![]() |
لوحة من معر لريما اميوني |
مع مرور السنين، تحوّلت مرسيل الفتاة المسيحيّة القادمة من بلدة «الخيام» إلى بلدتي «أنصار»، إلى معلم من معالم حيّ «الزيّاتة» حيث تزوّجت بعوض الحدّاد الذي يؤلّف مع بعض أشقّائه وأولاد عمومته عدداً من بيوت المسيحيين في البلدة. وهم كالعديد من اللبنانيين الذين تكنّت عائلاتهم بمهنهم حيث أتقنوا مهنة الحدادة أباً عن جدّ، وما زالت أصوات المطارق التي كانوا يلوون بها الحديد بعد تحميتها جيّداً بالنّار والصّادرة من المحلّ الذي استأجروه من أبو أديب، على الشارع العام وسط البلدة، ما زالت تلك الأصوات تتردّد في أذنيَّ حتّى الآن وتترك صدىً جميلاً فيهما.
مرسيل التي أصبحت تُعرف أكثر بأمّ عبد الله الحدّاد بعدما رُزقت بعبد الله، لم يفارق الصليب صدرها يوماً متدلّياً بسلسلة تلفّ عنقها، ولم تفارق سيرته شفتَيها تحلف به باستمرار. لكنّ أمّ عبد الله المسيحيّة أحبّت أبا عبد الله الحسين، تحلف به أيضاً وتواظب على حضور مجالسه العاشورائيّة، وهذا ما عرفته بالمصادفة عندما وصلت في إحدى المرّات إلى الضيعة، سائلاً فور وصولي عن أمّي التي كانت تستمع إلى السيرة الحسينيّة في أحد المجالس العاشورائيّة في بيت جيراننا.
وقفت أمام الممشى الذي يُفضي إلى الشارع أتبيّن وجه أمّي من بين حشد النساء اللواتي خرجن من بيت جارنا محمّد واكد حيث كنّ يحضرن المجلس. لم أستطع تمييز وجه أمّي بسهولة نظراً للتشابه الكبير بين وجوه نساء ضيعتي والتشابه الكبير في ملابسهنّ، وخصوصاً غطاء الرأس، حيث تشعر أنّ مصمّماً واحداً ومصنعاً واحداً هو الذي قام بخياطة وتصميم تلك الملابس كلّها، الأمر الذي يجعل لنساء ضيعتنا وضياع الجنوب صورة نمطيّة خاصّة بهنّ.
فوجئت عندما رأيت أمّ عبد الله في مقدّمة النساء، وقد احمرّت عيناها ووجنتاها من شدّة البكاء، بينما شارة الصليب تتدلّى من عنقها، فسألت أمّي عمّا تفعله أمّ عبد الله بينهنّ، فأجابتني معترضة بشدّة: «شو عم تعمل؟! أوّل وحدة بتكون بالمجلس وآخر وحدة بتضهر وما بتقبل إلا ما تعمل «الفلّة» ببيتها»!!
الواقعة أعادتني سنوات إلى الوراء، إلى أيّام الطفولة حيث كنّا نطوف مع زاهي، الابن الآخر لأمّ عبد الله، البراري والحقول ونقضي معظم أوقاتنا سويّاً، تذكّرت عندما قرّرنا الذهاب إلى مسجد القرية لأداء فريضة الصلاة حيث اشترط إمام المسجد على زاهي بأن يتلو الشهادة شرطاً للدخول، فما كان من الأخير إلا أن تشهّد دون تردّد، فدخلنا سويّاً وأدّينا الصلاة. لكنّ براءة زاهي وسذاجتنا لم تنته عند هذا الحدّ، بل أفهمناه كما كنّا نسمع أنّ عليه أن يغطس أربعين مرّة في مياه البحر أيضاً، فما كان منه وفور توجّهنا إلى البحر إلا أن ركض بأسرع ما أوتي من قوّة وغطس في المياه صارخاً بأعلى صوته: «بلّشوا عدّوا»!! وبدأ يغطس ويخرج من المياه عشرات المرّات حتّى خارت قواه، ولم نكن ندري أنّ طهارة الجسد هي في نقاوة وطهارة الروح...
بالرّغم من علاقتها غير الوطيدة بـ «سلفتها» أمّ الياس التي تواظب أيضاً على حضور المجالس العاشورائيّة، كانت أمّ عبد الله على علاقة جيّدة بمعظم أهل الحي، لا بل أهل الضيعة جميعاً. وبصوتها المميّز كانت توزّع السلامات والتحيّات يميناً ويساراً على جيرانها وأصدقائها، مع بسمة وضحكة لا تفارقانها أبداً.
رحلت أمّ عبد الله، وفي وداعها وكعادة أبناء قريتي خلال المأتم حيث كانوا جميعاً هناك... قُرعت الأجراس وقُرئ القرآن. وقف الشيخ إلى جانب الخوري يصلّيان عليها كلٌّ على طريقته، قبل أن توارى في ثرى البلدة التي أحبّتها وعاشت فيها ولفظت فيها حبّها الأخير.
رحلت أمّ عبد الله، فخسرت ذكرى أبي عبد الله الحسين والمجالس العاشورائيّة واحدة من مستمعيها وعشّاقها، وخسر الصليب صدراً كان يتّكئ عليه وصوتاً يمجّد اسمه ويحلف به، وخسر حيّ «الزيّاتة» وجهاً محبّباً من وجوهه المميّزة.
وجهٌ آخر رحل، تحوّل إلى طيف أُضيف إلى ذاكرتنا الجميلة التي تبتعد وتتلاشى يوماً بعد يوم.
زهير دبس
إستراحة - مجلة المغترب، العدد 41