حسين الغجر(*): قبيل الهدنة وبعدها

alrumi.com
By -
0


ويحدث حين تجلس على خط النار ان تسرق السمع للروح للحجارة ولكل ما يحيط بك، يحدث ذلك قبيل المعركة وبعدها يتجمد الزمن وتتلاشى الوجوه، وحده الحلم يبقى كي يردد من خلف خوفك تقدم لن تموت اليوم سيموت عدوك إن تقدمت أنت وعند البداية يختفي الكون ويخف وزن الأشياء أنت والبندقية والبيوت .
يقول كل هذا وهو يرتب مخازن الرصاص في جعبته العسكرية التي غنمها منذ يومين في المعركة التي لم يحتفل بالنصر فيها لأنه ترك صديقه ممداً بين الصخور وعاد، صديقه القديم وعدوه في تلك المعركة (لقد قضينا طفولتنا في هذا الحي كنت أحبه وقتلته) يضحك ثم يصيبه الخرس فجأة .
الغرفة المتهالكة والتي لم يبق فيها سوى جدارين تتحول دون انتباه إلى غرفة اعتراف امام الله وصديقه والحرب حين يشعل سيجارته ويبدأ بالحديث عن كلاهما .
كنا طفلين، كل واحد منا يعيش في خرائب هذه البلاد أو على هامشها، كانت الشوارع غائبة إلا على ساكنيها، لم يصورها أحد رأيتها فقط في لوحات بعض الفنانين حين قالوا عنها أنها محض خيال وإبداع عن الخراب. كنا طفلين لا نحب المدرسة فقط لأن الطريق إليها طويل وأصابع أقدامنا شققها البرد في اليوم الأول، أقدامنا بدأت بالتعب قبل أحلامنا، لقد كانت المدرسة على بعد كليومترات من شارعنا كنا لا نعرف الدفء لا نعرف سوى الجوع، نكتشف العالم من المدرسين الذين يأتون من جانب المدينة الآخر، يتمتم الجندي الذي لا يملك خوذة ولا درعا في أثناء سيره نحو المرصد بين الخرائب التي يحفظ شكلها ويعرف رائحتها.
كنا يافعين نغضب من كل شيء، من العصافير ومن إشارات المرور التي اكتشفناها بعد زمن ونغضب من الأزقة التي تحيط بنا كسجن، نغضب من الجوع الذي دفع كل رفاقي إلى تعلم السرقة، كنا في القسم المشلول والمريض من المدينة في القسم الأكثر عدداً وبرداً وجوعاً، حينها لم تكن الوجوه واضحة ولا الأزقة، كنا نعيش خلف جدار سميك وعال وخلفه كان الحلم والأشجار، لقد عمل الكل على حجزنا خلف الجدران ولم ننتبه ان الحدائق لم تكن لنا بل أعدت كي لا نزعج العابرين من الطريق باتجاه مطار المدينة القريب منا.  لذلك لم استطع ان أصير شاعراً الجدران  تنتقل الى داخلنا وتحجز حلمنا .
 كنت شاباً وكانت التضاريس فيا في أوج بركانها، وأحسست دون قصد بحمى الفتاة التي قلت أحببتها لثلاث سنوات ولم استطع أن اشتري لها قلادة من حديد، كذبت حينها على رفاقي وقلت هي لا تحب الهدايا .
 كنت شاباً وأجهدت نفسي بجمع العصافير وجلب القلائد لها لكنها انتحرت بغيري، حينها صار الملح فيا غالباً وأدمنت الانتحار بغيرها .
الحرب
صوت اللاسلكي المضحك برموزه والتي لم تتغير منذ ثلاث سنوات (حمزة واحد. حول ) ( حيدر تسعة حول ) هي ذاتها التي صارت مع مرور الوقت الرمز المحفوظ عند العدويين الجندي صاحب الخوذة وعدوه المقابل له وكأنهم يسخرون من الحرب بسرية كاملة كي لا يضيع الموت هيبته أو كأنه فسحة التخي، حين يصدح اللاسلكي كلانا ربما يفكر ان يتقاسم مع الآخر علبة السجائر يقول فيخلق أمام كلاهما وهم يسندون ظهورهم المحملة بالبرد والنار والغبار، أو أثناء العبور بين الخرائب حتى الخط الآخير، أو كأنهما يحلمان ان يسند كل واحد منهم ظهره على نصف المدرعة التي تقاسموها، نصف لصاحب الخوذة ونصف لعدوه .
عند الإشارة أحدد هدفي هكذا تبدأ الحرب اول قذيفة تعني انك أمام الموت او القتل يقبض على بندقيته ويغمض ربما حتى تغيب الوجوه والملامح، ووحده صوت الرصاص والقذائف يشكل الوجه الواضح والغالب على اغماضهم ويشكل وجهاً لكل الخرائب والأزقة والضحايا والقاتلين .
 (هدنة)
وجوه لا تكف عن الجفاف ولا تستريح من جوع الثرثرة عن الدم وعن الحب حيناً بين عدويين بدون جدران أو رصاص، أحدهم يقطع كل هذا الجنون ويعيد تشكيل مفهوم المجزرة كي يحولها إلى حب بين عدويين او موت جديد، بين عدويين قتل كل منهم نصف الآخر فصار جثث من نصفين وضاع منهم ما تبقى او تمسك بالتراب وغاب فيه، وحده النصفين يقطع كل الخطوط ولافتات القناص ويعبر خط الامداد ووحده الصوت لا يموت صوت القات المقتول حين يصرخ (لقد انتصرنا يا رفاق لقد انكسرنا) ليرد صداه مختلط بكل أصوات النحيب في هذه الارض لقد انتهينا يا رفاق ويركضان ملوحان بروحهم للأرض... (هذا السراب) يقول احدهم (نساء من ذهب) يرد آخر .

على رصيف الحديقة التي لم يلعبا عندها في طفولتهم ربما تكومت جثتين مقابلاتين لبعضهما، جثث لم يتسع لها الكون ولم يعطها فرصة ربما للصراخ أو الحلم ووحدها الحرب من تنهي غربتهم بموت.

كاتب سوري والنص خاص بالرومي
Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)