حمّود حمّود الأحد، ١ مارس/ آذار ٢٠١٥ (الحياة) يمكن القول من غير تردد إنه إذا كان هناك انتفاض إسلامي استطاع في العصر الحديث نقل ...
حمّود حمّود
يمكن القول من غير تردد إنه إذا كان هناك انتفاض إسلامي استطاع في العصر الحديث نقل الأصولية الإسلامية من عالم الأيديولوجية والهوامش التاريخية إلى عالم الفعل والمؤسسة، وتأطير الدولة، فإنه حدث فقط على يد السيد الخميني. مثل هذا الأمر سار، قبلاً، بمسار مشابه مع الشيوعية اللينينية، إلى حدّ ما، مع اختلاف الشروط والسياقات، في مسألة إعادة تأطر الأيديولوجية التوتاليتارية في إطار الدولة. وبالفعل، كان الخميني بالنسبة للأصولية الإسلامية، سنيّة أم شيعية، ما كانه لينين للشيوعية. فالأخير، وعلى غفلة من التاريخ، استطاع نقل الشيوعية من مجال أروقة الجدل الأيديولوجي واليوتوبيا إلى فضاءٍ تمكّن من خلاله لا من مأسسة ماركس على كرسي الدولة فحسب، بل حتى إعادة إنتاجه بما يتوافق مع القيصرية اللينينية الجديدة التي قامت على أنقاض ومن داخل الدمار الذي خلفته القيصرية الأرثوذكسية. لم يكن السؤال المهم، من هو ماركس على وجه الحقيقة، أو كيف يُقرأ تاريخياً، بل ما هي النسخة منه التي أرادها لينين، مثلاً النسخة التي شرّعت له افتتاح القيصرية الشيوعية الجديدة في أيامها الأولى بـ «مذبحة» بحق القيصر نيكولاس الثاني وعائلته، بمن فيهم الأطفال والأميرات (هكذا لتكرَّ المذابح بحق الأرثوذكس، وغيرهم، والتي قامت على يديه وعصبته والخلفاء بعدهم. واليوم، بعد بنائه كنيسةً في موقع المذبحة نفسه، ما زال «الصعود الأرثوذكسي» ينتقم من إجرام الشيوعيين الروس).
افتتاح الدولة بالدم سيُعاد إنتاجه لاحقاً، لكن هذه المرة على يد أصولي تكنّى على رغم الدم بأنه «روح الله». حتى منْ يتوجه إلى لينين أو الخميني بالتقديس والعبادة يعلم ذلك. فالمشانق التي امتلأت بها شوارع طهران والسجون التي امتلأت بالبشر والتعذيب والموتى، والأحزاب التي حُلّت، والصحف التي اختُصرت بتلك التي تدعو باسمه، وتأسيس الحركات الجهادية الدموية هنا وهناك...الخ، كل ذلك شكّل بمثابة اللبنات الصلبة التي قام عليها البناء الإيراني لما سوف يأتي في إيران وخارجها (من هنا، فإنّ تأرجح دعم إيران لحماس الإخوانية أمس، ودعمها للميليشيات الجهادية الشيعية اليوم في سورية لا يختلف منطلقه عما انطلقت منه الجمهورية الإسلامية: أي البناء الخميني).
وفوق ذلك، فممارسة الهيجان في الدم كان يجب أنْ ترافقه «حماية ثورية» لإرهاب كلّ من الرجلين: في حالة لينين حيث أسس منظمات المخابرات السرية «تشيكا» مع طلائعها الحزبية والأيديولوجية «الشيوعية»، وفي حالة الخميني سيتأسس «الحرس الثوري الإيراني»، أيضاً مع طلائعه الأيديولوجية «الإسلامية»، وخاصة الحزب الجمهوري الإسلامي، الذي سيكون مسؤولاً، كذلك، عن الأيديولوجية وملف الدم. فاتحة جيدة لإيران! لقد كانت، بالفعل، بدايةً دمويةً تلك التي افتتحت بها «جمهورية الإسلام» تطبيقَ الشريعة، لكن الشريعة وفق المقاس السلطوي الخميني، وليس مفاجئاً للتاريخ أنْ تكون كذلك فاتحةً أخبرت التاريخ الإيراني بما سوف تكون عليه الحال بعد 36 سنة من الثورة التي شاءت الأقدار أنْ تكون إسلامية بعدما صعد الخميني بابه العالي.
الأمر نفسه حدث بأشكال دموية أخرى مع لينين روسيا الشيوعية، ومع أشكال أخرى من التوتاليتاريات التي تتالت على بعض البلدان الأوروبية والشرقية (ماو تسي تونغ)، التي لا يمكن إنكار أنها تقاسمت «معنى الثورة»، وجمعها كثير من الجوامع الثورية أكثر مما فرقها. لهذا، إنّ بحثاً يريد بالفعل أنْ يكون نقدياً وذا فائدة في دراسة كاريزما الخميني، ربما عليه البحث بمصادر الخميني الثورية الأخرى: أي المصادر القابعة خلف الأيديولوجية- في الفضاء المعرفي والفكري العميق، المسؤول حتى عن إنتاج الأيديولوجية، بمعنى: الفضاء الثقافي التوتاليتاري، الذي خرج منه «الأب لينين» نفسه.
ولا يمكن أنْ نغفل هنا أنّه على رغم التباعد بين المرتكزات الأيديولوجية للطرفين، أي بين فضاء لينين الأيديولوجي في الدولة («ديكتاتورية البروليتاريا») وما اخترعه الخميني في فضائه السماوي («ولاية الفقيه»)، فإنه لا يصح النظر إلى هذه المرتكزات إلا ضمن إطار عدسة المقدس: «المقدسات» الحديثة التي قامت مع التوتاليتاريات التي أنتجتها «معاني الثورة» الحديثة (ارتباط الثورة بالعنف خاصة). وهذا ليس لأنّ الأمر يرتبط بأنّ كلاً منهما لديه عشق للدم والموت (وما يرتبط بكل ذلك من أشكال العنف) فحسب، بل لأنهما انطلقا بالأصل من فضاءات ذهنية وفكرية عميقة، سواء كانت الجنة التي يقاتل ويسعى إليها الطرفان، تقع على الأرض أم في السماء. الطريق إلى الجنة في الحقيقة واحد، لكن أيضاً الجنة كما يتخيلها هذان الطرفان، وإنْ اقتضى الأمر إبادة أكثر من أربعة ملايين أرثوذكسي مسيحي أو تأسيس حزب الله في لبنان!
لقد كان ونستون تشرشل محقاً بالفعل حينما علّق على النقل الألماني للينين سراً من سويسرا إلى روسيا ووصفه له بأنه طاعون: «لقد أرسلوا إليهم لينين في مركبة مغلقة مثل الطاعون البكتيري من سويسرا إلى روسيا». وتشرشل كان في الواقع هنا يردد الصدى الألماني نفسه في وصف هذا الرجل بـ «الطاعون». النقل الألماني للينين كان في الحقيقة من أولى الخطوات على طريق اختطاف أو سرقة الثورة، وفق ما يقال اليوم. وبالطبع، لم يكن الروس الذين يموتون على الأرض يعلمون أنّ طاعوناً سيحل عليهم. وإلا لو كانوا يعلمون ذلك أو يعلمون ما يُحضّره لهم الألمان، لما سار التاريخ بذلك المسار. الأمر نفسه أيضاً تكرر مع «لينين إيران»: فهو أيضاً دخل على إيران (لكن ليس سراً) من فوق الثورة لا من داخلها ثم قام بخطف الثورة، وعلى غفلة من التاريخ أطاح بـ «الجمهور»، رغم أنف العنوان الكبير: «الجمهورية الإسلامية».
الكثير من الدم يمكن أنْ يجمع مثل هاتين الشخصيتين اللتين كانتا من بين الشخصيات الكبرى التي توجه إليها البشر بالتقديس والعبادة. ليس غريباً، بالتالي، أنّ إصرار الخميني على الإيسكاتولوجيا العنيفة وربط المقدس بالدم، وتغذيته بالجهاد وعنف النفس المقدس...الخ قد حوله بالفعل إلى أحد أهمّ «الآباء الشرقيين» في الأصوليات العنيفة المسلحة (حيث ينتمي إليها كذلك معظم الأصوليات السنيّة)، تلك الأصوليات التي ما زال يخرج منها إلى اليوم جهاديو دمشق (وأيضاً العراق ولبنان واليمن...) بعد كل تلك السنين من «الثورة».
ليست هناك تعليقات