Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

تحولات الأسرة الأوروبية المعاصرة

كلير شارتييه لم تكد تنقضي 50 سنة على استعادة السبعينات صرخة أندريه جيد: «أكرهك أيتها العائلة!»، حتى بدا الشعار فائتاً فوت سراويل الفيل ا...

كلير شارتييه


لم تكد تنقضي 50 سنة على استعادة السبعينات صرخة أندريه جيد: «أكرهك أيتها العائلة!»، حتى بدا الشعار فائتاً فوت سراويل الفيل التي لبسها الشبان المتظاهرون في 1968. وما حسبه جيل الحركة الطالبية العريض ثقلاً لا يُحتمل ورمز القهر البورجوازي، عاد متألقاً ومنتصراً، وعلا صهوة حيواتنا المضطربة. فما سبب هذا الانقلاب؟ وإلى حين إقرار «الزواج في متناول الجميع» (وإطلاق الزواج من الاقتصار على رجل وامرأة) كان المراهنون على تظاهر مئات الآلاف من الفرنسيين دفاعاً عن هيئة الزواج، المهددة في نظرهم، قلة قليلة. وخلفت المشادة أثراً عميقاً في الحياة السياسية، وحملت نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي السابق، والمرشح الى الرئاسة في 2017، على إعلان نيته «إبطال قانون توبيرا» (وزيرة العدل التي ينسب القانون الجديد إليها)، إذا انتخب رئيساً مرة أخرى. ويخالف وعد ساركوزي رأي 61 في المئة من الفرنسيين الذين يقولون في استفتاءات الرأي إن زوجين، أياً كان جنسهما، مع أولاد يؤلفان عائلة.
ومنذ 1981، تاريخ استطلاعاتنا الأولى، تتصدر العائلة لائحة قيم الفرنسيين. وهذا ما يثنّي عليه دارس الاجتماعيات بيير بريشون، فهي وقاية حيوية من الحوادث الطارئة والصدمات والملجأ الأخير حين يعز الملجأ، وهي في مجتمع يدير الظهر للمثل، قيمة وعلامة استدلال بارزة وصامدة في وجه تعاظم البطالة أو غلاء المعيشة. والمكان الوحيد ربما الذي في مستطاع الواحد أن يكون حراً وغير مقيد بالمحاباة والتملق. والمسلسلات التلفزيونية (الفرنسية) التي تتطرق إلى قضايا العائلة تلقى رواجاً عريضاً، شأن مسلسل قناة إف 2 «لا تعمل هذا، لا تعمل ذاك»، أو فيلم «الأسرة بيلييه» حال عرضه. ويربط 57 في المئة من الفرنسيين الحلقة العائلية بـ «السعادة»، و44 في المئة بـ «التقاسم»، و5 في المئة فقط بـ «المنازعات» و4 في المئة بـ «الإكراه». و85 في المئة من فئة 18-29 سنة يرون أن العائلة «فائقة الأهمية». وكثيرون يقولون إن ارتياحهم الى إقامتهم في عائلتهم يدعوهم إلى البقاء فيها الى ما بعد بلوغهم العشرين.
وبعض البالغين 50 عاماً يقضون العطل المدرسية مع أولادهم وأهلهم، في الفندق أو النزل، وأحد هؤلاء إتيان يهاتفهما مرتين في الأسبوع. وإذا تعسر الأمر على والديه، قصد النزل مع أخيه وأسرته، وجمعا أولادهما. وفي عيد أول تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أجرت القبيلة بيتاً في بلدة من بلدات الجنوب الدافئ. وفي عيد الميلاد، أجّرا شقة فوق شقة الجدين، يبيت أحفادهما فيها. وعند بلوغ الجدين الثمانين، أعد ابناهما الأغاني التي واكبت حياة المسنين وغنياها لهما. والمائدة العائلية لا تزال موعداً تحرص كثرة الفرنسيين على الوفاء به. و77 في المئة من الفرنسيين لا يخلفون موعد الميلاد. ومقارنة باستطلاع 1997، كانت نسبة هؤلاء 60 في المئة.
وتوقعُ اللقاء في هذا الموعد، وفي ظل شجرة الصنوبر المصنوعة من البلاسيك المدوَّر، بالأقران المنفصلين والأعمام (أزواج الأمهات) والخالات (زوجات الآباء) والإخوة غير الأشقاء والأخوات غير الشقيقات، ينبغي أن يكون مدعاة إحباط ونفور. والحق أن هذه الحياكة الدقيقة جاذب قوي، فما يحلو في العائلة المعاصرة هو مرونتها وتكيفها مع التغيير من حال الى حال. وكانت مهمتها أو وظيفتها في النظام القديم (قبل الثورة الفرنسية الكبرى في 1789) حفظ الأنساب، ورعاية دوامها وتناقل المواريث في الذرية. وهي مهمة خانقة وتكبت الأنفاس، أما اليوم فهي ضمان حرية وأصالة. ولكل فرد من أفراد الأسرة رغباته التي لا رقيب عليها من الأفراد الآخرين ولا حسيب. وليس عليهم كلهم موجبات من أي صنف، فالغالب على العلاقات الأسرية ليس شكلها، بل المنطق الذي يسودها، وهو منطق عاطفي ينهض على الثقة. وكانت الرابطة الأسرية تقضي بخدمة الأفراد أسرتهم، واليوم تتولى الأسرة مجتمعة خدمة الأفراد، فالأفراد متضامنون ولكنهم أحرار، وفق طباق فرنسوا دي سانغلي.
فالاستقلال الذاتي هو شعار العلاقات العائلية الجديدة. وروح العشيرة التي تجمعهم لا تحول بينهم وبين رعاية نازعهم الفردي. ويلاحظ بيير بريشون أن انتهاج نهج يميل إلى الفرادة يغلب على بلاد الشمال والغرب، وعلى أهاليهما الزمنيين العلمانيين. ولم تعد الأسرة، في هذه البلاد واقعاً بدهياً وراسخاً، فهي أمر ينبغي إنشاؤه ورعايته، ولا يستقيم أو يتماسك إلا بالإنشاء والرعاية. وفي بلاد شرق أوروبا وجنوبها يسبق البنيان الأسري رشد الشبان واختيارهم. ولا ريب في اضطراب المثال الأسري الجديد وتنازعه بين قطبين: قطب «أنا أولاً» وقطب «كلنا ملتحمون». وهو على صورة الحداثة المولودة من عصر الأنوار ومن أوروبا القرن الثامن عشر الليبرالية. وهذان المرجعان هما معين إرادة الواحد الاضطلاع بمصيره، فينجح تارة ويتعثر تارة.
وغداة قرنين على الأنوار والليبرالية، شهد العقدان السابع والثامن من القرن العشرين تعاظم النزعات الفردية على نحو منقطع النظير. ونجم عن حبة منع الحمل وإباحة الإجهاض تفريق غير مسبوق بين الجنسانية وبين التناسل. وأوكل إلى النساء أمر البت في تكوين أسرة أو الإحجام عنه. وانخرطت الأمهات في سوق العمل واشتركن في إعالة البيت. ورفع الأزواج لواء الحق في تدبير حيواتهم ورغباتهم على هواهم. وازداد متوسط الأعمار، وأتاحت الزيادة فرصة اختبار أشكال عائلية مختلفة في حياة واحدة. واقتفى التشريع أثر التوازنات الحميمة والشخصية.
فعمد المشرعون الفرنسيون الى إلغاء بعض القيود على الطلاق في 1970، وأعادوا الكرة في 2005. وأحلوا الدالة العائلية محل السلطان الأبوي، وساووا بين حقوق الوالدين وواجباتهما تجاه الولد. وفي 2007، ساوى بين حقوق الولد الشرعي والولد المولود خارج الزواج، أو «اللقيط» سابقاً، فأقر مشروعية الحياة العائلية وأشكالها المتفرقة. وما ربحته الأسرة من مرونة تعاقدية قارن أو ضاهى ما خسرته من إكراه تقليدي. وجارت التعويضات العائلية، وهي تبلغ 4 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي اليوم، الطور الاجتماعي الجديد، فأقرت للولد، أياً كان شكل الرابطة العائلية، حقوقاً واحدة ومتساوية.
والعائلة الحديثة فسيفساء تعصى الأبواب الإحصائية وجمهراتها. فمن 17.5 مليون أسرة أحصاها المعهد الوطني (للإحصاء) ثمة 1.9 مليون أسرة تعود الى والد(ة) واحد(ة) في 2009، وكانت تعد 680 ألفاً في 1962. و18 في المئة من الـ13.7 مليون طفل فرنسي يترعرعون في كنف مثل هذه الأسر، و11 في المئة في أسر مركبة، إلى جنب إخوة غير أشقاء وأخوات غير شقيقات. وتفترض الإحصاءات أن الولد يقيم في بيت واحد، والولد الذي يقيم أسبوعاً في بيت والدة، مع أخ وأخت غير شقيقين، ويقيم الأسبوع التالي في بيت والدته التي تبقى في هذه الأثناء وحيدة، ما شأنه؟ وفي أي باب إحصائي يحتسب؟ هل يعد ولداً في أسرة مركبة أم في أسرة لها والد(ة) واحد(ة)؟ والباب الإحصائي لا يعني ماري (25 عاماً) في كثير أو قليل، فوالداها انفصلا وهي في الثالثة، وتزوج كلاهما بعد الطلاق، ولها من والديها أخ شقيق وأخت وأخ غير شقيق و3 «أشباه» إخوة (هم أولاد خالتها، زوج أبيها، وعمها زوج أمها). وتصف ماري الخليط هذا بـ «الفوضى السائبة». وهي تعود أيام الأحد إلى والديها، وتزاول رياضة التسلق مع شقيقتها، وتلهو مع عشيرة الإخوة، وتسافر مع أمها وزوج الأم وأولاد الأم والزوج، فالأسرة كما تراها ماري، لا تختصر في روابط النسب والدم: «جددت تعريف أسرتي تجديداً تاماً في ضوء روابطي وميولي العاطفية، وهذا لا شك يعقد الأمور، ولكنه يحمل على التسامح ورحابة الصدر، وعلى اعتبار شخصية كل واحد على حدة».
ويعلق فرانسوا دي سانغلي على الأحوال العائلية، فيقول :»يعتقد طلابي بعد كل ما سمعوه عن تعاظم كتلة الأسر ذات الوالد(ة) الواحد(ة)، أن العائلة التقليدية انقرضت تقريباً، بينما هي المرحلة الأولى التي يبدأ بها الناس عموماً -الأب والأم والأطفال-، وهذا المثال لم يندثر، وجل ما في الأمر أنه لا يطابق الأسرة التقليدية التي تقوم على الزواج». وعلى رغم تقلص الزيجات من 400 ألف في 1974 إلى 231 ألفاً في 2013، لا يزال الزواج معياراً عاطفياً غالباً. والبرهان هو أن 73.1 في المئة من الـ31.7 مليون فرنسي المقيمين تحت سقف واحد، متزوجون. ويعلل فرانسوا دي سانغلي الأمر بأن التغيير لحق في المرتبة الأولى بالموقف من الزواج، ففي سبعينات القرن العشرين تبوأ زواج المتحابين مكان الصدارة، أما اليوم فيدرج الزوجان الزواج في مسيرهما قبل انجاب الأولاد أو بعده، متى أرادا، فهو لم يعد معياراً يتقوم به ارتباط شخصين واستواؤهما زوجين، فالزواج أصبح حراً حقيقة وفعلاً، حين صار في مستطاع الشخصين إما اختيار المساكنة أو الارتباط بعقد خاص يرتضيان بنوده بملء اختيارهما.
وثمن المرونة هو تعاظم أحوال الانفصال، ففي عصر «الأنا الملك» ليس أيسر من الانقلاب من «الحرية معاً» إلى «الحرية وحدي». وعلى رغم النفور من النظام القديم وإطفائه الرغبات والنوازع، لا يبدو مذاق الحرية عند بعضهم مختلفاً عن طعم الرماد. وإذا لم يحل الأولاد دون طلاق والديهما، فهم بؤرة عواطفهما المتأججة. ويفاقم هذا تعاسة الأولاد والأهل معاً حين الانفصال، فعلى خلاف الأسرة العشائرية التي افتقرت إلى الروابط العاطفية الحارة، تفتقر الأسرة الفردية الى الثبات والاستقرار. ويشخص المحلل النفسي روبير نوبيرغر خطرين يتهددان الأسرة الفردية: الإفراط في تقويم مكانة الطفل وتآكل التوريث المعنوي، فمعظم من يترددون الى عيادة المحلل يوقنون بأن تربيتهم أولادهم ينبغي أن يقتصر الرأي فيها عليهم، من دون أهلهم.


* صحافية، عن «ليكسبريس» الفرنسية، 24/12/2014-6/1/2015، إعداد منال نحاس(جريدة الحياة)

ليست هناك تعليقات