بول شاوول من الوجوه السينمائية التي اختمرت وانضرت في ذاكرتنا منذ الطفولة وحتى اليوم، وجه فاتن حمامة، ابتداء من «يوم سعيد» في نهاية...
بول شاوول
من الوجوه السينمائية التي اختمرت وانضرت في ذاكرتنا منذ الطفولة وحتى اليوم، وجه فاتن حمامة، ابتداء من «يوم سعيد» في نهاية الثلاثينات وكانت في السابعة وكان لها الحضور الطفولي «البارع» إلى جانب محمد عبدالوهاب، وحتى اليوم، حتى آخر فيلم قدمته «أرض الأحلام».
فاتن حمامة، من تلك النجوم التي تفرض إيقاعاتها على الفيلم الذي تشترك فيه، وكانت دقتها في المواعيد للتصوير يضرب بها المثل، نشأت فاتن حمامة، كما شاهدنا، مع كوكبة، في ما يسمى «الزمن الجميل»: شادية، ماجدة، هند رستم، سميرة أحمد، تحية كاريوكا، صباح، سامية جمال، هدى سلطان، مديحة يسري، نجوى فؤاد، سميحة أيوب ونور الهدى، وصولاً إلى يوسف وهبة وأنور وجدي وكمال الشناوي ومحسن سرحان وشكري سرحان ومحمد مرسي وعمر الحريري وأحمد مظهر وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ... وعمر الشريف وحسين صدقي. على كواهل هؤلاء النجوم قام الزمن الجميل للسينما، ليقف وراءهم مجموعة من المخرجين الكبار، كأحمد بدرخان ومحمد كريّم وهنري بركات وعاطف الطيب وحسن الإمام وعزالدين ذو الفقار ويوسف شاهين وكمال الشيخ وصلاح أبو سيف وصولاً إلى خيري بشارة وداوود عبدالسيد من مخرجي المرحلة اللاحقة.
لم تكن فاتن حمامة تتمتع بصفات «الإغراء» الرائجة آنئذ كهند رستم: مارلين مونرو الشرق، ولا بالجمال التقليدي كليلى فوزي أو مديحة يسري، لكنها، وبقامتها «الصغيرة» ذات السحر الآخر، السحر الداخلي، ووهج العينين، وغموض ما فيهما أحياناً، وإشعاع ما ترسلهما من ابتسامة، والصدق الناضج من أدائها، احتلت شيئاً فشيئاً الموقع المتقدم بين النجوم النسائية كافة.
حتى في فيلمها الاول وهي في السابعة، كان يمكن بسهولة استشفاف موهبة مبكرة. وإذا كانت فاتن حمامة اشتركت في بطولة أكثر من مئة فيلم، فإن معظم هذه الأفلام قلّما سقطت في الابتذال، او لبّت نداء التنازل، بقيت على مستوى واحد، وأحياناً كثيرة على صورة واحدة: اليتيمة المقهورة، ضحية المجتمع التقليدي، حيث تجتمع الدراما والميلودراما في سياق متواتر. هذا «الوجه» الطيب، أو هذه الصورة بالأبيض، مكتنزة الخير والعطاء، وفريسة الظروف القاهرة، كأنها هيمنت على معظم أعمالها. فهل تكون فاتن حمامة حرصت على هذه الأدوار (غير الشريرة)، فالتصقت بها، وطبعتها بطابعها؟ قد يكون الأمر كذلك، لكنها، إلى هذه الإطلالات الرومانسية، والعاطفية، التي تتوالى بشبه وتيرة معهودة من الأدوار، تمكنت أن تتميز بكل لقطة، سحر اللقطة المميزة. سحر السر في الدور المكشوف، سحر الالتباس في الشخصيات المبسطة، الشائعة، التي عرفناها عند مريم فخرالدين وماجدة ومديحة يسري. بمعنى آخر، كانت فاتن حمامة تعطي الدور البسيط جاذبية الصعب، هكذا، تحوّل السهل، المبسط، إلى ما يتجاوزهما، عبر تحويلهما إلى عمق ونبرات الداخل، وإلى تنويع التعبير الصوتي، بمستوياته، ونبراته، وكذلك في قسماتها التي تحمل على الرغم من جمال عادي، تلك الكاريزما، أو النكهة المجهولة، أو السحر الخاص، خصوصاً في عينيها، لكن لم تتوقف فاتن حمامة عند هذه الأدوار الرومانسية، أو الاجتماعية، من موقع الضحية، أو الضعيفة التي تتراكم عليها بلايا الظروف، فهي أدت أدواراً مركبة، لعبت فيها شخصيات سلبية (شريرة) كما في فيلم «لا أنام» (مع يحيى شاهين وعمر الشريف وهند رستم ورشدي أباظة ومريم فخرالدين). إنه دور قد لا ينجذب إليه الجمهور كثيراً لأنه لا ينحاز إلى الشخصيات الطيبة. لكنها، وفي هذا الفيلم، عرفت كيف تلائم بين هذا الدور المحصور في تكوينه السلبي، إلى ما هو أعمق: إلى السؤال، أو فلنقل إلى الحيرة. فهي لم تكن زوزو نبيل في أدوارها القاسية «الشريرة»، ولا نجمة ابراهيم «ريا وسكينة» الأقسى في الأدوار النسائية... وإلى جانب هذا الفيلم شاركت في فيلم رائع «الباب المفتوح» ذي الإخراج المتميز، والسياق الحي، والموضوع «النضالي» السياسي الشبابي لكن بطريقة غير مباشرة. هنا، وفي هذا الفيلم عندنا فاتن حمامة أخرى: قوية من الداخل، عنيدة في إصرارها، مؤمنة بأحلامها، مناضلة على طريقتها. كان هذا الدور من أجمل أدوارها، وأكثرها «تركيباً».
كذلك سطعت فاتن حمامة في دورها الرائع في «الحرام» (كتابة يوسف ادريس وإخراج هنري بركات) دور الريفية التي تشهد على واقع التخلف الاجتماعي، والقسوة، والعنف، والاضطهاد، والخضوع لنواحي البيئة المتخلّفة.. هذا الفيلم من روائع السينما المصرية (صنف بين أفضل عشرة أفلام في السينما المصرية)؛ وقد لمعت كذلك في فيلم «دعاء الكروان» (تأليف طه حسين وإخراج هنري بركات)، وهو رائعة أخرى في السينما العربية، اشتركت فيه مع أحمد مظهر. وكان من الأفلام ذات الصوت التراجيدي المدوي: أيضاً «القيم» المتوارثة الظالمة، العنيفة، تعبر عن هذه الفاجعة التي يذهب ضحيتها حبيبها الكاتب بعدما وقع في غرامها، وهي الخادمة البسيطة التي هربت من الريف. لحقت بها لعنة «التقاليد» السوداء إلى المدينة، بل إلى البيت. ولعلّ فيلم «الليلة الأخيرة» لكمال الشيخ، من أكثر أفلامها التباساً، إنه فيلم ذو «رؤيا» جديدة ونظرة سينوغرافية وإخراجية يجمع بين الحبكة البوليسية والتناقض الاجتماعي.
وقد شاركها في الفيلم إثنان من كبار الممثلين أحمد مظهر ومحمود مرسي. أما الأفلام التي تلتقي هذه الوجهة المتنوعة عند فاتن حمامة، فيمكن اعتبار «صراع في الوادي» (إخراج يوسف شاهين، ومشاركة عمر الشريف وزكي رستم) من الأفلام المنكشفة الجريئة «الجديدة» التي تبشر بأفق جديد للسينما؛ ودورها هنا ممزق بين حالتين: بين عشقها لعمر الشريف المتهم بقتل أحد الأشخاص، وبين والدها الطاغية، الساعي إلى الانتقام من «الشاب» عمر الشريف بإلصاق التهمة به، كأنهما دوران في دور واحد، تمكنت فاتن حمامة، في ظل هذا التمزق، أن تبقي المساحة الأدائية الوعرة التي تحركت ضمنها.
ويمكن الإشارة إلى فيلم «نهر الحب» لعزالدين ذو الفقار (زوجها السابق)، وهو اقتباس لرواية «أنا كارنينا« لتولستوي.
وهذا الفيلم الذي تخرج فيه الشخصية عن قواعد اللعبة الزوجية المرتكزة على الاخلاص تلتحق بأحلامها وببطلها السحري تمكنت فاتن حمامة ان تعطيه بعداً انسانياً (كالذي اعطاه تولستوي) أي دور القدرية التي يعجز الإنسان عن ردها. ومعروف أن هذه الرواية تقترب كثيراً من رواية الروائي الفرنسي فلوبير «مدام بوفاري»، العقدة ذاتها، والنتائج ذاتها: الضحية تدفع ثمن الظروف وضيق المجتمع، وسلبيته. أما فاتن «المتمردة»، المناهضة للأعراف والقوانين الوضعية المهيمنة، فتظهر في فيلم «أريد حلاً»! إنه الفيلم الذي دوى بجرأة مقاربته، ورفضه هذه السلطة في يد رجل. مع رشدي أباظة حوّلت هذا الفيلم إلى مقارعة عنيدة، لجوجة، وإلى كشف روتين الإدارة، وانحيازها إلى الرجل، واستهتارها بالمرأة، إنها من الأصوات السينمائية العربية الأكثر دوياً. وهذه الثورة أثمرت وحققت مبتغاها عندما عمدت الإدارة المصرية الرسمية إلى تغيير قانون الأحوال الشخصية، واكتسبت المرأة عبر التعديل حق المطالبة بالطلاق. وهنا يمكن التفكير بفيلم «ليلة القبض على فاطمة» (إخراج هنري بركات) ومشاركة شكري سرحان، الذي يفضح فساد الطبقة الجديدة الحاكمة بشعارات الثورة، ويفضح عمق الانتهازية عند هؤلاء إلى الدرجة التي عمد فيها شقيقها التي ربته، إل اضطهادها واتهامها بالجنون، وسجن حبيبها شكري سرحان، ولا بد هنا من ذكر أول فيلم مع عمر الشريف، وهو الفدائي المناضل ضد العدو، وهي «البدوية» التي تساعده، بطيبتها، وإيمانها وحبها. لكن لا بد هنا من الكلام على الثنائي عمر الشريف وفاتن حمامة، لعبا معاً أكثر من 15 فيلماً، منها «نهر الحب» و»أيامنا الحلوة» (أول فيلم لعبدالحليم حافظ وأحمد رمزي)، و»صراع في النيل» و»سيدة القصر» و»صراع في الوادي»... من دون أن ننسى الأدوار العديدة مع عماد حمدي وكمال الشناوي وشكري سرحان ويحيى شاهين ورشدي أباظة. ومن ذلك شكلت مع شادية، خصوصاً في بداياتهما ثنائياً ناجحاً في أفلام عديدة، وكذلك مع مريم فخرالدين وماجدة. ومن الممثلين إلى المطربين، فقد كانت فاتحة أفلامها وهي لما تتجاوز السابعة فيلم «يوم سعيد» مع عبدالوهاب، ثم لعبت ثلاثة أفلام مع فريد الأطرش: «لحن الخلود» في بداياتها (بمشاركة ماجدة ومديحة يسري)، وآخر أفلام فريد الأطرش «الحب الكبير» (صوّر في لبنان عام 1970 أي قبل رحيله بأربع سنوات). كما مثلت مع محمد فوزي، خصوصاً عبدالحليم حافظ فيلمين لقيا نجاحاً كبيراً. بالطبع لا يمكن إغفال أن البطولة الطاغية هي للمطربين، لكن تمكنت فاتن حمامة مع هؤلاء الكبار أن تحتل موقعاً جاذباً، وحضوراً قوياً وإسهاماً كبيراً في إنجاح هذه الأفلام «الغنائية».
ولا بد هنا، وليس عن طريق المفاضلة، التوقف عند مقارنة شادية بفاتن حمامة. وشادية كما هو معروف، دخلت السينما كمطربة، و»دلوعة» وأفلام كوميدية، خفيفة، بثنائية جميلة مع كمال الشناوي. لكن يقال أن شادية، التي اكتفت بالتمثيل عند نضجها الأدائي، سجلت تنوعاً، وتجرؤاً في أفلامها، أكثر مما تلقاه عند فاتن حمامة. هذا صحيح: لعبت شادية الأدوار الشريرة والمومس (المومس في اللص والكلاب، والمرأة المجهولة، والجريمة والعقاب)، كما لعبت أدواراً قوية من أعمال كبار الكتاب كنجيب محفوظ كـ»زقاق المدق» (وهنا يمكن ملاحظة هذه المفارقة: أن المطربين الرجال في السينما العربية ظلوا مطربين حتى آخر أيامهم خصوصاً في السينما، أما المطربات مثل شادية وهدى سلطان، فقد تركتا الغناء إلى الأدوار المتنوعة. وكذلك الراقصات كتحية كاريوكا ونجوى فؤاد). لكن السؤال هل يمنح هذا التنوع عند شادية أسبقية على فاتن حمامة، أي هل يكسب عامل «التنوع» هذا سمة «التفوق»، أو التقدم؟ بالطبع لا! فهدى سلطان نوّعت أفلامها، وكذلك سناء جميل (بطلة رائعة صلاح أبو سيف بداية ونهاية لنجيب محفوظ، بالاشتراك مع فريد شوقي وعمر الشريف)، وكذلك ماجدة (وإن بنسبة أقل) وكذلك هند رستم؟.. لكننا عندما نقارب شادية بفاتن حمامة فلقرب الإثنتين من مناخ متشابه، وحتى متشابك. لكن تبقى فاتن حمامة على خط موصول من الأفلام ذات القيمة السينمائية المتوازية والمستويات العالية. ولا بأس إذا عرّجنا قليلاً إلى تلقيب فاتن حمامة بـ»سيدة الشاشة العربية»، وهو لقب كان يزعج الكثيرات لا سيما مريم فخرالدين عندما قالت في إحدى مقابلاتها التلفزيونية «هي سيدة الشاشة ونحن إيه، جواري؟». والألقاب مشهورة في الأدب والشعر والمسرح والسينما العربية، فيوسف وهبة عميد المسرح العربي، وسميحة أيوب سيدة المسرح العربي، وأحمد شوقي أمير الشعراء، وسعاد حسني سندريلا السينما العربية، وهند رستم مارلين مونرو السينما العربية... لكن فاتن حمامة بقيت خارج هذه السجالات بل وبعيداً من الدوائر والشكل والأضواء الإعلامية، والمقابلات... لم تخض في طبيعة هذه الألقاب، ولا في قبولها أو رفضها، المهم أن الناس جميعاً كتبوا أن فاتن حمامة «سيدة الشاشة العربية».
لم يجذب المسرح فاتن حمامة ولا شادية. مثلت هذه الأخيرة كوميدية مسرحية واحدة هي» ريا وسكينة« مع سهير البابلي. أما فاتن حمامة فقد ظهرت في «كرسي الاعتراف» مع يوسف وهبة» في فيلم مصور مسرحياً، أو مسرحية ركبت كفيلم. وهذا حررهما من الارث المسرحي، والأداء المسرحي في السينما. ففاتن حمامة لا تحمل آثار ولا النبرة المسرحية، ولا الحركة المسرحية: ولدت في السينما وحافظت على ادائها السينمائي الخالص، بينما نجد ان امينة رزق وحسين رياض ويوسف وهبه، وحتى سناء جميل، (مسرحية كبيرة: آخر ما نشاهد لها في الثمانينات مونودراما «الحصان» وكانت رائعة). وعبد الوارث عسر ومحمود مرسي وميمي شكيب، وهذا طبيعي، لان من صنعوا مسرح بداية القرن في مسرح، هم الذين صنعوا السينما كجورج ابيض ويوسف وهبه اللذين تنافسا على تقديم اول فيلم ناطق في الثلاثينات، وربح الرهان يوسف وهبة. وهذا ما نجده حتى في السينما المصرية العائدة الى تلك الفترات القديمة التي كان يمتزج فيها الاداء المسرحي والسينمائي. لكن ما بلغت عند فاتن حمامة، ليس فقط خلو ادائها من المسرحية بل من التلفزة، وهو الاثر الذي طاول الكثيرين في السينما والمسرح، ليس في الاداء فقط بل في الديكورات، والسينوغرافية، وقد شهدنا هذه الظاهرة المتداخلة في الفنون الثلاثة في الأعمال التي قدمت في التسعينات. عندما بتنا لا نفرق بين العمل المسرحي، والتلفزيوني، وصولاً الى طريقة الحوار، واللقطة، والمشهد، والسياق.
فاتن حمامة كعمر الشريف وكمال الشناوي ويحيى شاهين، وماجدة.. الخ، هم سينمائيون، لم يقعوا في السينما بلعبة المسرح.
حاولنا قدر الامكان متابعة مشوار فاتن حمامة، (الذي يحتاج الى اكثر من هذا الحيز) والغني، الثري، الشغوف، الصادق.. الدقيق، الموصول بمستوياته، وانتاجاته. لكن فاتن حمامة، تبقى تلك الشفافية النافذة. ذات العينين اللتين تختزنان، بغموضهما، اذا تعثرت، وبقوتهما، واشعاعهما اذا ابتسمت، بكل وجهها. اعمق ما عند فاتن حمامة: عيناها. ووجهها المتسع لكل الحالات الكوميدية (الاستاذة فاطمة)، والميلودرامية (اليتيمتان) والدراجة القصوى (الباب المفتوح)، والمواجهة (اريد حلاً).. والتمزق (موعد مع الحياة)، والحيرة في (سلو قلبي)..
انها فاتن حمامة، كأنها ولدت في احد ادوارها، ورحلت في ادوار أخرى، او ترعرعت في فيلم طويل من عشرات الافلام، ونضجت في فيلم آخر من عشرات الفيلم، وكبرت وشاخت في فيلم يختصر كل حياتها ومسيرتها!
الفاتنة
ليست هناك تعليقات