزيوني، وغواية الكاميرا، وكثافة زمن التصوير ومعاييره الإخراجية، يفرض على المؤدي قدرة تمثيلية ومهارة مسرحية. إذ أن نجاح «الطلّة» ليس في الأفكار التي يقولها «الضيف» (على أهميتها)، بل في اللغة المستعملة: لغة مبسطة، أليفة ومستهلكة وتكرارية. وهذا يتم على حساب الدقة والتأمل ووقت التفكير والصياغة الذهنية والمنطقية، فهذا كله يجافيه التلفزيون ويمقته. أي تردد أو تحفظ أو روية قد يودي بالضيف إلى الحظر التلفزيوني. أيضاً، يعتمد نجاح تلك الطلّة، على إذعان مسبق لمقدم البرنامج أو المذيع، خضوع تام لسلطته. تسكت أو تتكلم بإشارة منه. هو الذي يمنحك الثواني الثمينة، وهو الذي يقطع صوتك متى شاء. عليك مداراة أفخاخه، تذاكيه واستفزازه، عليك ابتلاع حماقاته أو سذا جته، كملاكم يدخل الحلبة باتفاق مسبق أن لا يُسقط خصمه، أن يتلقى اللكمات على وجهه مبتسماً راضياً. كذلك من واجب الضيف أن يكون مقْنعاً كحضور صوتي وجسماني، أن يبدو مظهره مقبولاً، تماماً كأي ممثل، أن يجيد دوره. من أجل ذلك، يفتعل وقاراً أو ضحكاً أو جدية أو تجهماً بما يناسب «تمثيل» الموقف بما يناسب إثارة المشاهد ورضاه.
ما انتبهت اليه، أن الذي يطمح لتحقيق نجومية في التلفزيون السياسي، أن يصير ضيفاً مرغوباً، «محللاً» معتمداً، «خبيراً» مرغوباً دوماً، «معلقاً» دائم الحضور، عليه أن يمتلك الشرط التلفزيوني ويخسر الكثير من علة دوره، أكان هذا الدور ناشطاً سياسياً أو أستاذاً جامعياً، كاتباً أو صحافياً، مفكراً أو مؤرخاً، مثقفاً أو حزبياً، يتحول محترفاً تلفزيونياً وحسب.
على الأغلب، تترتب على صيانة تلك «النجومية» تنازلات كثيرة، فمن أجل الإثارة لا مانع من المبالغة، ومن أجل هزيمة الخصم لا ضرر في التحريض، ومن أجل إرضاء توجه هذه المحطة أو تلك لا سوء في التملق، ومن أجل جذب الجمهور لا وازع عن التكاذب. يتحول الأمر إلى مباراة، لا هدف لها سوى اللعب، الفرجة التلفزيونية نفسها. تلك الفرجة التي تشترط «إمتاع» المشاهد وتسليته. فإذا كانت الرصانة أو الموضوعية أو التحفظ في أمر ما سيسبب الضجر والملل، فمن الأجدى التنازل عنها كلها لمصلحة اللعبة. خطورة هذا المنزلق سياسياً تظهر في الإذعان المسبق لفكرة إرضاء جمهور هذه المحطة أو تلك، الذي غالباً ما يكون جمهوراً عصبوياً، مستنفراً وحربي النزعة، مع ما يعني ذلك حتماً من استفزاز خطير للجمهور المناوئ. هكذا يتورط الجميع في دوامة استثارة الغرائز، واستدامة المباريات التلفزيونية.
على هذا النحو، نشأت طبقة من محترفي الكلام التلفزيوني السياسي، الذين يلبون الطلب الهائل والكثيف لعشرات بل مئات المحطات التلفزيونية، المتحاربة في ما بينها، تخاطب جماهير العالم العربي المتذرر عصبيات وجماعات وطوائف وميليشيات ومذاهب ودويلات وتنظيمات، تخوض حروباً متناسلة لا تعرف نهاية لها.
الشاشة لا تنطفئ وهي بنهمها واستهلاكها الفائق لكل شيء من أجل إنتاج صورتها وصوتها، باتت ضمنياً من أجل ديمومة «نجاحها»، حريصة على استدامة المادة التسويقية والإثارة والتشويق، أي على تشجيع روح المنافسة واللعب بكل أدوات المبالغة والتعبئة والتحريض والإتهام، بل لابأس من عراك مشهدي أو تفضيح أو قدح وذم وسباب وصراخ بين حين وآخر.
هذا هو «الشرط التلفزيوني»، الذي ما أن يقع في غوايته مفكر أو كاتب أو استاذ جامعي أو ناشط ..إلخ، حتى يبتعد شيئاً فشيئاً عن كينونته الأصلية ليصير «ممثلاً» ومؤدياً، متخلياً عن مسؤوليته الأخلاقية والثقافية والسياسية، متورطاً بشراسة في هذه الحرب التي ما عادت افتراضية، بقدر ما باتت الجبهة الأكثر دموية ومدعاة لتجديد الحروب في كل حين.
عندما ذهبنا إلى التلفزيون، قبل سنوات، كان ذاك طموحاً منا في المساهمة بصياغة «رأي عام»، لكن سرعان ما انتبهنا أن هذه الشاشات العربية لا تفعل سوى تمزيق اللغة والأفكار والرأي العام إلى فتات من جماهير وكلام وشعارات، في سلوك لا يتورع عن أشد أنواع الصحافة انحطاطاً: تلفيق الصور، تعتيم الحقائق أو تزويرها، افتعال قضايا غير موجودة، تضخيم الحوادث أو تغييبها، التشهير والإفتراء.
فداحة هذا الإعلام، أنه هو اليوم، مع كل «الممثلين» الذين أشرنا إليهم، ما يصنع السياسة. السياسة نفسها باتت مجرد برامج تلفزيونية، وكأن لا سياسة خارجها. وفي هذا المضمار، المثال الأسوأ.. كل الإعلام اللبناني.
ليست هناك تعليقات