الأربعاء، ١١ مارس/ آذار ٢٠١٥ (الحياة) مقارنة بحجم الكيان والموارد، تبدو إيران وكأنها وصلت إلى أعلى حالات هيمنتها السياسية والعسكرية ...
الأربعاء، ١١ مارس/ آذار ٢٠١٥ (الحياة)
مقارنة بحجم الكيان والموارد، تبدو إيران وكأنها وصلت إلى أعلى حالات هيمنتها السياسية والعسكرية على محيطها الجغرافي/السياسي، تلك الهيمنة التي تكاد أن تكون استثنائية في قوس جغرافي يمتد من غزة الى لبنان فسورية والعراق، مروراً باليمن وأجزاء من أفغانستان وأرمينيا وشرق تركيا. حيث تستحوذ إيران على القرار السياسي الإستراتيجي الأعلى في عديد الكيانات هذه، وتهيمن بشكل نسبي على الكثير من المؤسسات «الشرعية» في هذه الدول، وتستطيع فوق ذلك أن تبتز الدول المحيطة بهذه الكيانات، الواقعة تحت الهيمنة الإيرانية.
قبل قرابة ربع قرن، ومع أخذ النظام السوري الضوء الأخضر بالقضاء على «تمرد» ميشال عون في قصر بعبدا، قبيل حرب الخليج الثانية، فإن النظام السوري وقتئذ كان قد وصل لدرجة شبيهة بهذه الهيمنة الإيرانية. فقد كان النظام السوري على «علاقة هيمنة» مع الكثير من التنظيمات الفلسطينية والعراقية والكردية/التركية، ويسيطر في شكل مطلق على لبنان، وله الكثير من الاتصالات التي تمتد حتى إلى أثيوبيا والفليبين وإريتريا والجيش الحمر الياباني.
لا يبدو النظام الإيراني وكأن قد ورث الكثير من نقاط النفوذ التي كانت للنظام السوري فحسب، ولا يبدو وكأنه يرث النظام السوري نفسه، بل أيضاً وكأنه يعيد تجربة النظام السوري نفسه. يتشابه ذلك التطابق بين الهيمنتين السورية والإيرانية في ثلاثة مواضع مركزية مركبة:
أن هذه الهيمنة بالأساس هي لـ «تحصين» السيطرة الداخلية، وبكلمة أدق لتحصين أحوال النظام الحاكم داخليًا عبر هذه الهيمنة. كما كان النظام السوري يسعى إلى استحواذ عدد من الأوراق السياسية الإقليمية، ليتمكن في الدخول في شبكة من المساومات والتوازنات مع الكيانات الإقليمية الأكبر حجماً ونفوذاً، وكذلك مع القوى الدولية المسيطرة على المنطقة، وذلك لتجاوز حالة «فقدان الشرعية» الداخلية.
كانت الشرعية الإقليمية هي المصدر الأول لاستقرار النظام السوري وقتئذ، والنظام الإيراني يسعى من خلال كل حركته ومساعيه الراهنة، لاستحواذ عتبة عالية من «الشرعية» المعترف بها من الدول الكبرى أولاً، ليتجاوز حالة فقدان الشرعية وسوء التمثيل السياسي التي يحياها.
من هنا يُفتح قوس كبير حول استخدام النظام الإيراني هذه الكيانات التي يهيمن عليها، لتصدير أزماته الداخلية المركبة. فكما كان النظام السوري يتجاوز معضلته الاقتصادية عبر الكيان اللبناني، وكذلك معضلته الإيديولوجية عبر التنظيمات الفلسطينية، فإن النظام الإيراني يبدو وكأنه جاهز تماماً لتحويل العراق بكل ثرواته إلى كيان اقتصادي وظيفي، وأن يحوّل محاربة «الإرهاب» في كل من اليمن وسورية إلى إيديولوجية وظيفية، ليتجاوز تهافت إيديولوجيته المركزية بـ «محاربة أميركا».
ثمة نقطة ثانية، حول «البُعد الاستخدامي» المتوقع للهيمنة الإيرانية على الكيانات والجماعات الخاضعة لها، فكما كانت علاقة النظام السوري بها من قبل، على حساب تنمية هذه الكيانات وتطورها الطبيعي، فإن الإيرانية لن تكون إلا لخلق مزيد من الفجوات والتناقضات بين هؤلاء الموالين لها وبين شركائهم المجتمعيين والكيانيين. النظام السوري زرع مزيداً من بؤر التفجير في لبنان وفلسطين والعراق، وأخّر التوصل لأية حلول معقولة بين السلطات التركية والمتمردين الأكراد، ومن ثم سعى إلى «بيع» هؤلاء «الحلفاء/الأوراق» بأبخس الأثمان ساعة الضرورة واللازمة، والإيرانيون لن يكونوا أحسن حالاً في ذلك، مع أوراقهم/عملائهم الذين يهيمنون عليهم.
سيحدث ذلك بالضبط لأمرين منطقيين واضحين، يعود الأول لشكل علاقة «الاستزلام» التي تبدو واضحة في التعاقد بين الطرفين غير المتكافئين، من حيث القوة والقدرة على السيطرة. هذا الخلل القائم على امتلاك طرف للآخر، يشرعن للمالك التخلي عن إحدى ممتلكاته ساعة الضرورة. الأمر الآخر يتعلق بطبيعة النظام الإيراني المشابه لنظيره السوري من قبل، مجرد كتلة صلبة مغلقة وجهازية، غير ملتزم بأي بُعد قيمي في علاقته مع أدواته السياسية.
هذا التوسع في شبكة الهيمنة التي تتجاوز حجم الكيان وموارده وحدود قوته السياسية الموضوعية، سيكون مستقبلاً على حساب المجتمع الإيراني نفسه، كما باتت قوة وهيمنة النظام السوري السياسية على الإقليم وبالاً على السوريين، حاضرهم ومستقبلهم. فهكذا أنظمة مشغولة تماماً عن أحوال مجتمعاتها الداخلية، وحين تتضخم في مجالها السياسي الخارجي، فإنها لا تعود تتعامل مع هذا الداخل إلا بسمة «المحتل»، ترى نفسها أكبر وأكثر تفوقاً من هذا المجتمع، لأنها لا تعتبره مصدراً لشرعيتها ، بل مجرد قاعدة خلفية لتنفيذ سياساته.
لا يُعقل أن يعزز النظام الإيراني من أشكال نفوذه المتعددة يوماً بعد آخر، حتى يغدو القوة الإقليمية الأولى في أكثر مناطق العالم حساسية، بينما يغرق أكثر من ثُلث سكانه في فقر مدقع، ويعاني معضلات اقتصادية وسياسية وثقافية داخلية بالغة العُمق، هذا التناقض لا بد له أن ينفجر، هكذا تقول حركة التاريخ على أقل تقدير.
* كاتب سوري
ليست هناك تعليقات