أودّ قبل أن أتحدث عن هذه الرواية الإشارة إلى الفرق الجوهري بين الثقافة culture والحضارة civilisation فالثقافة هي مجموعة أنماط الحياة في...
أودّ قبل أن أتحدث عن هذه الرواية الإشارة إلى الفرق الجوهري بين الثقافة culture والحضارة civilisation فالثقافة هي مجموعة أنماط الحياة في مجتمع ما، أي الأعراف والقيم والمثل والسلوك والحرب والقتل وما إلى ذلك. والحضارة هي منظومة القوانين التي تنظّم سير المجتمع وتردع أو تعاقب من يخلّ بهذه القوانين. فالعراقيون القدماء مثلاً أسسوا أنظمة ثقافية ومعرفية كبيرة ومهمّة، لكنّ هذه الأنظمة تحوّلت إلى حضارة بعدما سنّ الملك البابلي حمورابي شريعته، وبعدما أسس الملك الآشوري آشور بانيبال أوّل مكتبة عامة في تاريخ البشرية. وسأذكر هنا قصّة تتحدث عن "تحضّر" جنوب العراق اليوم. فقد روى لي رجل يعمل أستاذاً للأدب العربي في جامعة عربية بأنّ أباه القادم من بلدة حديثة "السنيّة"!كان قاضياً ومحققاً جنائياً يعمل في جنوب العراق، وفي منطقة الأهوار تحديداً وذلك في مطلع الستينات، أي عندما كانت الأهوار عامرة وسليمة بيئياً. وكان القاضي يجري التحقيقات الميدانية للكشف عن الجرائم في المناطق القصيّة من الأهوار والتي كانت مساحتها تبلغ نحو عشرة آلاف كيلومتر مربّع آنذاك، أي بقدر مساحة لبنان اليوم. فكان يصطحب معه شرطياً واحداً ويستقل القارب إلى أماكن وقوع الجريمة، وعندما يكشف المجرم فإنّه يلقي القبض عليه ويأتي به إلى مركز الشرطة في قضاء المجر الكبير. وكان بإمكان قبيلة هذا المجرم أن تمتنع عن تسليم ابنها أو حتى قتل القاضي نفسه، وهي عشائر منيعة ومسلّحة، وقد قاومت صدّام حسين وجيشه وهو في أوج قوته وجبروته. فجفف الأهوار وقطع القصب والبردي وقصف السكّان بالمدفعية الثقيلة، لكنه أخفق في كسر شوكتهم والسيطرة عليهم. فما الذي جعل هؤلاء الناس الأميين يحترمون القانون؟ إنّها الحضارة المتأصلة في أعماقهم، ولا شيء سوى ذلك. فأنا لم أسمع يوماً بأنّ أحداً من اتباع الديانات اليهودية أو الصابئية أو المسيحية قد تعرّض للأذى أو لأي شكل من أشكال التمييز في هذه المناطق. وأكون شاكراً لمن يأتي بمثل واحد يدحض هذا الرأي. ولذلك اخترت عنوان Der Marschländer لأوّل رواية كتبتها باللغة الألمانية ونشرتها عام 1999. وتعني مفردة "مارش" الهور وكذلك السير أو المسيرة العسكرية، و "لندر" النسبة إلى بلد معيّن، فيكون العنوان "ابن الهور" أو "عابر البلدان" ويعود الفضل في ذلك إلى اللغة الألمانية نفسها وقدرتها التركيبية Komposita. وتحمل الرواية عنواناً فرعياً هو "بغداد/بيروت/برلين" أي ثلاث باءات ويطلق الألمان على هذا النوع من الكلام "القافية الأوليّة" Stabreim. وتدور أحداث الرواية في هذه المدن الثلاث وتتحدث عن منفيّ عراقي إبّان الوحدة الألمانية.
فايسبوكة
ليست هناك تعليقات