Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

عرسال الى أين؟ لمحمود الحجيري

اذا عدنا الى بالذاكرة عقود قليلة الى الخلف، وتجولنا بين تلال وشعاب السلسلة الشرقية من جبال لبنان، نصادف قرية صغيرة تأن عطشا وفقراً ون...



اذا عدنا الى بالذاكرة عقود قليلة الى الخلف، وتجولنا بين تلال وشعاب السلسلة الشرقية من جبال لبنان، نصادف قرية صغيرة تأن عطشا وفقراً ونسياناً، واذا أردنا أن نفتش عن هذه القرية في المعاجم الوطنية فنجدها في كتاب انيس فريحة "اعرف وطنك"، تحت اسم عرسال حيث يحدد مكانها ويشرح معنى الاسم لغويا ومن ثم يحكي عن ميزاتها فيخلص الى شهرتها بصناعة "الكشك" ومشهورة بصيد الحجل، ومعروف عن هذه القرية اعتمادها على الزراعة البعلية البسيطة، التي تتكون من عدة أصناف من الحبوب والمرتبطة بالظروف المناخية وما تجود به الطبيعة من نسبة امطار بالاضافة الى اعتماد عدد كبير من ابنائها على الرعي وتربية المواشي التي تعتمد على القطعان الصغيرة.

في مطلع الاربعينات من القرن الماضي بدا التململ الاجتماعي في هذه القرية، وبدأت حركة النزوح الموسمي تطال شريحة واسعة من ابنائها الى المناطق الزراعية في سهل البقاع والشوف واقليم الخروب ومع الأيام تحولت مقصداً لأرباب العمل، وخاصة في موسم قطاف الزيتون، من اجل تأمين حاجتهم من اليد العاملة.

 في مطلع الخمسينات بدا النزوح ياخذ الشكل الدائم حيث بدأت بعض العائلات تستقر في احزمة البؤس حول بيروت وتنسى الحياة السابقة، وبقي النزوح بشكل تدريجي وباعداد محدودة حتى مطلع الستينات، وبعد اجراء الانتخابات البلدية حدث خلاف عائلي في عرسال وسقط بنتيجته ضحايا فحدثت موجة نزوح كبيرة باتجاه احزمة الفقر والبؤس حول بيروت وتحديد مخيم اللاجئين الفلسطنيين "تل الزعتر" والمكلس وجسر الباشا،  وبهذا تكون هذه البلدة فقدت العديد من ابنائها بالاضافة الى من حافظوا على مهنة الرعي وتربية الماشية ورحلتهم المكوكية والسنوية بين البادية السورية وسلسلة جبال لبنان الغربية، وزادت عرسال بؤسا وفقرا وتهميشا.

 واستمرت هذه الحالة حتى اندلاع الحرب الاهلية عام 1975 فلم يتأخر ابنائها بحسم خيارهم وانخراطهم  بالحرب تحت راية ما سمي "البرنامج الاصلاحي" الذي طرحته الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط، وباشهر قليلة تحولت هذه البلدة الى احد معالم الحرب الاهلية لاندفاع ابنائها في المعارك من اجل احلام التغيير، وهذا جعل منهم صيدا ثمينا لميليشيات الاحزاب اليمينة اللبنانية، حيث قتل العديد منهم على الحواجز. وبعد المرحلة الاولى من تلك الحرب المشؤومة اي "حرب السنتين"(1975 -1976) وسقوط مخيم تل الزعتر تحت همجية النظام السوري وحلفائه انذاك الذي سقط فيه حوالي الخمسين ضحية من عرسال، حدثت موجة نزوح وتهجير معاكسة باتجاه هذه البلدة من قبل ابنائها، وبدأت اكبر ورشة لغرس الاشجار المثمرة من كرز ومشمش في لبنان ان لم نقل في المنطقة، وما زاد اطمئنان الاهالي حفر بئر ارتوازي في عرسال من قبل لجنة شعبية محلية عام 1977 وكان ذلك بمثابة ثورة بعد قناعة راسخة بعدم وجود مياه جوفية  في هذه الارض .


وشكل متواز اتجه اهل هذه القرية باتجاه قطاع المقالع والمحاجر المتواجدة في اراضيهم بكثافة وبنوعية جيدة ومميزة بالاضافة الى استثمار موقع القرية الحدودي في مجال التهريب او بنقل البضائع من والى لبنان، وبدات المؤسسات الصناعية التي تعالج الحجر تنتشر ويزداد عددها بشكل تصاعدي حتى وصل الى حوالي 500 بين كبيرة وصغيرة  بالاضافة الى عدد كبير من المقالع والكسارات وما يتطلبه كل ذلك من وسائل نقل كبيرة ومتوسطة التي تقدر بالمئات وكل هذا فرض وجود المؤسسات الخدماتية لهذه المؤسسات وملحقاتها من ورش تصليح الى مخارط وورش حدادة ومحلات لبيع قطع الغيار ومحطات المحروقات وتغيير وبيع الزيوت هذا بالاضافة الى وجود عدد كبير من الفنيين الذين يعالجون الحجر بالنحت والاعمال الفنية الى جانب ورش التركيب التي تكاد ان تغطي مساحة الوطن، وهذا انعكس ايجابيا على التجارة الداخلية ضمن البلدة وعلى حركة البناء والعمران ومتطلباتها وان كانت عشوائية بلا تنظيم مدني او رادع من اية سلطة، بالاضافة الى القطاع الزراعي الذي قوامه حوالي مليون ونصف شجرة مثمرة من الكرز والمشمش والذي يقدر انتاجها بالاف الاطنان من اجود انواع الثمر وعدد كبير من مزارع الخضروات الموسمية، والشق الحيواني في الزراعة ما زال موجود اذ يضم حوالي 60 الف رHس من الماشية بين غنم وماعز وعدد من مزارع الابقار، كل هذه العوامل جعل من بلدة عرسال تشهد نموا اقتصاديا لافتا، جذب إليها العديد من المؤسسات البحثية والدراسية والجامعات من لبنان والعالم وجعل الكثير من ابنائها يعودون إليها،
وتكاد تكون اكثر البلدات محافظة على وجود ابنائها نسبيا على مستوى لبنان وتجذب مئات الفنيين والتقنيين من كل ارجاء البلد وخاصة من محافظة البقاع  بالاضافة الى عدد كبير من اليد العاملة الوطنية والوافدة، وهذه الحركة الاقتصادية الناشطة في هذه البلدة لها اثرها الايجابي على الحركة الاقتصادية في محافظة البقاع وعلى كافة المستويات والقطاعات.

تفجرت الثورة في سوريا حيث تلقت عرسال العديد من شظايا هذا التفجير وتداعيباته حيث استقبلت عشرات الالاف من النازحين لدوافع انسانية وسياسية بسبب تاييد هذه البلدة للثورة ولكن مع تراكم الاعداد وطول الفترة الزمنية تحول هؤلاء النازحين الى عبء يؤرق راحة ابناء عرسال وخاصة باستقالة الدولة واجهزتها من مهامها الامنية، مع حملة اعلامية مغرضة من قبل اعلام الممانعة وابواقه وصولا الى احتلال عرسال من قبل المسلحين السوريين وما تبع ذلك من معركة قاسية حتى طرد الجيش هذه العصابات من هذه البلدة والاجراءات التي اتخذها الجيش للحفاظ على الامن، وفي ظل تواجد النازحين في عرسال بهذه الاعداد الكبيرة والغير منظمة والمسلحين في الجرود، فان عرسال وبنيتها الاقتصادية والاجتماعية في مهب الريح، فمليون ونصف شجرة في خطر الاحتراق والاهمال بسبب الخطر المسيطر على الجرود، العديد من المقالع ومناشر الحجر اصبحت في مناطق عسكرية وفي اية لحظة عرضة للاشتباكات، والنازحون اصبحوا منافسين لاهالي عرسال في ظل غياب قوانين او سلطة تنظم وجودهم وتضع حدود بين اللاجئ الذي يتلقى المساعدات ويعمل منافس بالحد الادنى من المدخول الى جانب ما يقدم له من خدمات ومساعدات اجتماعية ومادية، هذه الحالة عامة يعاني منها كل الشعب اللبناني لكن لها وقع خاص واثر سلبي على هذه البلدة لانها تصيب مواردها بشكل مباشر وتجعلها عرضة للتهجير والنزوح .

ليست هناك تعليقات