خاص الرومي 1 قالت أمي أن جدي كان يعاني من الربو، وحين التقطوا الصورة التي علّقته في البيت، كان خالي الطيب الذي في الشام ينظرُ بطرف...
خاص الرومي
1
قالت أمي أن جدي
كان يعاني من الربو، وحين التقطوا الصورة التي علّقته في البيت، كان خالي الطيب الذي
في الشام ينظرُ بطرف عينيه إلى جدّي وخالي الذي كان معنا حينها، الأزعر برأي أبي كان
يحدّق في عين المصور، وجدي كما حكت أمي جاءته نوبةُ ربو بينما كان المصور يهمُّ بالضغط
على زناد الكاميرا، لذلك كانت حياتنا تمضي، نكبر وجدي يحاول أن يتنفس، يفتح فمه نصف
فتحة، يريد أوكسيجيناً، فيما كان خالاي بشعرهما الطويل مع زوالف السبعينات على طرفيه،
الطيّب يلتفت نحوه بطرف عينه ليرى ما يحدث دون أن ينزل ذراعه المدودة على الكتف، والأزعر
أيضا لا يحرّك ذراعه لكنه يبقى ينظر في عين الكاميرا ويحدّق في عين كل من سينظر إليه.
2
وحين كان أبي يقول:
أستطيع أن آكل مع الكريف والقرباط أيضا، كانت أمي تجّعد وجهها مشمئزةً وتأتي بحزمة
حركات متلازمة نفهم منها أنها ستتقيأ إذا استمرَّ أبي في حديثه، وتخاطبه:
كريف نَهْ عشيرَتنْ،
چهْ زبل جيه بونه،
)الكريف ليسوا عشيرة، لقد خُلِقُوا من الزّبل(
لكنها كانت ترى أنهم طيبون ومسالمون وأفضل من القرباط الذين يسرقون ما
تطاله أيديهم، ولذلك كانت تطرد القرباط لكنها تجزل في العطاء للكريف حين يأتوون في
موسم الزيتون، يطبّلون في الحقل ويزمّرون فتملأ
أمي خُرجهم من الزيتون الأخضر ويمضون، وكان يبدون بؤساء ويشتكون من أنه لم يعد
أحدٌ يدعوهم إلى الأعراس، مطلقين لعناتهم العشوائية على الشيطان الذي خرّب بيوتهم والذي
لم يكن سوى الأورغ.
.jpg)
3
كان خالي في بيتنا،
في بيته، في محل الحلاقة، أينما حلّ يستطردُ وهو يتنقّل من رأس إلى رأس، المقص في يمينه
والمشط في يساره، جق جق، جق جق، ويقول:
سليمان الحلبي الذي
قتل كليبر هو سليمان محمد أمين من قرية كوكان، وقضى 31 يوما يتعقب كليبر حتى طعنه بخنجر
كان يخفيه في ثيابه ليقتل بعدها بأمر من محكمة عسكرية صلباً على الخازوق بعد أن أحرقت
يده اليمنى، ومحو إيبو شاشو كان أول من أطلق رصاصة ضد الفرنسيين بعد أن إجتمع مع رجال
آخرين في حارة آغيول، وقبلهما تزوج ممهد الدولة حاكم الدولة المروانية الكردية في ديار
بكر من "ست الناس" حفيدة سيف الدولة الحمداني، وابن حمدان في حلب تزوج من
فاطمة بنت أحمد الهزارمردي الكردي، وسيف الدولة نفسه أوصى بدفنه في ميافارقين التي
دفن فيها قبلها أخت الأمير وأمه، وحارة الأكراد تأسست في زمن الأيوبيين وكانت تقع خارج
حلب، والشيخ عزالدين بن يوسف الكردي شغل منصب أمير لواء حلب في أوائل الدولة العثمانية،
والأمير عزالدين هو من بنى الحوض الكبير داخل باب آغيول، وحين أستردّ منه الأمير جان
بولاد منصب أمير لواء أكراد حلب أنشأ داراً عظيمة داخل باب النصر هي ما تعرف اليوم
ببيت جان بولاط وهم أنفسهم من ذهبوا إلى لبنان وأصبحوا دروزاً، والقاضي أحمد أفندي
بن طه زاده واقف المدرسة الأحمدية ولد في حلب وتولى فيها نقابة الأشراف، وثم بدأ ببناء
مدرسته في محلة الجلوم، زقاق الجلبي، ووقف فيها ما جمعه من الكتب التي بلغت ثلاثة آلاف
مجلد، منها عدة مجلدات بخطه.
رغم أن أبي كان يحبه،
كان يلقبه ب" چنگه سز" أي الثرثار، وحين كان يتشاجر مع أمي كان يعيّرها فيه
ويقول: أز ده ڤي تاماريه نم، أي أنيك هذا الجذر، كان أبي يرى أنه ستكون له رائحة البشر،
فقط لو أنه يخرج أنفه من بين الأكساس، فهو لم يتزوج، ولم يشتري بيتاً، كان يعزف على
الطنبور ويغني في الأعراس، يدخن باكيتين من الحمراء الطويلة، يطلق لحيته ويشذبها ليبدو
أكثر شبها بشڤان پرور، وكان يمزح، ويتكلم بحميمية
غامضة تستعصي على التفسير، وحين يخاطب أحداً، يبتدأ ب" ته ده منو" أو
"من ده ته كرو"، لا فرق عنده، ولا من يخاطبه يزعل منه إن ناداه: نيكني أو
أنيكك.
كان يفتح باباً ويعرف
كيف ومتى يغلقه، إلا الباب الأخير، دخله ولم يخرج منه، لا هو فتحه، ولم يمهله الذين
فتحوا له وقتا ليفكر كيف يغلقه.
في المرة الأولى
التي كتبت فيها تقريراً عن جريمة، أذكر جيداً، كان حين كنت عنده في المحل بحارة جامع
معروف، وما أن سمع الجيران يصرخون في الجوار، حتى ترك السشوار، أمرني أن أجهّز الكاميرا
وأن ألحقه.
يومها كان الثلاثاء
وكنا في حزيران وكانت حلب ما تزال هادئة في ٢٠١١، أقدمتْ أم في العشرين من العمر على
قتل طفليها الرضيعين الذين يبلغان سنة ونصف، والصغيرَ خمسة أسابيع فقط، وذلك ذبحاً
بالسكين، كان الزوج قد هرع إلى منزل أهلها ليخبرهم بعد أن عاد إلى البيت ورأى ما رأى،
وكان الجيران متحلقين بحيادٍ مؤلم حول الأم التي كانت تجلس على كرسي بلاستيكي، وتحدّق
في الفراغ في ظلمة باب المطبخ حيث الجثتان، وكان السكين لا يزال تحت قدمها اليمنى،
لم تكن مكترثة لما حولها، أذكر نهارها أن خالي لم يرتبك مطلقاً، وكأنه كان يعرف ما
ينبغي أن يفعله ريثما يأتي البوليس، جلب كأس ماء من البراد وأعطاها فشربت على الفور،
ثم وضع يده على كتفها، وبكل الحميمية التي في صوته، قال لها:
ته برچيه؟ چه بوخيه؟
هل أنت جائعة؟ ماذا
تريدين أن تأكلي؟
فأغمضت المخلوقة
عينيها ولاحظت كيف اهتزت عضلات وجهها قليلا قبل أن ترد:
فلافل، صندويشة فلافل.
4
مثلما كان خالي يأتي
إلينا حين يعلم أن الكريف قادمون لأجل صيد الدلدل، كنا نزورهم أيضا، وذات مرة، كان
أبي بحاجة إلى سلالم جديدة لإستعمالها في قطاف الزيتون فاصطحبني معه إلى منزل جدي،
تلك المرة، وصلت البستان برفقة خالتي الصغرى التي كانت تضحك دائماً، كان ضحكها يحلُّ
محل كل ما يقال وكل ما سيقال، وكل ما يمكن أن يقال بشكل سيء أو جيد، كانت تضحك، وتتردد
ضحكتها مع اقترابنا من بساتين الحور أسفل النبعة، ومع هبوب العصافير والتفافها بين
أشجار الحور والبيوت وشجرة الدلب الكبيرة، حين وصلنا كان خالي متسلقاً شجرة حور، وحين
رآني، لوّح لي باليمنى متشبثاً باليسرى وأخذ يتسلق حتى قبل رأس الشجرة بقليل، ثم أخذ
يحرك جسده قليلاً قليلاً لتهتز الشجرة من أعلاها، ينحني بنصفه العلوي وهو شابكٌ قدميه
كرباط، ويصفّر، فتهتزُّ الحور، وتميلُ، ثم يسقط رأسه للخلف وينحني بجذعه للخلف لتميل
الشجرة معه من أعلاها، وظل يتأرجح شيئاً فشيئاً وحين أصبح يمسُّ شجرة الحور المجاورة،
استدار للخلف، وبحركة واحدة، هوب، قفز إلى رأس الحور الأخرى التي أخذت تهتز من قفزته،
وأمسك بها، وأخذ يضحك ويصرخ باتجاهي، وضحكت خالتي، وسبّته في أمه، في أمها، ولم يأبه
بنا، بل ظل يميل مع الشجرة الأخرى، وكرّر الأمر نفسه، وتنقّل من شجرة إلى أخرى، كنت
أراقبه بنفس مقطوع وأنا أشهق، وقفت وعيناي على شجرات الحور تميل على سماء زرقاء، لم
انتبه لزرقتها إلا فيما بعد مثلما لم أبالي حينئذ بذبابة كانت تقف وتطير ثم تقف على
جلد عنقي حيث تفاحة آدم تماماً، كان شعري ما يزال أملساً و طويلاً يمس رقبتي، كنت قد
بلغت السادسة وسألتحق المدرسة في منتصف أيلول، أميل برأسي للخلف وأنظر للأعلى ولا أرى
سواه، وبقيت كذلك وأنا أكبر مع خالي الذي كانت أخباره تأتي من مكان إلى آخر، بدءاً
من اختفاءه في أثر نازو بين جنديرس وعفرين وحلب، في تتبع رائحة كسها كما كان يصر أبي
أن يقول، ثم في امتطاءه الدراجة الهوائية بلفاحة حمراء على الرأس مع فلت عسكري وخفافة
أديداس، يوزع المنشورات ويقود الاجتماعات، فإختفاءه في معسكرات البقاع وجبال قنديل وجبال آغري، فحياته
هناك بين الحدود وخلف الحدود وحيث لا حدود كما كان يقول، وثم تواتر الإشاعات والرسائل
ولتنقطع أخباره تماما قبل أن يظهر فجأة بعد أربعة عشر عاماً، ذات صباح،حين ولج صالون
بيتنا في الشيخ طه ، كانت ما تزال قبل الظهر
ونحن نائمون بعد، قال لأمي حالما دخل: كوجوك كانيه، أين الكلب؟ ليتجه حيث أشارت
أمي نحو فراشي وأندس بجانبي وضمني لأستيقظ على رائحته التي لم أكن أخطأها.
لم تتغير رائحته،
لكنه كان قد تغير، يعرج خفيفاً في قدمه اليسرى من أثر طلقة كانت ما تزال نائمة على
مقربة من عظم الساق، يدخن كثيراً، يصر على أنه رأى، يفكر قبل أن يتكلم، وثم يتكلم متدفقاً
ويدق بكفه الأيمن على الأرض كازاً على أسنانه ليؤكد بحرقة:
إذا كان ثمة كوردستان،
فهنا.
وبقي مصراً على ما
يقول، ومصراً على أنه قد رأى، وأظنه حين اختفى، لم يختفِ إلا لأنه كان قد رأى.
5
في محل الحلاقة كانت
القصص تتوالد مع حركات المقص، عن الثلج، عن الأصابع التي تُبتر حين تتجمد، عن الذئاب
والضباع والأفاعي، عن الجوع، عن الرصاصات حين تمرّ جوار الأذن، عن السجون، عن العدو
الذي تعرفه، والعدو الذي تجهله، عن الأخطاء، وعن سؤاله الذي ظل يهجس به: كيف نعيش؟
وحين كنا نبقى معا، أو حين يسكر، كان يكرر قصصا بعينها، يسكت فجأة ويقول: هل تصدق أن
أحدا يمكن أن يموت من أجل كأس من السكر؟ ولا ينتظر الرد مني، نعم يحدث، كل شيء يحدث
في هذه الحياة، ويسرد قصة الذي سرق كأس سكر، وأتهمه رفيق له، فمثل أمام محكمة ثورية
خضعت لرأي الأكثر تطرفاً من أفراد المحكمة وقضت بأن يُعدم، فمن يسرق كأس سكر، يمكن
أن يسرق أي شيء، وأن يفعل أي شيء، ثم يمجُّ نفساً طويلا، ويقول: عطيني الطنبور، أناوله
وهو يذكر لي أن نوري ديرسمي، حين كان طالباً في جامعة إستانبول، كان يغني ويلجأ للطنبور
لإقناع خصومه أو كسب مؤيدين آخرين له حينما لم تكن الأفكار والفلسفات تجدي، ويغني خالي،
كريڤه، دوتمام، خانمه من، خزال خزال، جيا ميچ أو دومانه، كل تلك الأغاني التي كانت
تُسجّل في برلين وتسكب في أشرطة لتُهرّب عبر الحدود وتصل إلى محلات التسجيلات لتُنسخ
وُتباع سراً، ولتأتي معها صورٌ لشڤان وگلستان، كانت تُطبع على القماش وتكملها النساء
بالخرز، بالأحمر والأسود والأبيض، تكتمل السترة السوداء المزررة، يكتمل الشال الأحمر
حول العنق، يكتمل ذراع شڤان المدودة على كتف گلستان، ويكتمل الغضب في أعينهما، الغضب
الذي لا بد أن يُصيبك بالعدوى ما دمت كرديا، تغضب دون أن تفكر، وحين تفكر تستسلم للغضب،
وحتى حين تحب لا بد أن تكون غاضباً ولا بدّ أن تحلم ليتعمّد جسدك بماء القداسة، وكان
خالي رغم ولعه بشڤان وطبقات صوته، يكرر أحيانا أن صوتها أشد حلاوة من صوته، وثم حين
ينال منه العرق، كان يضحك ويقول: هل تعرف لماذا؟ وأفكر، ربما، ربما، ربما،.... فيكمل
وهو يضحك:
نا، نا، دور مره،
شڤان ده كوني منه، دنگه منچي إيه خاش به.
لا، لا، لا تذهب
بعيداً، لو ناكني شڤان لكان صوتي أيضاً جميلاً.
6
كان البيت الذي دخلته
من تلك البيوت الإسمنتية التي بلا طابو، غرفتان وصالون مع دكانتين على الشارع أحدها
كان خالي قد أستأجره والأخرى كان قد حولها طبيب أسنان التقيته مرتين عند خالي وأسمه
إن لم أكن خاطئاً كان محمد رشو إلى عيادة مرتجلة مقسمة من المنتصف بقاطع خشبي إلى قسم يضم كرسي المعالجة وقسم ينتظر فيه المرضى، ما إن
اجتزت عتبة البيت حتى لفحتني رائحة التواليت التي خفت شيئاً فشيئاً كلما كنت أمشي في
الممر حتى الصالون حيث كانت السيدة التي تكلمت معي بالهاتف لتخبرني بأمرٍ يخصّ خالي.
كانت في الأربعين
لكنها تبدو أكبر بعقد أو بعقدين، لنحافتها البادية مع التجاعيد المبكرة على الوجه،
لطريقتها في ارتداء الفستان التقليدي مع الإيشارب، وربما أكثر لأسلوبها في الكلام حيث
كانت تسرد التفاصيل المملة دون رابط، كلَّ ما فكرت فيه، كل ما حدث لها هذا الصباح والبارحة
واليوم الذي قبله والذي قبله، وأيضا ما حدث لأبنائها وزوجها وللفتاة التي وجدت معلقة
بعمود الكهرباء ولجيرانها بعد قتال الأكراد مع عشائر البگارة، وكانت تقف أحيانا لتسأل: من سري ته إيشاند؟ (سببت
لك الصداع)، فأرد بتلقائية، لا لا، فتتابع ولتأتي ظناً منها بزيادة التشويق، أو لضبط
الإيقاع، بحركة تأتيها بعض النساء الأكراد، بعضهن، بترك فاصلة صوتية بين الجمل ليست
أكثر من تصويت يشبه الصفير الخفيف على الحساء الساخن أو على الرشفات الأولى من الشاي،
أو الصفير الذي يسببه الزكام الخفيف من الاحتقان بالأنف والمحاولة البائسة من المزكوم
بفتحه بسحب الهواء،وظللت أحتمل كل ما يخطر على بالها، وكل هذا الهواء البارد الذي ينتج
عن وضع أول اللسان على قبة الحنك مع فتح خفيف للفم وشهيق، لأفهم كيف أن خالي كان يجب ألا يتكلم، وكيف أنه في حوالي
الساعة الثالثة عصراٌ حضرت سيارة ڤيرنا فضية اللون ووقفت أمام المحل حيث قام أثنان
منهم كانا كالعجول كما قالت السيدة بنزع خالي والمقص والمشط ما يزالان بيديه وكيف اقتاده
الملثمان أمام مرأى الجالسين والعابرين والزبون الذي بقي بشعر نصف مقصوص إلى داخل السيارة
وكيف اتصلوا بعد ساعتين بها ليخبروها أنه لا بد أن يربّى، وحسب السيدة فإن الذي كان
يتحدث معها كان يتكلم بلهجة ساحلية ولكنها أكدت أنها سمعت أيضاً رنات موبايل بنغمة
كردية، وحين سألتها: وماذا كانت النغمة بالضبط؟
أجابت: الدف والزرنه
أي الطبل والمزمار.
كان حظر التجول يُفرض
من تلقاء ذاته، ولم أجرؤ أن أخرج، بقيت عندهم، جاءت العائلة وجلست حولنا، جاء الأولاد الصغار من الغرفتين، جاء توأئمهم الأكبر وكان ابنة نسخة طبق الأصل من
السيدة وابناً ويا للشيطان سأفكر لاحقاً ولم انتبه لحظتها، كان نسخة طبق الأصل من خالي،
وثم جاء الزوج ذو الشارب الأصفر ليمرح رغم كلّ شيء، وليبقى الصداع يشد على كامل رأسي وليصبح كما قال
الزوج ذو الشارب الأصفر حين تكلم لأول مرة:
لقد حولتِ
رأسه إلى طبل، لن تتركي عادتك نازو.
وما إن قال ذلك حتى
دققت بائساً في الصوت الذي كان يمتد إلى ليل آخر ودققت بائساً في الوجه الذي كان بالكاد
يُرى في الظلام الناتج من انقطاع الكهرباء، كان الضوء أقلّ من أن يفضح الوجه ويظهره
تماما، وأكثرَ من أن يجعله تختفي التجاعيد منه ليعود كما كنت رأيته في ذلك الفجر الأزرق
وكما حسبتني رأيته في الصباح الذي لم أصدق أن يمضي الليل لأقفز فيه في أول سيارة سرفيس
ينزلق من جامع معروف نحو محطة بغداد حيث نزلت وتمشيت لأمتار ووجدت نفسي على باب الحديقة
العامة.
7
طلقتان ناريتان في
الظهر، في الإلية، نزفٌ صاعق في الصدر، سمٌّ في الشاي، مبيد حشري في وعاء اللبن، مسدسات
مزوّدة بكاتم صوت، سكاكين، شنتيانات، روائح نتنة ناتجة عن حموض مسكوبة على الوجه، رصاصات
في صدر الفتاة مع علامات دهس لمرور سيارة على البطن، وعلامات أخرى كنت أسجلها وأرفقها
مع توقيت الجريمة، اسم الضحية، وتوصيف المكان، ويكتمل التقرير، وثم حين ظهرت الجثث
الملفوفة بأكياس بلاستيكية مع أرجل مربوطة بحبل وأياد مقيدة مثلها إلى خلف الظهر، ومع
سقوط القذائف والبراميل، لم أعد مهتما بالعلامات، لم أكن أتمكن سوى من توثيق الأسماء،
تُسلّم الجثث للأهالي الذين يكونون سعداء لأنهم استلموا، وإن لم يأت أحد، تُدفن الجثة
على عجل في حديقة، أو منصف أوتوستراد، أو مقبرة ، دون مراسيم، دون ماء وصابون وكفن،
دون تلقين وملائكة، تعود إلى التراب وتبقى الأسماء لتدل على أحد ما، رزكار، جوليا،
كريستينا، عارف، ناريمان، فارس، حكيمة، غيفارا، عكيد، أمينة، شيرين، جودي، تولاي، نزار،
مصطفى، فالنتينا...، إن كانت محظوظة وتذكرها أحدٌ ما، تبقى الأسماء لتدل على أحد ما،
أو تعود إلى ترابها الذي يخصها، إيقاعاً من مقطع أو مقطعين أو ثلاث مقاطع، لتدلّ على
لا أحد، محض إيقاع بائس في موسيقى العدم.
وحدها مكناتُ القتل
كانت تعمل جيداً بعد أن عُطِبَتْ حلب، كنتُ ما أزال في الشيخ طه، في منزلنا عند الجسر
بمحاذاة سكة القطار فيما كان أخوتي وأخواتي قد التحقوا بأبي وأمي وانتقلوا إلى بيتنا
في القرية على حدود تركيا، وكان أبي محاولاً أن يلّين رأس الحمار، رأسي، وأن يجرّني
معه، كان يتكلم وكأنه يملك اليقين الذي يحميه، والحصن الحصين الذي يأويه: صار ما صار،
لنا قرانا، ولنا زيتوننا.
وكنت ما أزال أعمل
وبهمة أكبر مما قبل، وكان العمل قد أصبح أيسر لكنه اختلف فبعدما كنت أرتدي نظارتي النظيفة
الأنترفلاي والجينز والكتّان المكوي والخفافة السبورت لأعاين هؤلاء البؤساء متأبطاً
الكاميرا وآلة التسجيل أصبحت أذهب دون أن أتأنق لأنني كنت أعرف أنني أيضا وأي أحد آخر
وفي أي لحظة، سيتمدد في وضعية من الوضعيات الخرقاء التي يتقنها الميتُ بينما أحدٌ ما
يمدّ على وجهه شرشفاً أو يمرُّ دون أن يترك على وجهه سوى نظرة غير مكتملة، نظرة رثاء
تبترها شفرةُ العطف الممسوحة بسمّ القرف.
في الصباح التالي
لليوم الذي أختفى فيه خالي، لم أكن أريد أن أصدق ما يخطر لي، لم أكن أريد أن أرى بطنه
وقد شطب بضربة سكين أو رأسه وقد تشوه بطلقة أو عضوه وقد بتر، بقيت أتمشى في الحديقة
العامة، دخلت من الباب الذي مقابل مبنى مديرية الكهرباء، ولم أفكر بالحاجز كما كنت
أفكر فيه، كانت أصوات القناصة والقذائف والطائرات تتناوب فيما بينها أو تتزامن مع بعضها
فأخرجت سماعات الأذن، أوصلتها بالموبايل السامسونغ ودون تحديد، شغلت الأغاني تشغيلاً
تلقائياً، وتمشيت ولم أتوقف عند تمثال أبو فراس الحمداني كما كنت أفعل، صعدت الدرج،
كانت السماء شاحبة تماماً فوق مشفى دار التوليد، أنحرفت نحو اليسار وأكملت طريق البيت
حتى قطعت حلويات سلورة والمبنى القديم الذي على الشمال، المبنى الحجري المغلق قبل المثلث
الذي يتفرع بعده عن الطريق المستقيم طريقان
أحدهما يلتف دائريا حول الحديقة والآخر يميناً نحو العزيزية، وحين وصلت الجسر، توقفت
وظللت أنظرت في ماء قويق العكر كما كان دائماً، حاولت أن أخدع نفسي وأفكر في المبنى
القديم المائل للزهري الذي كان ربما قصرا عثمانيا أو منزلا يهوديا أو قنصلية في زمن
ما، لكنني لم أقدر أن أكمل، لم أقدر سوى أن أسند ركبتي للحجر الأبيض على طرف الجسر
ومرفقي على سوره، وبكيت، بصمت دون أن أخفض رأسي، دون أن أخفي وجهي، حتى لم أعد أرى
الماء عكراً، حتى لم أعد أرى شارع الشلال بأكمله ولا جامع التوحيد ولا البنك الإسلامي
ولا السماء التي ازدادت شحوباً فوق السليمانية والتلل والحميدية، بكيتُ يومها حتى لم
أعد أرى شيئاً.
8
عدتُ إلى
البيت وتمددتُ كميّتٍ، لم أعد أريد أن أفعل شيئا، لن ألتحق بأبي، ولن أخرج في الصباح
التالي إلى أي مكان، كان الظلام، ولم أستطع أن أحدد الوقت بالضبط، شّغلتُ مصباح شحن
لِيد صغيرة، كنت سأنام لكنني التقطتُ صورة جدي عن الكوميدنة، كان ما يزال يفتح فمه مع صدر مرتفع قليلاً وشدٍّ
لم ألحظه من قبل في جلد الجبهة مما بدت عيناه جاحظتين وكأنه سيختنق حقا، ورغم ذلك لم
أبقَ طويلاً معه ولا مع خالي الطيب أذ استسلمت للأزعر الذي كان يحدق في عيني، كنت غفوت،
غفوت بعدما تمددت كي لا يكتشف أني رأيتهما، كان خالي يدق على البلور لأستيقظ، قال:
تعال لترى، يكفي، وشاداً أنفي بأصابعه، أكمل وهو يجرني، تستطيع أن تنام في يوم آخر،
مشيتُ معه، كان الرجال متوزعين على الأفخاخ التي نصبوها بين المسافة الفاصلة بين المغارات
والبساتين، كان دلدل قد علق تماماً في قفصه وأغلق الباب عليه، كان المسكين منكمشاً
على نفسه باسطاً أشواكه فوق ظهره، ثم أخذ يتحرك، كان يحاول الخروج ويتحرك بعبث طلبا
للنجاة، يندفع للأمام ويتراجع إلى الخلف بسرعة وحين أخذ يضرب الأشواك بعضها ببعض ويصدر
أصوات حادة وشبحية كالأفاعي باصطكاك أسنانه الحادة القاطعة على بعضها، أبتسم خالي وهو
يعصر كتفي محاولاً تهدئتي: لا تخف، لقد يئس، إنه يدرك أنها نهايته، من تلك الليلة ما
أزال أحتفظ بثلاثة أشواك من الدلدل، نظيفة لامعة عارية مقلمة بالأبيض والبني الذين
يتداخلان بحدود غير مؤذية، كانت قد بلغت الرابعة حين لمت نازو فناجين الشاي والإبريق،
وحمل الرجال أقفاصهم في أكياس خيش، وبدأ البيكاب يتحرك، لم تتكلم نازو طوال الطريق
لكنها كانت لا تكف عن الإلتفات بعينين ملتمعتين رطبتين إلى خالي الذي بدا لي يومها
راضياً وقوياً وجميلاً بشكل لا يحتمل، وددت طوال حياتي لو أمتلك جماله في ذلك الفجر
الأزرق المسالم البراق، كان البيكاب يتهادى، عيناي في عينيه والفجر يهبط على غابات
السنديان، على الطريق، على المنازل، على شجرة الدلب الضخمة، وعلى الحور من شجرة إلى
أخرى حتى الحدود التي كانت قد تلاشت في الليل من تلقاء نفسها.
ليست هناك تعليقات