مع باراك أوباما استقر الكفاح ضد العنصرية في البيت الأبيض على شكل لوحات فنية ومنحوتات وجمل قصيرة. فبعد انتقاله إلى السكن في مقره، وضع الرئيس الأسود الأول لأميركا تمثالا نصفياً لمارتن لوثر كينغ في صدارة المكتب البيضاوي، حيث أمر بأن يكتب تحته واحدة من جمل البطل الأسود المأثورة: «ان قوس العالم الأخلاقي طويل، ولكنه يتوق نحو العدالة». وفي أحد الممرات المفضيّة الى المكتب الرئاسي، علّق أوباما عام 2011 واحدة من اللوحات الفنية الأكثر تجسيدا للنضال ضد التمييز العنصري في الولايات المتحدة: لوحة للتشكيلي الأميركي نورمان روكويل، ترى فيها بنت سوداء صغيرة، تشد دفاترها على صدرها ، يرافقها أربعة حراس وهي ذاهبة الى المدرسة، وخلفها جدار مكتوب عليه «زنجية».
إذا ما كان هناك من مسألة عذّبت أوباما وكونت شخصيته، منذ صغره وحتى وصوله إلى البيت الابيض، فهي مسألة «الأعراق»، كما يسمّونها هنا في الولايات المتحدة. ففي خطابه الأول في آذار 2008، حول «مسيرة أميركا الكبرى» أوحى مرشح الأمل والتغيير بأن بوسع البلاد أن «تخرج من مأزقها»، الذي كانت غارقة فيه وقتها.
بعد هذا الخطاب بست سنوات، حصلت مأساة فرغسون وكليفلند (مقتل شباب سود على يد الشرطة)، لتذكر بأن وعود أوباما كانت على درجة من الغرور. في خطابه يوم الاثنين الماضي، والموجّه للمحتجين على تبرئة مطلقي النار على شاب أسود، اعترف بأن «مدينة فرغسون تذكر بالتحديات الكبرى التي تواجهنا كأمة»، فدعاهم إلى الهدوء، مؤكداً أنه على الرغم كل شيء فإن «تقدما هائلا قد حصل» على هذا الصعيد. يقول البروفسور جيمس كوهين، الأستاذ في جامعة سوربون-باريس: «إن أحداث فرغسون تدل بقوة إلى أي درجة ما زال المجتمع الأميركي بعيداً، وبعيداً جداً عن عهد المابعد عنصرية»؛ عكس ما أوحى به انتخاب اوباما عام 2008.
حول مسألة الأعراق هذه، وهي مفتاح هويته، بدا أوباما قلقاً معذباً، لديه تصميم، ولكنه من دون إرادة. حول هذه النقطة أيضا، يمارس «القيادة من الخلف»، كما يسخر تافيس سمايلي، أشهر المقدمين السود، في الإذاعة والتلفزيون الأميركيَين. غالباً ما يبدو أوباما مضطرباً، حائراً، حول الموضوع... كما هو مضطرب في قضايا أخرى أيضا، على ما تقول نيكول باشاران، وهي مؤلفة لعدد من الكتب عن السود الأميركيين، آخرهم «أسرار البيت الابيض». تقول هذه المؤرخة: «بصورة عامة، وبصورة عفوية، من دون قرار مسبق، يعطي أوباما الانطباع بأنه رجل لا يريد ما يريده. وهذا سلوك ينطبق أيضا على سياسته الخارجية. فمن موسكو وحتى دمشق، لا يبدو انه يلتزم بعمق في الأشياء. وحول مسألة السود هذه، هو ليس بالتأكيد بيل كلينتون، الذي كان يعطي الانطباع بأنه جاد في ما يريده».
وهذا التحفظ حول مسألة «الأعراق» تبدو من مفارقات اوباما، إذ أنها هي التي تشكل مخزون رأسماله السياسي. سيرته الذاتية، «مأساة أميركا« المنشورة عام 1995، معجونة بما يسميه «مأساة أميركا»، أي العنصرية، وما يلازم ضحاياها من صعوبة في إيجاد هوية. في هذه السيرة التي كتبها وهو في الثالثة والثلاثين من العمر، يصف أوباما نفسه بأنه مولود من أب «أسود كالقطران»، و»أم بيضاء كالحليب». يروي أيضا كيف كان مواطنون بيض يتقصدون ترك براز الكلاب على رصيف ملاصق لمنزله في نيويورك عندما كان طالبا؛ أو كيف لقَّن والده درسا لسكّير كان يتذمر بأنه «يشرب بالقرب من زنجي»...
واحدة من صديقاته الاول في سنواته الجامعية، جنفياف كوك، تصف كيف كان أوباما الشاب الذي تربى على أيدي أمه وجداه من أمه، يبحث عن جذوره السوداء، ويبحث عن امرأة سوداء، وحدها سوف تستوفي شروط هويته. تروي جنفياف كوك لأحد الصحافيين، وقد وجدها بعد بحث مضن: «كان يسرّ لي بأنه يشعر نفسه كما او انه دجال، لأن لونه أكثر بياضا من لون بقية السود. في سعيه لحل معضلة التباسه، صار واضحا بالنسبة لي انه يحتاج أن يكون أسود».
الى ناخبيه عام 2008، وعد أوباما بأنه سوف يدفع أميركا نحو تجاوز العنصرية وتناقضاتها الداخلية. ولكنه، وفيما كان يؤكد بأنه «أسود»، كان مهتما بأن لا يسجن نفسه في دور «رئيس السود». يلاحظ المؤرخ باب نداي، المتخصص بالولايات المتحدة: «أوباما بذل المستحيل من أجل تجنب المسألة العنصرية بدءاً من العام 2004، بعدما صار وجها سياسيا، معروفاً على المستوى الوطني. إذ كان يعتقد بأن مرشحاً جدياً للرئاسة يتطلب ان يكون جامعا، يعجب الناخبين البيض، الذين يرفض أكثريتهم التكلم عن مسائل التميز العنصري».
منذ أن صار رئيساً يسكن البيت الأبيض، لم يعد أوباما الى «المسألة العنصرية» إلا نادرا، ودائما تحت ضغط الاعلام. عام 2008، كان المطلوب من خطابه الشهير أن يبني مسافة معينة بينه وبين مواعظ قسيسه الملتهبة الأب جيريميا رايت، حول جرائم أميركا العنصرية. وفي آذار 2012، تسبب مقتل مراهق أسود آخر، ترايفون مارتن، باضطراب واضح عند الرئيس... إذ أعلن وقتها بأن ذاك المراهق المقتول «كان يمكن ان يكون ابنه». بعد ذلك سنة تماما، عام 2013، بعدما برئ الحارس القاتل، أعلن أوباما بأنه هو نفسه كان «يمكن أن يكون ترايفون مارتن». اذ انه مثله مثل بقية السود الأميركيين، جرّب أوباما العنصرية، كما يصفها: «أن تكون ملاحقا عندما تقوم بالتبضع»، «ان تسمع إقفال السيارات عندما تمر في الشارع»... ليخلص، بانه على الأميركيين أن يكونوا «يقظين»، «ان يبحثوا داخل أعماقهم»، ان «يشتغلوا على الموضوع»... من دون أن ينفي تحفّظه على تنظيم حوار وطني حول مسألة الأعراق والتمييز العرقي.
أكثر من أي سياسي اميركي آخر، يعي أوباما تماما عنصرية رجال الشرطة الأميركيين. عام 1999، عندما كان ما يزال نائبا في برلمان ايلينوي، فرض قانونا يلزم رجال الشرطة تسجيل لون بشرة المخالفين الذين يوقفونهم، منعا لمغالاة هؤلاء في توقيف السائقين السود. ولكن كل هذه الجهود وهذه الخطب، لم تمنع مقتل مايكل براون في آب 2014، ولا مقتل طفل اسود عمره اثنتي عشر سنة، الشهر الماضي، برصاص بوليس أبيض. يعتقد باب نداي ان أوباما «كان يمكن أن يقوم بأكثر مما قام به. ولكنه اليوم يدفع ثمن ابتعاده الاستراتيجي عن العالم الاسود، وعن كل المسائل المرتبطة به».
[لورين ميلو. صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (30 تشرين الثاني 2014)
http://www.almustaqbal.com/v4/article.aspx?type=NP&ArticleID=641921