الأربعاء، ١٤ يناير/ كانون الثاني
٢٠١٥
أصاب الذهول الفرنسيين
إثر كر سبحة العنف العمدي، وهو أودى بحياة 12 شخصاً وجرح كثر، ورمى إلى بتر عضو من
أعضاء الصحافة وكم صوته من طريق التصفية المنهجية لأسرة التحرير كلها وبث الخوف وسريانه
في أوصال الحرية. ومات أعضاء أسرة التحرير لأنهم صحافيون وأحرار وقتلوا بسبب مهنتهم
وما يمثلونه. وقوات الأمن تكبدت خسائر كبيرة في سعيها إلى حماية المواطنين. وفرنسا
رصت الصفوف في جبه الهجمات الإرهابية الأعنف منذ قرنين، وتعمها تظاهرات تضامن عفوية.
ولا يستهان بخطر الانزلاق في مثل هذه الأجواء إلى إعلان حال الطوارئ وقوانين عرفية،
في وقت مشاعر الانفعال على غاربها.
وفرنسا تنزلق ببطء
إلى جو الحرب. وهي حرب غريبة لا وجه لها ولا اسم. فهي تبدد الحدود بين الخارج والداخل.
وتهجم على الأفكار صور الحرب الأهلية ومنطقها الداخلي. ووجه الإرهاب تغير. وتربع محل
شبكات زارعي القنابل إرهابيون مفردون مثل الثعالب المفردة، الذين يعبدون الطريق أمام
نهج عنفي جديد: فرق كومندوس تلتزم أساليب المافيا وتتسلح بعتاد عسكري وترمي إلى إطاحة
أهداف ترمز إلى الديموقراطية والحرية. ولم تعم فرنسا فوضى الإرهاب بل خوف ممنهج ومنظم.
وفي الخارج، نرى،
شهراً بعد شهر، ارتسام خط جبهات كابوسي لحرب بين الحضارات والإسلام، وهي حرب، على وجه
التحديد، مع نسختها الإسلاموية المشوهة والوحشية. وانتهج التدخل الغربي نظاماً بدا،
في وقت أول، أن قوامه عمليات مستقلة لا جامع بينها ولا مترتبات عليها. ولكن ما نجم
عنها هو بروز عدو جهادي لا يُطال وانهيار دول ومجتمعات مدنية في الشرق الأوسط. وتلوح
بوادر عمليات جديدة في ليبيا. وأثر الحملة عليها في 2011 ماثل: فهي صارت قاطبة الإرهاب
في الصحراء الأفريقية والساحل الأفريقي، وخصوصاً في نيجيريا على حدود الكاميرون والتشاد
حيث تمددت «بوكو حرام». وهذه الحروب تولِّد حروباً جديدة أوسع وتذليلها عسير ومحال.
وهي تغذي الإرهاب إذ تزعم مكافحته واستئصاله. والقضاء على الجهادية هناك (في أفريقيا
والشرق الأوسط) وعلى الإرهاب هنا (فرنسا والغرب) غير ممكن ما لم تذلل أزمات العالم
الإسلامي، وهي من بنات نزاعات مركبة حدودية واجتماعية وسياسية واقتصادية. وينزلق المراقبون
إلى التبسيط إذ لا يحتسبون غير العرض الإسلاموي من الأزمات.
وروحية الحرب هي
فخ شائك يقودنا إلى حرب منفلتة من عقال السيطرة. وواجبنا أن نقاوم هذه الروحية ونرفع
لواء القيم الديموقراطية. وينتصر الغلاة حين يحملوننا على توسل القوة وطريقها المسدود...
وعلينا جبه ثلاثة خصوم: أولهم الإرهابيون الذين يعيشون بين ظهرانينا ودعاة الكراهية.
ويجب التوسل بوسائل دولة القانون في سوقهم إلى العدالة وتفعيل آلية استباق الإرهاب
من طريق المراقبة وحماية الأمكنة الحساسة والحؤول دون النفخ في التطرف في السجون وغيرها.
ولا تقوم قائمة لمكافحة عدو بلا حدود من غير تعاون بوليسي وقضائي على مستوى أوروبا
والدول المعنية. وتمس الحاجة إلى تجفيف مصادر تمويل المتطرفين الإسلامويين في فرنسا،
وخصوصاً أولئك القادمين من الشرق الأوسط. ولذا، اقترحت يوم كنت وزيراً للداخلية إصلاح
نظام تمويل بناء أمكنة العبادة الإسلامية وتقليص التمويل الأجنبي من أجل رفع القيود
عن ازدهار الإسلام في فرنسا. والعدو الثاني هو الخوف: الشعور بوشك وقوع عنف خبط عشواء
غير متوقع قد يثير رغبة لا قاع لها في الأمن. والهجمات الإرهابية ترجح كفة التخفيف
من القيم الديموقراطية. فيحملنا هاجس الأمن على التضحية بحرية الآخرين، في بلدنا أو
الخارج. وهذه دوامة انساقت إليها الولايات المتحدة حين سنت قانون باتريوت وشرعت بالتعذيب
والاعتقال التعسفي. والعدو الثالث هو النبذ واللفظ: فالتوتر يسري في عروق فرنسا يوماً
بعد يوماً. والنخب تتجه إلى خطاب تقسيمي وإقصائي. وحري بالفرنسيين التمسك بالنموذج
الديموقراطي والرد على العنف بواسطته. ولنتمسك بما نحن عليه جمهوريين نؤمن بالحوار
وقوة الثقافة والتعليم والسلام.
* رئيس وزراء فرنسي سابق، عن «لوموند» الفرنسية،
9/1/2015، إعداد منال نحاس(عن الحياة)