يعد القرن السابع عشر عصر ازدهار حكم المغول في شبه القارة الهندية. فلم يكتف المغول بالتقاط تقاليد إسلامية قائمة في فن الرسم والعمارة بل و...
يعد القرن السابع عشر عصر ازدهار حكم المغول في شبه القارة الهندية. فلم يكتف المغول بالتقاط تقاليد إسلامية قائمة في فن الرسم والعمارة بل وأضافوا إليها عناصر أخرى ندُر وجودها في الفن الإسلامي حتى ذلك الحين. ويكاد عصر المغول أن ينفرد بين عصور التاريخ الإسلامي بهذا القدر من الابتكار والتلاعب في التعامل مع مسألة تحريم الصور.

إن العداء المزعوم الذي يكنه الإسلام تجاه الصور، هو من أكثر الموضوعات بحثا في تاريخ الفن، بغض النظر عما إن كانت تلك الكتابات والأبحاث تعود لمؤلفين من الدوائر الثقافية المسيحية أو الإسلامية. إلا أن هذه الكتابات لا توضح دوما ما إن كان هذا العداء يفهم باعتباره عداء وصفيا أم معياريا، أي ما إن كان يصف واقع الفن الإسلامي أم أنه فرض أو حكم شرعي فحسب. لا توجد دلائل على التطبيق الكامل لتحريم الصور إلا في عدد قليل من عصور ومناطق العالم الإسلامي. بل إن هذا المبدأ افتقد إمكانية تطبيقه تماما مع بزوغ التصوير والتكنولوجيا الإعلامية الحديثة. وكرد فعل على هذا الاتجاه يتزايد الضغط المعياري وكذا الرغبة للتشبث بالروايات التي تؤيد تحريم الصور في الإسلام. ولذلك يعد هذا المبدأ جزءا لا يتجزأ من الجوهر الأيديولوجي للحركات الأصولية الإسلامية. مع العلم أن العواقب الفنية والتاريخية لتلك الأيديولوجية مدمرة، وهو ما تبين على سبيل المثال من خلال تدمير تماثيل بوذا في باميان على يد طالبان في آذار/ مارس ٢٠٠١. ولكن جذور تلك الإيديولوجية تعود إلى مائتي عام على الأقل. حيث شهد مطلع القرن التاسع عشر أعمال تدمير واسعة من قبل الوهابيين امتدت لتشمل عدة مقابر في مكة والمدينة ومقامات شيعية في كربلاء، من بينها ضريح الإمام الحسين بن علي حفيد الرسول.
توحيد الرؤية
بغض النظر عما يشتمل عليه التاريخ الفني الغربي للإسلام من تضارب فيما يتعلق بمسألة تحريم الصور في الإسلام، إلا أنه يراها بمثابة سمة أساسية للتمييز بين التيار السائد في الفن الإسلامي والتيار السائد في الفن المسيحي. وعلى الرغم من أننا لا نود اعتبار هذا التمييز خاطئا، إلا أنه تمييز متواضع كما هو ملحوظ، ويعيق وصف الظاهرة وصفا تمييزيا وإدراك السياقات والصلات الأكثر عمقا. فتركيز العالم الغربي على خلو الفن الإسلامي من الصور يشوب النظرة المحايدة وتتطابق عواقبه بالتالي مع ما يصبو إليه التفكير الأصولي الإسلامي. وعلى ذلك يتوحد المنظور وتتقلص حدود الرؤية والإدراك إلى ما هو قائم بالفعل من رؤى ومدركات.
يعد فن المنمنمات أو رسم المصغرات من بين ظواهر الفن الإسلامي التي طالما أفلتت من مبدأ تحريم الصور. والتساؤل الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو ما إن كنا نستوعب مصطلحي »الإسلامي« و »المسيحي« بالمغزى الديني الأضيق نطاقا أم بالمغزى الثقافي الأوسع نطاقا. وهذا التساؤل يعد في الوقت نفسه جزء لا يتجزأ من إشكالية التمييز في الفن والثقافة والديانة بين الجانب المسيحي والإسلامي من ناحية وبين الجانب الصديق للصور والآخر المعادي للصور من ناحية أخرى. لن يستطيع فن المنمنمات في الحالة الأولى أن يدحض الرأي السائد بمعاداة الإسلام للصور. فأروع الأمثلة التي ظهرت لفن المنمنمات في العالم الإسلامي نشأت في سياقات لم تتمحور حول الإسلام في حد ذاته بل عنت في الأساس بتجسيد عناصر ذات طبيعة غير دينية من خرافات وأساطير ووقائع، وإن كان للإسلام دور في تلك السياقات الأخرى أو أنه أدرج في طياتها. لقد خدم إنجيل هاينريش الأسد غرض العرض مثله مثل النسخ المصورة من الشاهنامه، وإن اختلف الإنجيل، بوصفه كتابا دينيا، عن الشاهنامه. من جهة أخرى لم تظهر المنمنمات في الأعمال الدينية الخاصة من العالم الإسلامي إلا نادرا، كما في النسخة العثمانية المصورة من السيرة النبوية التي تعود إلى عام ١٥٩٥ والمعروضة حاليا في متحف توبكابي. وكلما تعمقنا في الفن الإسلامي بمعناه الديني الحرفي، كلما ضاقت حدود العناصر المصورة وصب ذلك في مصلحة الأقاويل التي تؤيد معاداة الإسلام للصور. مع العلم أن هذا الافتراض ينطبق خصيصا على تلك الأمثلة التي تندرج صراحة تحت فئة الفن العام (أي في متناول كافة المهتمين). وهو ما لا ينطبق على رسوم المنمنمات التي أعدت باعتبارها جزءا من مظاهر البلاط.
وتعد أبواب المساجد أبعد ما وصلت إليه إباحة الصور، أو هكذا يبدو الأمر. فقد اقتصرت العناصر المصورة في المساجد، وذلك إن وجدت، على الأشكال والزخارف المستمدة من الطبيعة، كما نراها في الفسيفساء الشهيرة في صحن المسجد الأموي في دمشق. أما العنصر الآخر المباح تصويره في المساجد فإنه يعكس العمارة في حد ذاتها، وهو ما يظهر أيضا في المسجد الأموي في دمشق (ويتميز بعضها بواقعية مذهلة). ولم تظهر العناصر والزخارف الحيوانية في العمارة الدينية إلا في بعض الأمثلة المتفرقة، من بينها نقش الأسود المنحوت على مدخل مسجد ديار بكر. „إلا أنها تظل ثانوية ولا يسعها بأي حال من الأحوال مضاهاة غيرها من أشكال الزخارف المعمارية.“ لعل أغرب مثال على التمثيل التصويري في المباني الدينية الإسلامية يعود إلى آسيا الوسطى ويظهر فيه القمر والشمس بوجوه آدمية. فنجد وجه الشمس على سبيل المثال مجسدا بين صورتين للطائر الأسطوري سيمرغ على مدخل الإيوان (بيشطاق) في مدينة بخارى أو على بوابة المدخل أو مدرسة نادر ديوان بيگي أو على النمور التي تحمل تلك الوجوه بمدرسة شير دار بسمرقند. وتتجلى لنا من خلال هذه الأمثلة نزعة توفيقية مع الديانات التي سبقت الإسلام في وسط آسيا، والتي ستتجلى لنا مرة أخرى في لاهور ولكن بشكل متخف ومحور. من جهة أخرى، أظن أنني أستطيع فيما يلي أن أبرهن على أن التشتت بين حرمانية الصور من ناحية والتوق إليها من ناحية أخرى، قد تفتَّق في أحد أعظم عصور الفن الإسلامي عن حلول توفيقية أُغفِلَت تماما أو لم تحظ بالتقدير الكافي حتى الآن. وإن هذا العصر يمثل فترة ازدهار حكم المغول في شبه القارة الهندية إبَّان القرن السابع عشر.
التوفيقية والفن البلاطي ويتجلى هذا العصر الذهبي من خلال مثال تاج محل في مدينة أغرا Agra، وهو ضريح أمر شاه جهان (١٥٩٢-١٦٦٦)، خامس أباطرة المغول في الهند، ببنائه لزوجته ممتاز محل (ارجومند بانو) التي توفيت أثناء الولادة عن عمر ٣٨ عاما. إذا ما ألقينا نظرة أكثر عمقا على هذا العصر، سرعان ما يتجلى لنا ولع المغول بالصور بجميع أنواعها. وقد استمد الحكام المغول هذا الاهتمام من المنغوليين ومن التقاليد الإيرانية، وإن كانوا قد ذهبوا في بعض الجوانب إلى أبعد منها بكثير. العديد من العوامل الاجتماعية قد صبَّت في مصلحة هذا الوضع. وبوصفهم حكام على منطقة تتباين فيها التقاليد الدينية، اتبع المغول موقفا متسامحا تجاه الأديان الأخرى، وهو ما يرجع لأسباب سياسية من ناحية وإلى تعاطفهم مع تلك الأديان من ناحية أخرى. ووصل الأمر إلى حد المناداة بالفكر التوفيقي وهو ما يعود الفضل فيه في المقام الأول إلى جلال الدين أكبر (١٥٥٦-١٦٠٥) وحفيده دارا شكوه، أكبر أبناء شاه جهان. يُقال أنه وضع دينا بلاطيا جديدا خاصا به يحمل اسم »دين إلهي«، اندمجت في طياته التقاليد الإسلامية والهندوسية والزرادشتية، بقدر ما تسنى إعادة تكوين مفهومها. أما دارا شكوه، فتعود إليه مخطوطة مجمع البحرين، وهي محاولة للتوليف بين »التصوف» في الإسلام والهندوسية، حيث لعبت التقاليد التصوفية دورا بارزا في نظرة المغول على العالم. إلا أنه ثمة سبب آخر وراء هذا الاتجاه، وهو توسيع الاتصالات مع القوات البحرية الأوروبية في الهند من خلال سفرائهم وبعثاتهم التبشيرية. فالازدهار الذي شهده فن الرسم في أوروبا الحديثة لم يلق صدى في الدولة العثمانية فحسب، بل امتد ليشمل المراكز الثقافية للمغول. وعلى الرغم من عدم ورود معلومات إلينا تُشير إلى توظيف رسامين أوروبيين في بلاط المغول، مثلما كان الحال في الدولة العثمانية، إلا أنه من المؤكد أن ثمة لوحات فردية وعناصر وتقنيات وجدت طريقها إلى شبه القارة الهندية؛ وقد قُدِّرت من قبل الحكام المغول واقتبست من قبل الفنانين.
إن وجود تلك الصلات الفنية حقيقة لا تحتمل الجدال، ولكن ما من شك أيضا أنه فيما يتعلق باستقبال فن الرسم الأوروبي وازدهار فن الرسم المغولي، لم يتعد الأمر كونه ظاهرة اقتصرت على البلاط في المقام الأول ولم يشارك فيها الجزء الأكبر من الشعب. „من أجل نخبة مختارة”: عنوان ملائم لمعرض لرسوم المنمنمات الإسلامية أقيم في عام ٢٠٠٧ بمتحف لويزيانا للفن الحديث. أما في أوروبا، فالأمر كان مختلفا، حيث أن ظهور الرسم بشكل مكثف في الكنائس منذ عصر النهضة على أبعد تقدير، وكذا انحياز الطبقة الوسطى الناشئة لهذا الشكل الفني، قد أدى إلى اعتياد فئات أخرى من الشعب على مسألة الصور. إذا ما قارنا تلك الثقافتين التصويريتين المختلفتين لتمكننا من التحدث عن وجود نهج تصويري نخبوي وآخر غير نخبوي وعن نهج تصويري باطني وآخر ظاهري. على الرغم من كونها نخبوية وباطنية، إلا أن ثقافة البلاط المغولي كانت مشبعة بالصور وأفصحت عن ولعهم بالجانب التصويري. ذلك الولع خلف آثاره ومظاهره في العصر المغولي في العديد من الأعمال الدينية، أي تلك التي في متناول العامة؛ حتى وإن كانت كثيرا ما تُجرَّد وتُقنَّع أو تُبهم، كما سنرى فيما بعد. المثال الأول لدينا يتمثل في أشكال الأفيال التي تظهر على السور الخارجي المقرمد لقلعة لاهور. فتلك الأشكال قد صورت خارج نطاق الفن البلاطي فيما يتعلق بكونها زيَّنت السور الخارجي للقلعة.
ولكن، استنادا إلى حقيقة وجود خندق واسع حول القلعة لحمايتها، لم يكن لأحد على الأرجح أن يتعرف على الهيئات وصور الأفيال إلا أولئك الأشخاص الذين تسنى لهم الاقتراب بما يكفي من القلعة. وبالتالي فإن قدرة الشخص على التعرف على العناصر بأدق تفاصيلها تعد بمثابة سمة مميزة وإشارة إلى قربه من البلاط. وكما سنتعرف فيما بعد، ينطبق الأمر نفسه على فن الرسم في مساجد المغول. حيث تسنى فقط لمن كانوا في كنف البلاط المغولي وجزءا من مجتمعه المعرفي الباطني أن يتعرفوا ويستوعبوا مدى ثراء مدلوله. وفي حالات فردية أخرى أقدم المغول على تجاوز الحدود بين النهج التصويري البلاطي والعام، لاسيما من خلال أشكال الكائنات الحية والبشرية. إذ يتجلى لنا مثالا مذهلا على ذلك في الديوان العام بالقلعة الحمراء في دلهي من خلال إفريز مرصَّع بالأحجار يجسد أورفيوس بينما يغني للحيوانات. ولكن، على الرغم من اسمه كانت إمكانية دخول الديوان العام متاحة لأشخاص بعينهم فقط، كالسفراء الأجانب على سبيل المثال، شأنه في ذلك شأن القصر بالكامل. كما تجدر الإشارة إلى مثال آخر لعملة معدنية تجسِّد وجه جهانكير وتعود إلى عهده. ويجدر بعلم النميات أن يكشف لنا عن طبيعة تداول تلك العملات. ويظهر الحاكم على العملة حاملا كأس لا يرجح أن يكون كأسا من الماء. ولكن في تفسيرنا للمغزى وراء تجسيد كأس النبيذ في الصورة، يجب أن ننحي معرفتنا بكونه شاربا متعطشا للخمر جانبا، ونضع في اعتبارنا أن كأس النبيذ ربما يرمز في هذا الصدد إلى العشق الإلهي باعتباره مشروبا روحيا، مقارنة بالقصيدة الخمرية الشهيرة للشاعر العربي المتصوف ابن الفارض (١١٨١-١٢٣٥)، أو في القصائد الفارسية للشاعر حافظ الشيرازي. ومن خلال بعض الأمثلة من مدينة لاهور، نكشف لكم فيما يلي عن إبداع المغول في تناول عنصري التصوير والتجسيد من منطلق أكثر اتساعا من هذا النطاق الضيق الذي وضعه المفهوم التقليدي، ليس فقط في العمارة الخاصة بل والعامة على حد سواء، لاسيما في المساجد والأضرحة.
تصاوير المساجد إن الزخارف النباتية هي أبرز العناصر التصويرية في العمارة المغولية. لقد حلت الزخارف الزهرية والنباتية محل الزخارف الهندسية »التقليدية» والمفضلة فيما سبق في الفن الإسلامي. وظهرت تلك العناصر بشكل أساسي من خلال ثلاثة أشكال: تقنية الترصيع بالأحجار الكريمة في أغلب الأحيان، واللوحات الجدارية أو الفريسكو على الجدران المكسوة بالجص والفسيفساء الخزفية من القرميد المصقول. و في لاهور على الأقل، اقتصرت تقنية الترصيع الثمينة على عمارة القصر وبعض الأضرحة المختارة وليس لها أي أثر في مساجد لاهور. يحتوي مسجد دائي آنجا (انظر الصور المرفقة) على زخارف مقرمدة ومطعمة؛ بينما يزخر مسجد وزير خان بلوحات الفريسكو الجدارية . تُذكِرنا الأشكال المجسدة إلى حد ما بالطبيعة الصامتة، نتعرف فيها على عناصر الزهور والفواكه والزجاجات والأكواب منفذة في معظمها برسوم تخطيطية. أما الزخارف الزهرية فهي تعكس أشكالا تجريدية وفي بعض الأحيان زهورا خيالية، وذلك على الرغم من طابعها المستمد من الطبيعة ومن النماذج الأوروبية. جدير بالذكر أن هناك أشكالا تفتقر إلى الطابع التجريدي قد جابت البلاط المغولي إبَّان الفترة نفسها، كالأوراق والمنمنمات التي رسمها الفنان المغولي أستاذ منصور والتي تفصح عن تصوير إيمائي ومحاكٍ للطبيعة يتسم بدقة تكاد تكون علمية.
إن عناصر الزهور والمزهريات الموجودة بالمساجد والأضرحة، والمتاحة بالتالي في متناول جمهور أوسع نطاقا، تمثل قاسما مشتركا وحلقة ربط أساسية مع الجماليات الباطنة القاصرة على النخبة والكامنة بطبيعة الحال في عمارة القصور وعناصرها الزخرفية. على عكس الأشكال الحيوانية والبشرية التي ارتبطت بالمجال البلاطي، نجد أن العنصر الزخرفي الزهري قد ظهر في كلا المجالين على قدم المساواة، ويرمز بدوره إلى دوام الهيمنة على المجالين العلماني والديني على حد سواء. إن تحقق هذا يعزى لإمكانية تفسير الزخارف الزهرية على الصعيدين، الصعيد التصويري الإيمائي من ناحية والتزييني الزخرفي ناحية أخرى. وهو ما يفسر في الوقت نفسه ملائمة اتخاذ عنصر باقة الورد في المزهريات كرمز للحكم المغولي بشكل عام: „إن صورة الحديقة وما بها من أزهار كانت هي الاستعارة الرئيسية التي تمحورت حولها رمزية شاه جهان الإمبراطورية”. فهي تعد بمثابة انعكاس جمالي دوام هيمنته وحكمه عبر مختلف المجالات العامة وغير العامة. ويتضح مما سبق أن عناصر الزهور (المزهريات) من شأنها أن تفي بأهداف أخرى.
مسجد وزير خان يمكن العثور على لوحات الزهور والمزهريات الأكثر غرابة في العمارة المغولية، وبالتالي في العالم الإسلامي أجمع، في مسجد وزير خان بلاهور. واستنادا إلى الكتابات الفارسية والعربية أعلى المدخل الرئيسي، فقد بني هذا المسجد بين عامي ١٦٣٤ و ١٦٣٥ من قبل شخص يدعى النواب حكيم علم الدين وزير خان، كان شاه جهان قد عينه حاكما على البنجاب في عام ١٣٦١. وبذلك يتزامن بناء المسجد مع عصر ازدهار العمارة المغولية. جدير بالذكر أن ضريح جهانكير، والد شاه جهان، قد بني في نفس الفترة بمدينة لاهور (١٦٢٨-١٦٣٨)، وأن العمل على تاج محل بدأ في عام ١٦٣٢ واستمر على مدى سبعة عشر عاما. بني مسجد وزير خان داخل أسوار المدينة في وسط منطقة السوق بلاهور.
نظرة واحدة على البوابة من الخارج تخطف الأنفاس ببهاء ألوانها المتنوعة والمتغيرة على نحو غير تقليدي. حين يمر الزائر عبر البوابة ويجتاز صحن المسجد ليصل إلى بهو الصلاة، ينتابه انطباع بالوفرة والاستفاضة والحيوية وثراء الألوان يصل إلى ذروته. تكاد تخلو العمارة الدينية الإسلامية من أثر آخر مثل مسجد وزير خان، يُبدي هذا الكم من الألوان المختلفة في الداخل والخارج على حد سواء. وتنوع الألوان والأسطح الملونة يعمل على إحياء العمارة، كما يعمل أيضا على إرباك المشاهد، إذا ما جاز لنا التعبير، حيث يصعب عليه الاختيار ما بين المساحات والعناصر ليوجه أنظاره إليها وما بين التفاصيل المختلفة ليتمعن فيها. فعلى الرغم من أن الطابع العام لهذا الاختلاف قد يتسم بالتناغم والانسجام، إلا أن كل من الألوان والعناصر والخطوط الكتابية المختلفة يتطلب قدرا خاصا به من الانتباه. ويبدو خلال ذلك أن التركيز ينصب على العناصر الفردية أكثر منه على الانطباع العام. ويتولد في الوقت نفسه تفاعل وإثارة بين كل عنصر من عناصر التصميم وبين الانطباع العام للمبنى الذي لا يزال قائما بطبيعة الحال، وهي أمور نفتقدها في الزخارف الأكثر تقليدا المنتشرة في أغلبية المباني الدينية الإسلامية (والمغولية(.
„باروكية إسلامية”؟ واستنادا إلى هذا الانطباع ربما أمكننا الحديث عن „باروكية إسلامية” تكون بذلك قد تزامنت مع الباروكية الأوروبية. فالطابع الباروكي ينبع من تعدد الألوان والأشكال، ومن بذخ المواد المتاحة والاهتمام بتفاصيلها، ومما يتسم به الانطباع العام من ديناميكية وحيوية. كما يتميز بكونه متجددا، ففي كل مرة يتطلع المرء إليه ويظن أنه قد تعرف على كافة تفاصيله وهيئته، يكتشف شيئا جديدا أو رؤية جديدة لشيء مألوف.
ونلاحظ ظاهرة أخرى في باحة الصلاة، ألا وهي عدم وصول ما يكفي من ضوء الشمس إلى تلك المنطقة في أي وقت من أوقات اليوم، وهو ما ينجم عنه تباين في الإضاءة بين باحة الصلاة وصحن المسجد، فيخلق بدوره وبالاستناد إلى تلك الوفرة من العناصر الزخرفية والكتابية والتصويرية التي تكاد تفوق الإدراك، جوا من الغموض والشعائرية والقداسة ومن الظواهر الداخلية والباطنة في مقابل تلك الخارجية والواضحة أي الظاهرة. وفي سياق خيط أفكار جيل دولوز في كتابه »لايبنيتز والباروك« يتسنى لنا إدراك هذا التناقض كطي (إبطان) وتفتح (إظهار). فيتجلى التشابه مع العصر الباروكي بقدر انطباق هذه النظرية على مسجد وزير خان . وإن مسجد وزير خان يعطي هذا الانطباع بالقداسة أو بكونه معبدا، أكثر بكثير من مساجد أخرى. فالمشاهد في العصر الحديث يرى الغموض في تلك العوالم التصويرية، لكونه لا يتوقعها ولا يدركها أو يستوعب تفسيرها إلا جزئيا، حتى وإن كان على دراية جيدة بالثقافة الإسلامية. ولكن، يمكننا الافتراض في الوقت نفسه أن العديد من جوانب المسجد قد تكشفت جزئيا أو لم تتكشف بالمرة حتى للمعاصرين من المغول ممن يفتقرون إلى الخبرة. وبالتالي فإن ما ينطبق على الزخارف الكتابية بتاج محل، ينطبق إلى حد ما على رسوم مسجد وزير خان: „تتمتع تلك الكتابات بجاذبية من الناحية الجمالية وإن صعُب قراءتها: حيث تقع بعضها في أماكن معتمة والبعض الآخر في أماكن شديدة الارتفاع أو على مسافة بعيدة مما يصعِّب عملية القراءة، كما أن معظمها قد كُتب بأسلوب معقد بحيث يعجز الزائر العادي عن فك رموزها”. وعلى الرغم من أن كل نقش من النقوش الكتابية، سواء بشكل عام أو في مسجد وزير خان، قد جذب الاهتمامات البحثية، إلا أن غالبية الكتَّاب قد تطلعوا إلى الزخارف النباتية والمزهرية من المنطلق الزخرفي البحت؛ أي أنه فيما يتعلق بصلتها بمجموع الزخارف، وهي صلة قائمة بكل تأكيد، لا يعتد بتلك العناصر كصور فردية قابلة للتفسير أو الاستكشاف.
التحليل التفصيلي وفي مقال له نُشِر عام ١٩٩٢ في نشرة متحف لاهور، يوضح كامل خان ممتاز النتائج المثمرة التي تترتب على تحليل كل لوحة على حدة ودراستها بشكل تفصيلي. ويطرح الكاتب سؤالا بديهيا حول ما يمكن رؤيته في جدارية كائنة بمكان مثير للانتباه في باحة الصلاة. ولفك رموز هذا اللغز استعان الكاتب على سبيل التوضيح بسورة »الفاتحة» التي تزيِّن مدخل باحة الصلاة وكذا بالسيرة النبوية فيما يتعلق بمناسبات نزول هذه السورة. وافترض من خلال ذلك أن تلك الخصلات السوداء أعلى أغصان الشجرة ترمز إلى الشعر الذي حلقه محمد بعد صلح الحديبية وقذف به على شجرة السمرة أو المعروفة الآن بشجرة السنط، وذلك بعد أن عجز وأتباعه عن الوصول إلى مكة لأداء العمرة، وفقا لما ذُكِر في السيرة النبوية لابن إسحاق.
وعلى الرغم من بديهية ذلك التفسير من وجهات النظر الدينية، إلا أنه يثير بعض التساؤلات. فتلك السورة التي تحيط بمدخل باحة الصلاة لا تربطها باللوحة صلة مباشرة ومتجلِّية بوضوح للمشاهد. حيث أن سلسلة العلاقات القائمة بين السورة القرآنية واللوحة لا تتجلى إلا عبر جسر يتمثَّل في السيرة النبوية. وحتى وإن كان في مقدورنا الافتراض بأن السيرة النبوية كانت معروفة لدى المثقفين دينيا في لاهور إبان القرن الـ ١٧، فإنه لا يجوز خلق مثل هذه الصلات إلا في حالة انتشار صور مماثلة تجسد السيرة النبوية، أو إذا ما كانت تلك الصور قد فُسِرَت للزائرين (أو على الأقل لمجموعة مختارة من بينهم).
وعلى الرغم من أن كلا الاحتمالين مستبعدين، إلا أن المرء يرغب في جميع الأحوال في التعرَّف على الشخصية التي ابتكرت مثل هذا المخطط التصويري، الذي يتطلب تفسيرا، والغرض منه. ولكن، وفقا لما ذكره كامل ممتاز، فإنه، وبكل أسف، لم يتسن تحديد هوية المهندس المعماري الخاص بمسجد وزير خان بشكل قاطع. ونظرا لما أثاره تحليل كامل خان من تساؤلات، حاول البعض إيجاد تفسير يخلو من مثل هذا الكم من الفرضيات المسبقة، ويعتبر في الوقت نفسه أننا بصدد نموذج للتصوير الإيمائي بشكل أو بآخر. ما الذي يمكننا التعرف عليه في هذه اللوحة، إذا ما تطلَّعنا إليها بلا خلفية دينية معرفية؟ أي جانب من جوانب الواقع من الممكن أن يكون قد تم تجسيده في هذه اللوحة؟ لا تتكشف الترجمة الإيمائية الواقعية للوحة، إلا إذا ما انطلقنا من قاعدة عدم تجسيد الكائنات الحية (عدا النباتات) في المساجد أو في أية سياقات دينية أخرى. فهي لا تظهر في اللوحة المذكورة من خلال المنظور الواقعي، ولكنه يُشَار إليها ضمنا. دعونا نبدأ بتفصيلة عرضية: هل تلك الأشكال المقوسة البيضاء الكائنة في الجزء العلوي من اللوحة تجسِّد السحب حقا، كما ذكر كامل خان؟ أليس من الوراد أيضا أن تكون طيورا؟ إن عدم جواز تجسيد الطيور باعتبارها كائنات حية، وعدم تجسيدها بشكل واقعي، لا يعني أن تلك العناصر ليست طيورا، بل أنها لم تجسد فقط بشكل صريح. ويعد إنساب تلك الأشكال إلى الطيور مرجحا لأنه في سياقات أخرى أقل تعقيدا نادرا ما تُجسَّد السحب في هذا الموضع، على عكس الطيور. وهذا لا ينطبق على رسوم المنمنمات التي أعدَّها أستاذ منصور بالبلاط المغولي فحسب، بل وعلى عناصر الزهور والمزهريات التي تنتمي للمحيط الزمني والجغرافي لمسجد وزير خان.
فنجد مثلا عند مدخل حدائق شاليمار بابا ما زال يحمل زخارف مماثلة حتى يومنا هذا. حيث جُسِّدت الطيور هنا بشكل صريح مقارنة بالأشكال المقوَّسة في الشكل السابق، وهذا يعود على ما يبدو إلى عدم وجود إشكالية في تجسيد مثل هذه الكائنات الحية في الحديقة، أي في سياق غير ديني. وثمة باب آخر في متحف لاهور يحمل زخارف مماثلة. ولكن في حالة ما إن كانت العناصر المجسَّدة طيورا وليست سحبا (وهو قرار نتركه في نهاية المطاف للمشاهد)، فما الهدف من تجسيدها؟ إنها تهدف على الأرجح إلى ذلك الذي يهدف إليه أي عنصر آخر من العناصر الإيمائية لا أكثر ولا أقل: ألا وهو التعبير عن السعادة بالموجودات بدلا من الإشارة بشكل حصري إلى العالم الآخر، وهو ما يُنسب إلى الثقافة الإسلامية بشكل تعميمي ومبهم في الكثير من الأحيان. في أسلوب مماثل تجسد اللوحات البلاطية لأستاذ منصور ذلك الشغف بالموجودات على وجه الخصوص وكذلك تعدد وجوهه وجماله. إن الاتجاه إلى تجريد أشكال الطيور في صحن الصلاة بمسجد وزير خان ربما يشير على أية حال إلى ذلك الشعور أو بالأحرى إلى المنظور الدنيوي للعالم. وربما تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن مسجد وزير خان لا يزال حتى يومنا مكانا لهبوط وتعشيش طيور الحمام بمدينة لاهور، وأن صورة المسجد ترتبط في أذهان سكان لاهور بمناظر طيور الحمام التي تحوم حول المئذنة والقبب.
وبالاستناد إلى البعد الديني الذي أُسنِد إلى طيور الحمام في الموروثات المقدَّسة (حيث تناولها الإسلام والمسيحية على حد سواء) تكتمل الصورة؛ فيفتح الواقع الدنيوي المشار إليه في اللوحة، والذي يتمثل في الطبيعة الفانية للطيور، المجال أمام إمكانية إعادة تفسير اللوحة ولكن من خلال رؤية روحانية للعالم. ما الذي تجسده خصلات شعر الرسول (وفقا لتحليل كامل خان) إذا ما تعين علينا إعادة التفكير فيها في السياق الإيمائي ولكن في ظل جهلنا بالخلفية الدينية؟ وفي هذا الصدد أيضا ستوفر لنا المقارنة مع أمثلة أخرى حلا للغز: لدينا لوحة لأستاذ منصور تعود إلى عام ١٦١ أي قبل بناء مسجد وزير خان بثلاثين عاما فقط. تجسد اللوحة مجموعة من السناجب تفر من الصياد إلى أعلى الشجرة. تظهر السناجب بأذيال طويلة سوداء تفوق أحجامها الحجم الطبيعي، وهو ما يذكِّرنا بقوة بخصلات الشعر الكائنة في لوحة مسجد وزير خان، أي أن خصلات الشعر تبدو وكأنها صور تجريدية للسناجب. ينبغي الإشارة إلى أني أجد التفسير الروحاني للوحة الذي قدمه كامل خان تفسيرا مقبولا إلى درجة كبيرة. ولكنني أود أن أطرح إمكانية تفسير المشهد تفسيرا واقعيا إيمائيا أيضا، في حالة أن أراد المشاهد ذلك. وتتجلى أهمية هذا الاستنتاج في سياق تفسير الزخارف التصويرية الأخرى الكائنة في مسجد وزير خان، والتي تجسد زهورا داخل مزهريات. حيث أن تلك الزخارف لا تُتَرجَم عادة إلا على المستوى الإيمائي وكأنها لا تجسِّد أو تُشير إلى شيء آخر عدا الزهور، والتي تُفَسَّر وفقا للافتراض الشائع (كي لا أقول القوالب النمطية) على أنها رموز لحدائق الفردوس. وبذلك تُستَبعَد من البداية أية إمكانيات أخرى للتفسير ويُقيَّد خيال المشاهد وكذا سعادته في خلق علاقات تضمينية بمقتضى المعايير الإسلامية المزعومة.
الصور المؤطرة يثير تحليل تلك اللوحة من جهة أخرى تساؤلا حول وجود صلة بينها وبين غيرها من اللوحات الأخرى التي وُضِعَت في مواقع مماثلة، وحول طبيعة هذه الصلة إن وجدت. مقارنة بسائر مساحة سطح الجدار وبغيرها من اللوحات الأخرى، نجد أن تلك اللوحات قد وُضِعَت داخل حنية صغيرة يبلغ عمقها نحو خمسة عشر سنتيمترا، وهو ما يعطي انطباعا بوجودها داخل إطار ويذكرنا على الفور بلوحات التراث الغربي. وعلى ما يبدو تتمثل وظيفة تلك الحنيات، والتي لابد وأنها أدرجت ضمن تخطيط البناء منذ البداية، في تسليط الضوء على كل لوحة على حدة وإبراز فرادتها وبالتالي فرادة العناصر التي تجسدها، على غرار الأطر التي تحيط باللوحات في التراث الغربي. وهو ما يشير إلى أن افتراض وجود تأثير غربي في هذا الصدد ليس ببعيد تماما عن الواقع. وتزخر الممرات المؤدية إلى باحة الصلاة بستة من تلك اللوحات »المؤطَّرة« على نحو أفقي.
وإن هذا الأسلوب المتبع في التأطير، والذي يعتمد على التعميق، نلتقي به مرة أخرى في الجداريات الكائنة على جانبي بوابة المدخل. ويثير وضع اللوحات المؤطرة فوق بعضها البعض انطباعا يحاكي تأثير اللوحات المعلقة فوق بعضها البعض بالكنائس الباروكية في أوروبا، أو التأثير الذي يثيره معرضا للوحات مليئا بالصور المعلقة. وبالتالي تتمثل إحدى التأثيرات الملفتة لأسلوب التعميق في وقوع حواف الصور دائما في الظل. وإن كان هذا التأثير مقصودا عن عمد ــ ويجوز لنا أن نفترض القصد العمد في جميع التأثيرات التي تنطوي عليها مثل هذه التحف الفنية المعمارية ــ فإن وجوده يمكن أن يٌفسر بعدم جواز ظهور جميع الصور في وقت واحد وبكافة التفاصيل. كما تنتج عن تأثير العمق ظلال تتأثر بموقع الشمس، وتلك الظلال لها تأثير مشابه للوشاح حين يحجب الوجه جزئيا، وجه المرأة على سبيل المثال. وهذا الاحتجاب يشير في الوقت نفسه إلى سر كامن وراءه، وكما هي الحال مع تمثال إيزيس الملثم يتعلق هذا السر بمقدس يُقصَد إخفاءه، وإن كنا لامسنا وجوده بالفعل في أجواء باحة الصلاة نصف المظلمة أو بالأحرى المتدرجة بين الضوء والظلام. وتذكرنا تقنية الكياروسكورو (الجلاء والقتمة) المستخدمة هنا بتأثيرات مشابهة (مرسومة بالطبع) في فن الرسم الباروكي، وهي لا تظهر هنا بوصفها عنصرا من عناصر الرسم بل كتأثير إسقاط ضوئي محدد (أي كتأثير إخراج ضوئي معماري) على اللوحات. وفي النهاية تجدر الإشارة إلى أننا لا نلتقي عادة بمثل هذه اللوحات الغائرة سوى في حصن لاهور، وتحديدا في قاعة المرايا الشهيرة.
نباتات أم حيوانات: الصور الملغَّزة حين نلقي نظرة فاحصة على اللوحة »المؤطرة« التي تقابل تلك التي تناولها كامل خان والتي يظهر في خلفيتها نفس اللون الأحمر القاني وكأنه انعكاس للوحة الأخرى، فسنلاحظ أن كلتا اللوحتين لا تظهر فيهما عناصر زخرفية لزهور أو مزهريات بل لأشجار. وإن هذه اللوحة، المقابلة لتلك التي يُفترض أنها تصور »شعر الرسول«، تجسد أربعة أشجار وليست واحدة. ولكن حتى وإن افترضنا أن أشجار السرو ترمز إلى الإنسان الكامل الذي يرمز إليه النبي محمد لوصفه بالمثالية، فإنه ليس من السهل ترجمة المغزى الروحاني للصورة. ولكن ثمة شيء آخر يمكننا اكتشافه إذا اعتمدنا على المعاينة البصرية فحسب: فبدلا من أربعة أشجار وبضعة أزهار يمكن للمرء، مستعينا ببعض الخيال، أن يتعرَّف على شكل تجريدي لرأس حصان (أو حيوان آخر أحادي الحافر من فصيلة مشابهة) وذلك على الجهة اليسرى في محل قمة الشجرة التي تتخذ شكلا غريبا.
إن القدرة على التعرف على رأس الحصان في محل قمة الشجرة، ليست فكرة بعيدة تماما عن الواقع كما قد يبدو للوهلة الأولى. وإن عدم إجازة تجسيد أشكال الحيوانات والبشر في الأبنية الدينية لا ينبغي أن يعيقنا عن هذا التصور، لأنه مجرد تصور! ففي المرحلة الأولى، أي في مرحلة الرؤية السطحية، تقتصر رؤيتنا بالفعل على الأشجار الأربعة وأوراقها. وعلى ذلك فإن الصورة في حد ذاتها لم تنتهك مبدأ حرمانية الصور، بل إنه خيال المشاهد. ولكنه يجوز لنا أن نزعم أن خيالنا يُحفَّز بالفعل لرؤية ما هو أكثر مما يظهر على المستوى السطحي، كلما انشغلنا أكثر بالصور الكائنة في مسجد وزير خان وأطلقنا لها العنان بداخلنا. ألم نعتقد أننا وجدنا شعر الرسول مجسدا في إحدى الصور، وهو إسناد يتطلَّب بعضا من الخيال والسعادة في خلق علاقات تضمينية بقدر معقوليته؟ كما تسنى لنا اكتشاف أشكال لسناجب وطيور في اللوحات الجدارية. وسوف نتطرق فيما يلي إلى حقيقة احتواء الصور على مجموعات حيوانية وليست نباتية فحسب. فإذا ما ألقينا نظرة فاحصة على الصور فسوف نكتشف أن الزهور المجسدة في الصدارة لا تحاكي الطبيعة بأي شكل من الأشكال، أو أنها رُسِمَت بشكل سيء إذا ما افترضنا أنها هدفت في الأساس إلى محاكاة الطبيعية. ولكن بعدها عن الطبيعة لا يعني بأي حال من الأحوال أنه لا يجوز إلا وأن تكون رموزا، لزهور الفردوس على سبيل المثال. مثلها مثل فنون الرسم الحديثة كالرسم التكعيبي على سبيل المثال، تتمحور الغالبية العظمى من تلك العناصر الزخرفية حول نماذج تعمل على تحفيز المشاهد لالتقاط التجريد والتحريف والتحول المنظوري ودمجها معا لتكوين أشكال معهودة، أي التعرف على عناصر لم تُجسَّد بشكل واضح على الإطلاق وإعادة تركيبها داخل الأذهان.
وحالما نفترض بشكل مبدئي احتمال كوننا بصدد هذا النوع من الجماليات، يتفتح أمامنا العالم التصويري لمسجد وزير خان من جديد وعلى نحو أفضل، معرضين أنفسنا بطبيعة الحال إلى خطر الوقوع في مفارقة تاريخية عبر استخدام رؤيتنا المتمرسة على الفن الحديث في سياق مختلف تماما. والأشكال التي لم تتعد في السابق كونها زهورا منتشرة في المكان تفتقر إلى أي معنى فني أو وظيفة عدا ملء الفراغات أصبح بإمكاننا الآن أن نراها كفراشات. إن ربط هذا العدد الهائل من الزهور، التي تتمتع بمدقة كبيرة على غير العادة، بأشكال النحل لهو تصور وارد إلى حد كبير؛ بل وربما كان الهدف من هذا العنصر هو تجسيد الشكلين في آن واحد، النحل وكذا المدق. كما نلتقي بظواهر مشابهة خارج نطاق مسجد وزير خان. فنرى في الممر المؤدي إلى ضريح جهانكير في شابدره كما في لاهور كيفية تحور أطراف مقابض إحدى المزهريات لتتخذ أشكالا لرؤوس بجع. وفي صورة أخرى يمكن التعرف فيما يبدو على أشكال لطيور بجع محلِّقة. لكل شخص الحرية في جحد هذه الصلة، وهو ما سيفعله أولئك الذين يرفضون فكرة احتواء المباني الدينية في الإسلام على مجسدات للطبيعة الحيوية لأسباب دينية أو يرونها بعيدة الاحتمال لأسباب أخرى. إلا أن من يتجرأ ويحاول تجاوز هذا النوع من الرقابة الذاتية أو حظر التفكير أو الحكم المسبق بوسعه أن يتعرف على مثل هذه العناصر ويدرجها ضمن التصاوير. ويبدو أن هذا الأمر بالتحديد هو إحدى السمات الرئيسية المميزة لهذا النوع من الرسم، ويتمثل في التورية بين الرؤية والخفاء والتفاعل بين الظاهر والباطن (في سبيل التقاط مصطلحات رئيسية في علم الكلام الإسلامي). مع العلم أن من يعزف عن ذلك، بإمكانه أن يرى في تلك العناصر الزخرفية إشارة إلى الفردوس ولكن من خلال تجسيد جامد لا روح فيه. على عكس من يتبع هذا المنهج، فبمجرد تواجده في باحة الصلاة يكون قد دخل فردوسا براقا نابضا بالحياة يهيم في أرجائه النحل الطنان والفراشات. فعن إحدى الروايات الشهيرة يقول علي ابن أبي طالب، ابن عم النبي وأول الأئمة لدى الشيعة: „الناس نيام، إذا ما ماتوا انتبهوا”.
إن دخول باحة الصلاة، باعتبارها دار فردوس ولكن في الحياة الدنيا، يحدث كعملية إحياء لحيوية إدراكنا وخياله المثمر، ذلك الإدراك الذي كان سابقا في وضع سبات تقريبا. كما تجدر الإشارة، وإن كان هامشيا، إلى سلسلة أخرى ملفتة للنظر، وإن كانت اصطناعية، من ورود أو أزهار مجسدة في اللوحات الجدارية بشكل ذي طابع خاص. حيث يذكرنا العديد منها بالأزهـار بشـكل الصليب المعقوف، لما لها من إطار مميز واصطناعي في الوقت نفسه. وإننا لنلتقي أيضا بعنصر الصليب المعقوف (لذكر واحد من بين العديد من الأمثلة المحتملة) في إحدى زخارف القيشاني بضريح جلال الدين أكبر في سيكندرة. وفي زخارف مسجد مريم زماني في لاهور نلتقي بالنسخة ثلاثية الأذرع من هذا الشكل. ويمكننا في جميع الأحوال أن نعتبر ظهور هذا العنصر من باب الصدفة، سواء كان في الزخرفة أو في دوران الأزهار، على أن كونه صدفة في هذه الحالة هو الاحتمال الأقل ورودا مقارنة بكونه مجسدا عن عمـد. إذا ما أخـذنا المحتـوى الرمـزي للوحـات مسجد وزير خان على محمل الجد واعتبرنا أن أشجار السرو ترمز إلى الإنسان الكامل، أي إلى الرسول محمد (كما يرى معظم المفسرون)، فسنجد أنه من المنطقي أن تحمل تلك الأزهار، التي تتخذ شكل الصليب المعقوف وليس لها وجود على أرض الواقع، إشارة ضمنية إلى عناصر من التراث الهندوسي تم تضمينها في المخطط التصويري لمسجد وزير خان. بل إن هذا التفسير يفرض نفسه في ضوء الفكر التوفيقي المشار إليها سابقا، والتسامح الديني الذي تمتع به العديد من الحكام المغول. علاوة على أن البلاط المغولي قد ضم علماء فلك من المسلمين ومن الهندوس على حد سواء، فضلا عن الدور البارز الذي لعبه الأعيان الهندوس في تسيير الدولة. وسيكون من الغريب حقا ألا تخلِّف تلك التعددية الدينية، التي اصطبغ بها الحكم المغولي وانعكست على التكوين السكاني متعدد الأديان، أثرا في الهندسة المعمارية الدينية ـ حتى وإن لم يُشر إليها في أي موضع ضمن الأبحاث التي أجريت على مسجد وزير خان، أو كانت مثل هذه الآراء مبغوضة على الأرجح من المنظور الإسلامي الباكستاني.
التورية في الصور إن فكرة رؤية قمة الشجرة كتجسيد لرأس حصان في تلك اللوحة المؤطرة (المقابلة لتلك التي يُفترض أنها تصوِّر شعر الرسول) ربما تبدو جريئة، حتى وإن أقر المرء بأن مسجد وزير خان لا يخلو من الإشارة إلى عناصر من الطبيعة الحيوية. ولكنني أراه من غير المحتمل أن يكون هذا الانطباع مجرد صدفة. ولا يسعنا الاقتناع بعشوائية هذا التأثير إلا في حالة عدم إشارة اللوحات الأخرى ضمنيا إلى قدر من الحيوية، أي إن كان المخطط التصويري في كل المواضع الأخرى بالمسجد يستبعد أي احتمال للتورية. ولكن حين تتضمن اللوحات الجدارية فلسفة جمالية قابلة للتفسير على عدة مستويات ممثلة تحديا للمفسرين بما تحويه من غموض، فإن فكرة التورية بين الشجرة ورأس الحصان لا يمكن استبعادها من البداية. وبالتالي نكون بصدد حالة من الحالات النادرة في الفن الإسلامي والمتمثلة في الصور الملغزة أو picture puzzles. إن شروط توافر الصور الملغزة تتحقق حين تسمح الصورة بوجود منظورين، وفي أفضل الأحوال يتم التعرف على إحداها في التوقيت الذي يتعذر فيه الكشف عن الأخرى. وتضم هذه الظاهرة العديد من النماذج المختلطة. من أشهرها الوجوه المجازية التي رسمها أرشيمبولدو في لوحاته (١٥٢٧-١٥٩٣) والمركبة من عناصر خاصة بفئة أو مجال محدد. وارتباط مسجد وزير خان وكذا لوحات أرشيمبولدو بنفس الفترة الزمنية بشكل أو بآخر لا يمكنه أن يكون من قبيل الصدفة:الفترة الزمنية التي ضمت مطلع العصر الحديث وعصر النهضة المتأخر وحركة الأسلوبية (مانييريزمو). إلا أن التورية في لوحات أرشيمبولدو تختلف اختلافا واضحا عنها في لوحات مسجد وزير خان. حيث يتسنى لأي مشاهد على الأرجح أن يتعرف في لوحات أرشيمبولدو على الوجه وكذا على العناصر المكونة له ـ فهي لا تخفي سرا عظيما.
ولكن ما تتمتع به لوحات أرشيمبولدو من شفافية وسهولة فهم هو بالتحديد ما يثير الاهتمام بها. إذ أننا يجب أن نضع في اعتبارنا أن معاصريه لم يعايشوا تلك الوفرة التصويرية ولم يتمرسوا على مشاهدتها والاطلاع عليها كما هي حالنا الآن. ولذا فإنه ينبغي علينا أن نفترض أن لوحات أرشيمبولدو كانت بالنسبة لمعاصريه زاخرة بالاكتشافات، في الوقت الذي تبدو لنا فيه واضحة وخالية تقريبا من الأسرار والألغاز.
إضافة إلى ذلك فإن تأثير وجوه أرشيمبولدو المجازية تسير في اتجاه استنتاجي معاكس لمثيله في لوحات مسجد وزير خان مزدوجة التفسير. ففي لوحات أرشيمبولدو يرى المرء في البداية الصورة الشاملة، أي الوجوه، ثم (وفقط مع الاقتراب أكثر من اللوحات) يكتشف العناصر المكونة لها. وإذا ما تطلعنا إليها من هذا المنطلق، فسوف نجد أن تلك اللوحات ما هي إلا دروس تعليمية في البنائية الجمالية، حيث يتمثل طابعها التعليمي في كونها تعيد الوعي إلى عنصري المشاهدة وعملية الإدراك. ولعله ليس من قبيل الصدفة أن تنشأ كتابات رينيه ديكارت (١٥٩٦-١٦٥٠) و جورج بِركلي (١٦٨٥-١٧٥٣) حول فلسفة الإدراك بعد نشأتها ببضعة عقود فقط. ولكننا لا نلتقي في لاهور بهذه الترجمة المزدوجة ذات الطابع شبه التعليمي التي تتيحها صور أرشيمبولدو الملغزة. ففي لاهور لا يسعنا اكتشاف الصور الملغزة إلا إن كنا نعرف مسبقا عم نبحث. وفقط أولئك المعاصرون الذين عرفوا ذلك، هم من أتيحت لهم الفرصة على الأرجح لاختراق أسطح الصور الملغزة واكتشاف الصور الأخرى الكامنة فيها أو التعرف على رموزها. فقد كانوا يتمتعون بمعرفة وخبرة في التعامل مع الصور، لم تتمتع بها إلا النخبة البلاطية آنذاك في ظل دولة المغول. ولكن، حتى نتمكن من دعم هذه النظرية باستخدام صور ملغزة من لاهور، نحن بحاجة إلى أمثلة أفضل من عنصر الحصان السابق ذكره أو تفسير بعض العناصر الفردية في الصور على أنها حيوانات صغيرة أو حشرات أو حتى رموز. وإننا لنلتقي بتلك الأمثلة في مكان غير متوقع، في مسجد دائي آنجا الكائن بمنطقة نولاكها بجوار محطة السكة الحديد خارج سور مدينة لاهور.
الصور الملغزة في مسجد دائي آنجا إن مسجد دائي آنجا في لاهور هو أقل شهرة بكثير من مسجد وزير خان ولا يزار على الأرجح إلا نادرا من قبل سائحي لاهور محدودي العدد. لقد بني هذا المسجد في الأساس على إحدى الطرق الشريانية في لاهور، وهو الطريق المؤدي إلى مدينة دلهي. ومنذ أن أنشأ البريطانيون شبكة السكك الحديدية، أصبح المسجد يطل على قضبان السكك الحديدية مباشرة بالقرب من محطة القطار، إلا أنه يصعب العثور عليه لوقوعه وسط إحدى الأحياء الفقيرة في نهاية طريق مسدود مؤد إلى القضبان.
تتراوح البيانات حول تاريخ الإنشاء بين عامي ١٦٣٥ و ١٦٤٩. ولكنه شيد في جميع الأحوال في فترة زمنية متقاربة مع مسجد وزير خان. وسوف أقتصر فيما يلي على تناول العناصر الزخرفية لكونها هي التي تثير اهتمامنا في هذا الصدد. ويتضح من خلال الصور التي قمت بالتقاطها أنه جرى تدمير أجزاء من المسجد أو أنها سقطت ضحية لأعمال الترميم الأخيرة. إلا أنه ما زال يحتفظ بالعناصر الحاسمة، وهي زخارف القرميد المرصعة الكائنة على القبة الوسطى أعلى باحة الصلاة وأعلى المحراب وعلى العقود المدببة المؤدية إلى الخارج وإلى الإيوانات الجانبية. إن المشاهد الذي يفتقر إلى الخبرة لن يرى في هذه الزخارف المقرمدة إلا مجموعة أشكال شديدة التجريد لأوراق وأزهار ومزهريات. على عكس من يراعي فكرة الصور الملغزة لدى مشاهدته لتلك الزخارف، حيث سيتمكن من تركيب العناصر النباتية معا لتكوين أشكال لرؤوس حيوانات. فيمكننا التعرف مثلا على رؤوس لنمور وأسود وغيرها من القطط المفترسة على الأغلب، كالفهود الصيادة التي رُوِّضَت من قبل المغول لغرض الصيد، أو الفهود الثلجية والتي ربما عرفها المغول من أفغانستان أو من منطقة الهيمالايا، وربما أمكننا التعرف أيضا على شكل لرأس نعامة. إلا أن الأمر لا يتعلق في هذا الصدد بتخصيص كل صورة لكائن معين. بل إن الأمر يترك بالأحرى لمخيلة المشاهد. ولكنه ليس من السهل دحض إمكانية تفسير الفسيفساء المقرمدة على هذا النحو، وسيكون من الغريب حقا أن تُعزى هذه التفسيرات إلى الصدفة البحتة أو إلى عادات المشاهدة الحديثة. وثمة أمر آخر يؤيد نظريتنا بشأن هذه الزخارف، وهو إبراز الجاذبية الجمالية وما يترتب عليها من تعزيز للثراء المضموني ـ مقارنة بالافتراض بأن هذه الزخارف ليست سوى عناصر نباتية مجردة.
وتعد المواقع التي تتخذها تلك الصور الملغزة داخل الساجد من الجوانب المثيرة للانتباه: فهي جلية لكل مصلي وكل من يطأ المسجد. فمن يتجه نحو القبلة ويركع في اتجاه مكة، يقيم بذلك صلاته تحت أنظار القطط المفترسة. وكأنها تحرس الصلاة والإيمان على نحو مماثل للمغول، الذين اعتبروا أنفسهم حراسا على الدين، مهما قد يبدو المفهوم الديني المغولي غير تقليدي في أعين بعض المراقبين. وفي الوقت نفسه جسدت أعين القطط المفترسة دور النائب لأعين الحكام المغول الساهرة، التي اعتبرت بدورها نائب دنيوي لعين الإله على الأرض. واستنادا إلى المقولة النمطية التي تقضي بحرمانية الصور في الإسلام، فإنه ليس من المستغرب ألا تنتبه الأبحاث الفنية التاريخية إلى مثل هذا التفسير حتى يومنا هذا، بل وأن تضيع تلك المعارف على ما يبدو بين السكان المحليين، وهو ما يتبين من أعمال الترميم التي أجريت مؤخرا في الجزء السفلي من باحة الصلاة. ولكن إن كانت الترميمات قد سارت (من قبيل الصدفة على الأرجح) وفقا للمخطط الأصلي، يكون تأثير الصورة الأصلي ذو المعنى المزدوج لا يزال قائما، حتى وإن غابت نية تحقيق عامل التورية عن البال. وخلال زيارتي للمسجد تسنى لي مشاهدة الحرفي المسئول عن قطع القرميد من أجل أعمال الترميم الجارية أثناء عمله ، ولا يملك أدنى فكرة أنه ربما يكون بذلك قد انتهك حرمانية الصور.
الانتقال من الزخرفة إلى الصورة إن التفكير بشكل أساسي في العلاقة بين الزخرفة والصورة يفيد في السياق التالي. فإنه لمن قصر النظر أن نرى الهياكل الزخرفية مجرد زخرفة أو أشكال مجردة لهياكل موجودة في الطبيعة (كالنباتات أو المحالق). على أن إمكانية الانتقال من الزخرفة إلى الصورة الملموسة متاحة على الدوام ومدرجة ضمن كل هيكل من الهياكل الزخرفية. إلا أن عملية التوسع نحو الصورة الملموسة لا تتكشف آفاقها، إلا في حالة عجز الزخرفة عن تحقيق تلك الإمكانية. وتسير عملية الانتقال على نحو سلس بحيث يصعب من الناحية الموضوعية تحديد اللحظة الحاسمة التي تتحول فيها الزخرفة إلى صورة مجسدة، فهي رهن عين الرائي. إن أعمال م.ك. إِشِر المستوحاة من الفن الإسلامي والتي عُرِضَت في متحف المناطق الاستوائية بأمستردام عام ٢٠١٣، تجسد هذا الاستنتاج وتساهم في استيعاب الفن المغولي للصور الملغزة.
هل نستند في هذه التأملات إلى سوء فهم عصري، أم أننا سقطنا ضحية لعادات المشاهدة خاصتنا التي تتسم بالتعقيد الشديد والمتمرسة على ما يتميز به الفن الحديث من تعدد تكافئي؟ إلا أن وجود مثال آخر شهير على هذا الانتقال من الزخرفة إلى الصورة المجازية في الطرف الآخر من العالم الإسلامي (والذي لم يعد إسلاميا في ذلك الوقت) ومن فترة معاصرة تقريبا للعمارة المغولية، يتناقض مع هذا الافتراض. وقوة هذا المثال لا تعزى فقط إلى حقيقة معاصرته للعمارة المغولية بل ولكونه يتغذى أيضا على مصادر توفيقية ويدين بوجوده إلى مزيج ثقافي ذو طابع خاص. وينتمي هذا المثال إلى ما يسمى بالفن المدجن الذي نشأ في بالأندلس عقب حروب الاسترداد، ويتمثل في زخرفة مقرمدة كائنة في بهو كارلوس الخامس بقصر الكازار بأشبيلية، نشأت في ورشة كريستوبال دو أوجوستا (في الفترة بين ١٥٧٧ و ١٥٨٣).
تمتزج في هذه الزخارف العناصر النباتية والوجوه وصور الحيوانات معا بحيث لا يتسنى التفريق بينها إلا مع تمعين النظر والانتباه إلى التفاصيل. فاختلاف الظروف الثقافية الاجتماعية والعقائدية الدينية في عهد المغول قد أدى إلى استحداث حلول جمالية مختلفة من أجل إضفاء طابع تصويري على الزخارف. وإن إمكانية إضفاء هذا الطابع التصويري لا تُعزى إلى عادات أو متطلبات المشاهدة الحديثة. فالزخارف المقرمدة في باحة الصلاة بمسجد دائي آنجا قد حققت هذه الإمكانية بأسلوب بارع وغير متطفل. إذ تُرِكَت مسألة التعرف على رؤوس الحيوانات على سبيل المثال لحرية المشاهد، فهو ليس فرضا. وبالتالي فإن مزيج الزخارف والصور قد تم إخفاؤه في الزخارف بشكل أكثر غموضا مقارنة بعناصر إِشِر أو الإفريز المقرمد لكريستوبال دو أوجوستا في أشبيلية. وعلى غرار مماثل للوحات إِشِر، يتحقق الغرض من الزخارف على القرميد سواء كان قرميد حقيقي أو مصور. وتعد صورة المزهرية الموجودة على مقبرة اعتماد الدولة في أجرا مثالا من عهد المغول على زخارف القرميد المصوَّرة. وعلى الرغم من تشابك عناصرها إلا أن تلك الصورة تجسد أسماكا من دون شك. ونلتقي بهذه التقنية في كثير من الأحيان على الأفاريز التي كانت بمثابة كساء للجدران.
ونشاهد بعض النسخ الإيرانية منها بمتحف الفن الإسلامي في برلين. ويعد إفريز القصر المشتى الأموي الذي يعود إلى منتصف القرن الثامن من الأمثلة الإسلامية المبكرة على تقنية مماثلة للتقنية السابقة. وإن عنصر التفاعل المتبادل بين الزخرفة والصورة يلعب في جميع تلك الحالات دورا حاسما في الفلسفة الجمالية، حيث تشكِّل الصورة جزءا من الزخرفة والعكس صحيح. من جهة أخرى، يتضح لنا من خلال فن الكتابات الخطية أن الظواهر ذات الصلة بالصور الملغزة بمعناها الأضيق ليست بغريبة تماما على التراث الإسلامي. وأود في هذا الصدد أن أسلط الضوء على لوحتين من الكتابات الخطية كائنتين بغرفة المخطوطات بمتحف لاهور. فنتعرف في إحداها على شكل لرأس، تظهر فيه ملامح الوجه بوضوح. وتعكس اللوحة الأخرى تجريدا كتابيا لعنصر زخرفي يتخذ شكل مزهرية ويتشابه مع بعض أشكال المزهريات التي نراها في مسجد وزير خان. إن تلك اللوحات الكتابية تفصح عن شيء، تميل أشكال المزهريات في البداية إلى إخفائه بما لها من خطوط زخرفية باذخة. فشكل المزهرية التي تحمل وردة يمكن أن يُفسَّر على أنه صورة كاريكاتيرية لهيئة بشرية. وما من شك في كون هذا التصور مقبولا في إطار فن الكتابات الخطية، هذا إن لم يكن قد أعد لهذا الغرض عن عمد. إن ما يشكل جاذبية الصورة هو ما تحويه من تفسير ثلاثي الأبعاد، تتوالى مراحله من التصور الملموس إلى المجرد على هذا النحو: الحروف ـ المزهرية ـ الهيئة البشرية.
كائنات زهرية وأشكال أخرى إن تحسب المرء لإمكانية التقائه بصور ملغزة أو على الأقل بصور تقرأ وتُفسر على عدة مستويات لدى مشاهدته للزخارف الداخلية في العمارة المغولية لم يعد أمرا بعيد المنال وذلك في ضوء التحليلات السابق ذكرها. وهذا ينطبق بشكل خاص على اللوحات الجدارية العديدة الموجودة في باحة الصلاة بمسجد وزير خان والتي تجسد عناصر زخرفية لأزهار ومزهريات. إن كان الفنانون المغول قد هدفوا في بعض الأحيان إلى محاكاة الطبيعة بدقة قدر الإمكان في زخارفهم النباتية، فإن هذا الأمر لم ينطبق على اللوحات الجدارية في مسجد وزير خان. فتنسيقات الأزهار التي تتسم بالغرابة تبعد كل البعد عن أي واقع تصويري. وحتى أفضل الزهارين سيعجزون عن إعادة تكوينها.
إن إمكانية التعرف على وجوه أو هيئات من خلال زخارف الأزهار والمزهريات تعزى مبدئيا إلى عامل بسيط يتمثل في عنصر التماثل الذي يتحقق هنا بشكل شبه الكامل. وهو يعادل عنصر التناظر في الأجسام والوجوه. ربما كان عنصر التماثل ليس سوى ضرورة فنية. ولكنه لم يكن من الصعب تجنب عنصر التماثل، إذا ما كانت هناك ضرورة ملحة لتفادي ربط الزخارف بالهيئات والوجوه. فهناك أيضا زخارف لمزهريات تستبعد إمكانية التفسير المزدوج، كالزخارف الزهرية في مسجد بادشاهي بلاهور أو مسجد مهاباد خان بمدينة بيشاور، فضلا عن العديد من الزخارف النباتية غير المتماثلة. كما يمكن أيضا استبعاد هذه العلاقة في الزخارف الزهرية الخالصة، أي الأزهار التي تُجسَّد بسيقانها من دون مزهريات كما نراها في كثير من الأحيان في الزخارف الزهرية المنفذة بتقنية الترصيع. ولكننا إذا ما استطعنا التعرف على أشكال لهيئات أو وجوه في زخارف الزهور والمزهريات، أو ربما تعين علينا التعرف عليها لكونها مقصودة من قبل الفنان، فإننا نتساءل عن ماهية الأشكال المصورة وعن الغرض منها. وهناك شيء مؤكد في هذا الصدد: وهو أن الكائنات الزهرية والمزهرية ـ لنطلق عليها هذا الاسم كوسيلة لوصفها ـ تكاد تستبعد احتمال ترجمتها إلى رموز حيوانية واضحة كما هي الحال مع الزخارف المقرمدة الكائنة أعلى محراب مسجد دائي آنجا. كما أنها لا تسمح بترجمتها إلى نماذج أخرى ملموسة أو كائنات موجودة على أرض الواقع، بل إلى وجوه وهيئات، كما أوضحنا في شرح الصور الملحقة بهذا المقال. فبوصفها وجوه وهيئات ترمز تلك العناصر إلى شيء آخر، فتكون بمثابة بديل، ولا تختلف في ذلك كثيرا عن كون شعر الرسول على أغصان السنط يرمز إلى الرسول نفسه.
ولكنه لا يتسنى تحديد ما ترمز إليه تلك »الكائنات المزهرية« بشكل واضح. طالما أنها ليست هيئات واقعية، فإن تلك »الكائنات المزهرية« قد تكون تجسيدا لمخلوقات خيالية أو عفاريت (جان)، لم تخل منها ميثولوجيا وأساطير المشرق. ويمكننا أيضا أن نستوعب تلك الكائنات المزهرية كنوع من شعارات النبالة المشفرة، أو باعتبارها النسخة الإسلامية من الشارات الغربية التي تتخذ أشكالا لحيوانات حقيقية أو أسطورية. وإذا ما تفكرنا في الأطر المرجعية المحتملة لهذه الظاهرة، فإن ثمة مجالين يأتيان في الحسبان: المجال الديني والمجال الإمبراطوري البلاطي، ولا ينبغي علينا أن ننظر إليهما باعتبارهما مجالين منفصلين تماما. بل إن احتمال كون الدمج بين هذين المجالين هو بعينه الهدف الأساسي من التفسير المزدوج لهذه الصور، هو احتمال وارد إلى حد بعيد. وهذا الافتراض من شأنه أن يتناسب مع سعي الحكام المغول إلى إضفاء شرعية على حكمهم، ليس فقط من الناحية الدينية، كما يفعل أغلبية الحكام، بل ومن خلال تطوير برنامج ديني بلاطي خاص بهم كما سبق وأشرنا، وذلك لينعكس عليه ما يتسم به حكمهم من تجانس ديني ولو بشكل مبدئي. ومن المعلوم أن هذا المفهوم الديني قد انعكس على فن الرسم المغولي. وإنه لمن السهل الكشف عن تأثيرات الرسم الهندوسية على فن المنمنمات المغولي. فنحن نعلم على سبيل المثال بوجود نسخ مغولية من ملحمة الرامايانا معدة للاستخدام في البيت الحاكم. فالعالم التصويري الخاص بتلك الملحمة يختلف عن ذلك الخاص بالمنمنمات ذات الملاحم المأسلمة جزئيا والمستمدة من المنطقة الفارسية. وإن ما يجذب الانتباه بشكل خاص إلى نسخ ملحمة الرامايانا هو تصاوير الجان.
فمن الممكن أن يكون البلاط المغولي، أو بالأحرى النخبة البلاطية، قد استعانت بهذه التصاوير في تغذية مخيلتها فيما يتعلق بإمكانية وكيفية تجسيد الجان. كما يمكن اقتفاء أثر الفن المسيحي، ولعله يتجلى في أوضح صوره من خلال شكل الهالة المقدسة التي تظهر بشكل منتظم في تصاوير الحكام المغول. كما نلتقي في كثير من الأحيان بأشكال لملائكة، وتلك أيضا تعزى على الأرجح إلى تأثيرات فن الرسم المسيحي الغربي. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى سمات أخرى خاصة تتميز بها بورتريهات الحكام المغول، بعيدا عن التأثيرات الأخرى للتقاليد التصويرية غير الإسلامية. حيث جرت العادة على تمثيل الحكام مرتدين عقدا لؤلؤيا ملفتا للنظر. ولنا أن نفترض بأن الحكام قد ارتدوا هذه العقود بالفعل، ولو في مناسبات معينة على أقل تقدير. وفي بعض الأحيان زُيِنَت عمائمهم بالريش أو باللؤلؤ أيضا. أما في حالة تجسيد الحكام في وضع الجلوس، كما يحدث في كثير من الأحيان، فإنهم يجلسون في وضع شبيه بوضع التربيع، ولكن على سيقانهم فيلاحظ ارتفاع وضع الجلوس. وبإضافة تأثير ملابسهم، نجد أن هيئاتهم تحاكي شكل المثلث. وفي حالة تجسيدهم في وضع الوقوف، يلاحظ أن هيئاتهم لا تختلف عن هذا الشكل كثيرا. إذ أنهم يظهرون في معظم الأحيان مرتدين تنانيرا شفافة على نحو غريب تتخذ شكل الجرس. وإذا ما استندنا الآن إلى هذه المنمنمات في أحكامنا، فسوف نلاحظ أن ملابس الحكام كانت مزينة بزخارف نباتية وزهرية بحيث أصبح الحاكم، إن جازت المقارنة، أشبه بالزهرة التي ينبعث شعاعها على من حولها. ولكن، إن كان مظهر الحاكم وتأثيره يحاكي باقة الزهور، فإنه من المنطقي أن نستوعب باقة الزهور باعتبارها رمزا للحاكم أو رمزا لهالة الحكم.
وإذا ما ميزنا تصاوير المزهريات في مسجد وزير خان على أنها وجوه، فسوف نلاحظ أنها تواجه المشاهد وتنظر إليه وجها لوجه. فهي تواجهه على قدم المساواة ويكاد يبدو أن قدرتها على رؤيته والتعرف عليه تفوق قدرته في رؤيتها والتعرف عليها ــ لاسيما حين يعتبرها مجرد زخارف زهرية ليس إلا. وإن ثمة تأثير تنويمي مغناطيسي يكمن في هذه النظرة المباشرة التي توجهها الصورة نحو المشاهد. علاوة على ذلك، فإن الصور تتواصل مع المشاهد بطرحها الألغاز عليه والتلاعب بإدراكه، فتسعى إلى تضليله إما بأن تقوده إلى الاعتقاد بأنها ليست مجرد مزهريات بل وجوه، أو بأن تتظاهر بكونها مجرد مزهريات. إنها تتلاعب بإدراك المشاهد وتصوره، كما سبق وأشرنا، وذلك لعدم استقرارها في إطار انطباع تصويري نهائي وثابت، وأيضا لصعوبة اكتشافها وإعادة التعرف عليها لكونها متشابهة ويسهل الخلط بينها على الرغم مما تتمتع به من فرادة، وكذا لوجوب إعادة تركيبها باستمرار في عين المشاهد، مثلها مثل الصور التكعيبية. وتعد هذه اللوحات أيضا بمثابة كائنات حية، وذلك من حيث تواصلها مع المشاهد، فتتنوع الاستجابة والرؤية وفقا لاختلاف طبيعة المشاهد والتوقيت والحالة المزاجية. إن الفكرة الرئيسية التي يدور حولها من وجهة نظري المخطط التصويري لباحة الصلاة بمسجد وزير خان تتمثل في التواصل المباشر واللاشعوري مع المشاهد في إطار تفاعل يشبه التنويم المغناطيسي مع عقله الباطن. فإن صور المزهريات لا تجسد حكاما أو مخلوقات سامية بعينها، بل تنوب بالأحرى عن قوى أسمى كائنة في كون بديل لم يعد بالإمكان تجسيدها باستخدام الوسائل الإيمائية التقليدية. إنها تجسد روح الحكم وجوهره وكيانه المجرد من الماديات الملموسة، تماما مثلما يمر الصوفي في الإسلام أو الزاهد في الهندوسية عبر عدة مستويات من التحرر المادي والتطهير الروحي للاقتراب من الإله (أو البراهمان).
إن من يدخل عبر بوابة مدخل مسجد وزير خان ومنها إلى الصحن ثم إلى باحة الصلاة، يمر، وكأنه يعبر هويسا، إلى معرض تصويري للسلطة الروحانية والدنيوية ورموزهما. كما يُجسد الرسول في هذا المعرض كعنصر محوري أو بالأحرى يُرمز إليه بالنيابة، ربما من خلال شعره أو حصانه الكامن في قمة الشجرة على الصورة المقابلة أو ربما يكون البراق الذي حمل الرسول وفقا لما ورد في رحلة سماوية ليلا إلى بيت المقدس. وهو ما يعني أن إدراك اللوحات المزهرية كصور ملغزة تنوب عن مفهوم الحكم المغولي الدنيوي والروحاني باعتباره انتقالا للسلطة من الرسول محمد فصاعدا، هو شرط لاعتبار تفسير كامل خان ممتاز لشعر الرسول في اللوحة المؤطرة تفسيرا معقولا أو بالأحرى إلزاميا.
الكون المصغَّر والكون الكلي إن عقد المقارنة مع فن المنمنمات من شأنه أن يساعدنا على فهم الفلسفة الجمالية لمسجد وزير خان بشكل أفضل. حيث أن فن المنمنمات ما هو إلا عالم منغلق على ذاته، تنظر فيه جميع الشخصيات إلى بعضها البعض، ولا تتطلع عادة خارج الصورة نحو المشاهد. وعلى ذلك فإن هذا الفن يشكل كونا مصغَّرا، وهو ما يفترض بنا أن نستوعبه أيضا من خلال صغر حجم تصاويره: فهو عالم يتسنى لنا أن نحمله بين أيدينا ونفتحه كالكتاب. أما »الكائنات المزهرية» في مسجد وزير خان، فإنها تقع في مستوى نظر المشاهد بل وتعلوه أيضا، لتمثل كونا كليا يجتاح عالم البشر ويؤثر فيه، بل ويعلوه في الوقت نفسه كقبة السماء التي نراها مصورة على السقف. إن من يدخل باحة الصلاة بمسجد وزير خان يجد نفسه في ملتقى طرق أو مساحة متداخلة بين الكون البشري والكون الكلي. وعجز العالم البشري عن استيعاب الكون الكلي، لا يختلف عن عجز المشاهد عن استيعاب الأشكال الزهرية، بل والتصميم الكلي لباحة الصلاة. فهو يستشعر بوجود تفسير ما وراء هذه الأشكال والتصميمات، وكلما زاد مستواه التعليمي والديني وكذا قبوله الباطني التصوفي، كلما اتسعت رؤيته وازدادت اكتشافاته وقدرته على الاستيعاب. ولكنه لن يكون قادرا أبدا على فهم واستيعاب كل شيء. ففي نهاية المطاف، سيفوق العالم التصويري للمسجد قدرته على الدوام، وهو ما ينطبق أيضا في الغالب على البنائين والحرفيين والرسامين ممن اقتصرت قدراتهم الاستيعابية وبراعتهم في أحسن الأحوال على الجوانب الخاصة بهم في التصميم.
المخدرات وضعف البصر أود في النهاية أن أشير إلى جانبين يغفل عنهما معظم المؤرخين الفنيين المعاصرين، على الرغم من أنهما قد شكلا على الأغلب فارقا حاسما لدى العديد من المشاهدين على مدى عصور طويلة. يتمثل الجانب الأول في ضعف البصر غير المصحح (والذي ينتشر في المشرق على نطاق أوسع مقارنة بالغرب). فالضعف البصري يتسبب في تكوين رؤية مختلفة عن الكائنات الزهرية، رؤية يمكن للمشاهد الذي يتمتع بقوة الإبصار أن يحصل عليها إذا ما نظر إلى الصور من مسافة بعيدة للغاية أو تطلع إلى نسخة متناهية الصغر منها، كالصور الإلكترونية المنمنمة (thumbnail). وإذا ما حدث ذلك، فإن التشابه بين صور المزهريات وبين الهيئات والوجوه يصبح أكثر وضوحا، فهو لا يتجلى بشكل قاطع لا لبس فيه إلا في هذه الحالة (كما قد يتضح من خلال بعض اللوحات الجدارية التي نُسِخَت بهذا الحجم الصغير عمدا من أجل تجسيد هذا الغرض). وعلى ذلك فإن حيوية الزخارف تكمن في هذا السياق أيضا ويختلف تأثيرها على كل شخص بل وتبدل من هيئتها في عين كل مشاهد على مدى حياته وذلك وفقا لتغير منظوره وقوة رؤيته.
وثمة جانب آخر لا يعتد به إلا نادرا، على الرغم من أن تأثيره على جماليات الإدراك لا يستهان به، وهو تأثير المسكرات أو المخدرات، لاسيما الخمر والأفيون ومشتقاتهما، والتي فضَّلها المغول كما هو معروف، بل واستخدموها بإفراط في كثير من الأحيان. وفي سياق حديثي عن تأثير التنويم المغناطيسي، أشرت إلى إمكانية اعتبار باحة الصلاة بمسجد وزير خان بمثابة مساحة ذات مفعول مخدر، وإلى تأثيرها على المشاهد. وإنه من المفروغ منه أن تناول المخدرات من شأنه أن يعزز من قوه هذا التأثير في جميع الاتجاهات. فاستخدام الحشيش لا يزال حتى يومنا هذا واسع الانتشار في باكستان، في الأوساط الصوفية على الأقل، وهذا على الرغم من اتجاه الدولة إلى حظره بشكل صارم. إن ما كتبه بعض الأدباء الغربيين من أمثال هنري ميشو وألدوس هكسلي في القرن العشرين حول تجاربهم مع المخدرات، من الممكن أن يعتبر بمثابة دليلا إرشاديا لاستنباط المغزى الإدراكي النفسي الكامن في باحة الصلاة بمسجد وزير خان ـ ولكن فقط إن كان المرء لديه استعداد للانخراط في غموضه وطابعه التصويري الملغز والاعتراف بالتالي برؤية المغول الكونية وبمزجهم بين المجالات وكذا بما تتسم به أيديولوجيتهم الروحانيـة من طابع توفيـقي؛ بـدلا من اختزال التفسير إلى بضعة عموميات، ليتوافق مع العقيدة السنية في زمننا هذا (التي ينبغي أن تكون مفارقة تاريخية إذا ما استندنا إلى المغول). وعلى الرغم من ذلك، أو ربما لهذا السبب بالتحديد، تجدر في النهاية الإشارة إلى أن الصور الملغزة التي تزخر بها لاهور لا تتعارض مع النظرية المحافظة التي تقضي بحرمانية الصور، بل تعززها.
فعلى الرغم من كونها تمنح الصور قوة تعبيرية لتحقيق احتياج ما، إلا أنها لا تشبع ذلك الاحتياج من الناحية الموضوعية بل عبر الإدراك الشخصي للمشاهد الذي تتحقق لديه الرغبة والمهارة. ويمكننا من منظور ما أن نتحدث في هذا الصدد عن تقيَّة تصويرية تُخفى في طياتها القناعات الحقيقية غير التقليدية لمن كُلفوا ببناء هذا المسجد، والتي هدفت إلى التوفيق بين الإيديولوجيات والتوقعات الجمالية المتناقضة. وتبقى الزخارف مجرد أزهار ومزهريات إذا ما تطلعنا إليها من الناحية الظاهرية فقط، بحيث تظل حرمانية الصور كما هي لم تنتهك، حتى في ظل الإطار المقدس للعمارة المغولية. ليست هناك حاجة لإعادة كتابة تاريخ الفن الإسلامي، ولكنه ازداد ثراء بما اكتسبه من سمات استثنائية وعجائب إضافية.
شتيفان فايدنر كاتب وباحث إسلامي ورئيس تحرير مجلة »فكر وفن«.
ترجمة: هبة شلبي
حقوق النشر: معهد غوته فكر وفن
تشرين الأول / نوفمبر 2014
ليست هناك تعليقات