
على الطريق في النزلة التي يسميها سائقو السيارات العمومية نزلة السارولا كان الرجل بائع العلكة واقفاً كعادته بل كان متحركا كعادته فيما هو يقدم العلبة الصغيرة للسائقين من خارج نوافذهم المفتوحة باذلاً جهداً أحسبه هائلاً لإبقاء جسمه المنتفض المهتز واقفاً متماسكا، ذلك نوع من الإعاقة شائع كما أنه شائع التشوه الذي يصاحبه جاعلاً اليدين، مساقتين كأنما بأسلاك داخلية معطلة في آخرهما أو في آخر حركتهما كانت الأصابع ممدودة متصلبة هكذا كأنها تصوب أو تشير إلى كل شيء تأخذها اللاإرادية إلى ناحيته، أما وجهه الذي كان عليه أن يبذل له القسم الأعظم من الجهد ليبقيه ثابتاً في مكان فكان مبتسما برغم ذلك مظهراً عن هنائه ــ نعرف أنها نحن المزدحمة سياراتنا في النزلة ــ أنها من أخطاء الشكل ومن تشوهاته.
في يوم واحد من الأيام لا أعرف ماذا فعل وماذا تغير فيه فأصبح قابلاً لأن يوصف في مشهد روائي أو قصصي ربما كانت تلك النظرة المتأملة التي انصرف بها عن زبائنه إلى نفسه ليرتاح، وإن واقفاً وسط ضجيجه الداخلي المتولد عن حركته الموصوفة أعلاه، قبل ذلك قبل تلك النظرة لم يكن يخطر لي أنه من شخوص الكتابة ومن أبطالها، كان برغم كل ما فيه واحداً من مشاهد الطريق المعتادة كان أفقر تعبيرية وأقل قوة مشهدية من أن ينتقل من حيز الحياة إلى حيز الأدب، ذاك الانتقال الصعب الجوهري الذي لا يتحقق بمجرد أن يأخذ كاتب قلمه ليكتب عن شيء رآه، ذاك أن الشخص أو الشيء يجب أن يكون موجوداً وجوداً كتابياً قبل أن تصل الكتابة إليه رجلنا هذا في نزلة السارولا كان قليل الحظ إذ كان يفقره وجوده العادي لولا تلك النظرة المتأملة التي انطوى بها على داخل نفسه مرتاحا من زبائنه تلك النظرة الواحدة وضعته في مشهد أو جعلت منه مشهداً إنه بها ــ تلك النظرة ــ كان قد بدا كأنما في صورة فوتوغرافية، أو كأنما في تمثال، مشهد قابل لأن يكون خالداً الخلود الذي نعتقده للأدب.
ليست الكتابة مهنة أو صنعة لتحويل الحياة اليومية إلى أدب هكذا على نحو ما شاع من تحويل المعادن إلى ذهب. ذاك أن الأدب أو الرواية ينبغي لهما أن يكونا موجودين وجوداً سابقاً في الحياة. الرجل بائع العلكة في نزلة السارولا كان قبل اكتشافه أقل حظاً من الرجل الذي يشبهه في فيلم «ابنة ريان« لدافيد لين إذ تميز هذا الأخير بوجوده في السينما التي ألفت له مشاهد هو المعتوه الأشوه بدا فيها كأنه واحد من أربع شخصيات نموذجية أو خمس تختصر بشر إيرلندا السابقة جميعهم جعلته السينما فيما هو يمشي مقلداً مشية العسكريين، معلقاً على صدره الوسام الذي وجده مرمياً على رمل الشاطئ ورافعاً يده فيما هو يمشي بالتحية العسكرية جعلته السينما واحداً من الشخصيات التي نستعين بها لنرفع إلى الضوء أشخاصاً يشبهونه لكن مغمورين في عادية الحياة وفي ظليتها.
صاحبنا بائع العلكة كان أقل حظاً من مثيله الذي في فيلم دافيد لين إذ لم يستطع بوقوفه هناك في نزلة السارولا أن يوسع مشهده ويجعله في قوة المشهد السينمائي أو الروائي لم يستطع أن يرفع نفسه إلى ذلك المصاف، ما يمكن أن يؤهل شخصاً للرواية أو للسينما هو فيما أحسب جمعه في صورته الواحدة لصورتين أو أكثر يضمهما معاً فيه ذلك يشبه تلك اللوحة البلاستيكية الصغيرة التي كنا نلهوا بها أطفالاً فتظهر لنا إذ نحركها صورة ثانية كانت مختبئة فيها في أثناء ما ننظر إلى ما يشبه ذلك الآن من بشر حقيقيين نكون فيما أظن لا نعدد الوجه أو نكثره بل نكون نتخذ ذلك وسيلة لنسبر غوره.
كما لنسبر حقائق أو موضوعات للتفكر يثيرها فينا ازدواج الوجوه واختلاطها الرجل بائع العلكة أدخل وجهه في هيئة أخرى إذ انصرف عنا في تلك اللحظة إلى نفسه ماذا هناك في نفسه؟ صرنا نتساءل نحن الذين في السيارات التي أوقفتها الزحمة كيف هي نفسه؟ هل هي واسعة مثل أرض منبسطة لا عوائق فيها ولا نتوءات؟ هل بيضاء أو هادئة اللون على الأقل مثلما نعتقد أنها أرض الجنة؟ لقد حملنا الرجل بنظرته تلك إلى أن نفكر فيه مستخدمين لإيضاح ذلك لأنفسنا صوراً لأفكار أو صوراً مختلطة بأفكار أو أننا بنحو أدق استسلمنا في تفكيرنا إلى ما نعتقده اتجاهنا التلقائي الخاص بنا أي أننا سرنا مع موجتنا الحرة أو مع تيارنا المتسمة حركته بالاندفاق والتوسع لا بالتسلسل. جعلنا الرجل إذ أدخل وجهه في هيئة أخرى جعلنا نتساءل ماذا هناك في نفسه؟ أو كيف هي نفسه؟ منذ الصفحات الأولى من روايته «الصخب والعنف« وضعنا وليم فوكنر في هذا الموقف ذاته إزاء بطله المتخلف عقلياً، بنجي أو بنجامين منذ بداية ظهوره في الرواية ممسكاً بيد أخته التي ترعاه في نزهته مانعة إياه، في الوقت، نفسه من التقاط كرات الغولف التي تتقدم متدحرجة إليه بعد أن تضرب هناك بعصيها منذ ظهوره الأول ذاك، بدأ بنجي يتكون كشخصية كأنما من باطنه لا من ظاهره لم يصفه وليم فوكنر جسماً وشكلاً بل بدأ به من هناك من أعماقه التي رحنا نتساءل ماذا فيها أو كيف هي؟
هذا وقد كان فوكنر ملحاً في السؤال إلى درجة أنه أدخل نفسه في باطن بنجي المتخلف عقلياً وأخذ يتكلم أو يروي من هناك من ذلك الداخل الغامض في التعبير الشائع يقال مثلاً إن الروائي حل في شخصية بطله أو يقال أنه تقمصها قد يكون هذا التعبير الشائع دقيقاً لكنه في أي حال لم يعد جميلاً ولا موفياً بالغرض ذاك أن طول الاستعمال قد أنقصه أو أضعف المعني الذي يحاول من دون تمكن أن يوصله قوياً، ينبغي حتى يتعلق الأمر بالرواية أن لا نأخذ الكلام إلا حياً لم يمت منه شيء.
لقد بدأ وليم فوكنر من باطن بنجي لا من ظاهره وهو إضافة إلى ذلك بدأ يروي من الوسط لا من البداية من الوسط أي مما هو قلب الرجل المتخلف عقلياً أو صلبه أو صلب نفسه أي أنه بدأ من الموضع ذاته الذي سينتهي إليه هكذا كأنه ظل في الوسط أو في البؤرة المكونة للجسم المصنوع كله من طاقتها. تلك بداية أملتها موجة التفكير الحرة في الرواية، في كتابة الرواية، أحسب أنه ينبغي لنا أن نكون هناك في بواطن البشر أو في دواخلهم وليم فوكنر لم يكتف بأن أحل نفسه محل نبجي بل إنه، في كتاب آخر له «بينما أرقد محتضرة« أحل نفسه محل كل من شخصيات الرواية جميعها أرنست همنغواي وصف الألم الذي شعر الثور، بصيغة الثور المتكله حين اخترقت الرصاصة رأسه في قصة فرنسيس موكاميير الروائي اللبناني فؤاد كنعان أحل نفسه محل بيته وكنيسة قريته وجعل ينطقها أو ينطق بلسانها لطالما سعى الروائيون إلى الحلول محل شخصيات أخرى أو أقوام أخرى أو حتى مخلوقات أخرى ذلك على الدوام كان فتنتهم وامتحانهم في الوقت نفسه يمتحنون أنفسهم به أما مصدر هذه الفتنة فهو، فيما أحسب، كامن في مطابقة الذاتين ذات الروائي وذات موضوعه في ذات واحدة ذاك يعيدنا بالطبع إلى الهيئتين في الوجه الواحد المذكور عنهما أعلاه كما يعيدنا أيضاً إلى تلك اللعبة البلاستيكية ذات الصورتين المختبئة إحداهما في الأخرى والمحاولة في الوقت ذاته أن تطغى عليها وتزيحها.
ليست الكتابة الروائية مهنة أو صنعة لتحويل الحياة اليومية إلى أدب وليس بالحبر وحده يمكن للبشر المهملين أن يخرجوا من ظل الحياة إلى ضوء الكتابة الروائي ليس حاملاً الحياة إلى الكتب بالنقل والتدوين، إنه أولاً وقبل كل شيء راء لما هو موجود، لكن الموجود هذا للنظرة العابرة المتسرعة، ليس بالمستبان بحسب أبي نواس، أنه راء وكاشف أيضاً مستخدماً في سبيل ذلك وعيه واستبطانه الروائيين كما لغته الروائية أيضاً تلك التي لن تصل إلى تمامها أو كما لها مادام أنها تخترع نفسها دائماً، وعلى نحو ما هو خطأ القول إن هناك طريقة لتأليف الرواية على الروائي أن يطبقها أو يحتذيها كما يحتذى معد أطروحة الدكتورة سبيل من سبقوه، على نحو ما هو خطأ هذا القول كذلك من الخطأ الفادح اعتبار أن هناك لغة على الروائي أن ينضم إليها ليدخل في سلكها.
أراني هنا معولاً تعويلا كثيراً على رجلي بائع العلكة الموصوفة حركته أعلاه كما الموصوفة نظرته التي أهلته فجأة لأن يكون في مشهد روائي أحسب أن حالي ببطلي هذا قد يشبه حال جرير الذي أشار إلى الرجل شارب اللبن من ضرع المعزة وقال: انظروا هذا هو أبي الذي قلت شعراً كثيراً فيه هل يستحق بائع العلكة أو سواه من أضرابه وأشباهه أن يحمل إليه الأدب ويوقف عنده؟ أقصد هل يقدر رجلي ذاك أو بطلي أن يستحق البطولة تقوم عليه وحده هكذا من دون أن يكون دالاً إلا على نفسه أقصد أيضاً هل يمكن أن يكتفي به منعزلاً عن الموضوعات الكبرى التي تساق عادة شخصيات الروايات تحتها كالقطعان هل يستطيع أن يقوم بنفسه من دون موضوع الفقر مثلاً أو من دون موضوع العدالة الاجتماعية أو حتى عدالة الأقدار المفقودة بتفريقها بين الناس؟ عن كتاب لي هو «تحت شرفة آنجي« قال لي قارىء ناقد أنه كان على أن أستفيض في وصف المأساة الاجتماعية التي تعانيها العانسات. لم يجد اكتمالاً للمعني أو تحققاً له فيما هو يقرأ صفحات عمن أسميتهن النساء الصغيرات يتسامرن أو يتغاوين على طريقتهن طبعاً في المقهي الذي ذهبن ليجلس فيه يجب عليهن بحسب القارىء الناقد ذاك أن يعبر عن شيء حتى يمكن لهن أن يتواجدن أي أن عليهن أن ينتمين إلى واحد من الموضوعات الكبيرة تلك ليكون لوجودهن سبب ومعنى.
ذاك أن الرواية عندنا في تيارها الغالب مازالت ساعية إلى نوع الانتماء ذاك لها في حاجة على نحو ما للفرد حاجة ليكون ذا معنى إلى حزن أو إلى جماعة أو قوم أقصد هنا ما يوحد الحزب أو الجماعة أو القوم وهو العقيدة أو العصبية أو الدم، لا يفيد في شيء أن تتناول الرواية العانسات الثلاث من دون أن يكون موضوعها العنوسة نفسها كما لا يفيد في شيء أن نكتب عن أشخاص جانبيين أو هامشيين عايشناهم في سنوات الحرب الكثيرة، هكذا من دون أن يكون موضوعنا هو الحرب، أي بعبارة أخرى من دون أن يكونوا ضحاياها، أين الحرب في هذه الروايات صار يسأل النقاد كتاب الرواية أو «أنها رواية الحرب« قالوا وما زالوا يقولون عن حقبة روائية مازالت مستمرة منذ عشرين سنة.
الحرب التي ينبغي أن تكون قضية الكتابة وأن تتلقفها الكتابة مثل فرصة سنحت يبدو أمرنا كما لو أننا لا نقدر أن نؤدي معنى إلا إن انضوينا في قضية واتخذنا لأنفسنا اسمها يجب أن يكون للشيء معناه الذي لن يستقيم وجوده إلا به، هذه ليست رواية عن الشيخوخة صرت أقول لمن قرأوا روايتي «أيام زائدة« ليست عن الشيخوخة بل عن هذا الشيخ الفرد الذي لا يشبه الشيوخ في شيء. إنها رواية عن الشيخوخة يقولون، وأنا أقول لا ليست كذلك لكنهم بعد ذلك يعاودون قول ما قالوه حتى بت أسكت إذ يقولون ذلك شأن رجلي الشيخ الذي أتعبه إصرار من حوله أنه في السابعة والتسعين وليس في الواحدة والتسعين فقبل هكذا بالعمر الذي شاؤوه له.
روايات ينبغي لها أن تنتمي إلى قضايا أو تتبع قضايا أعطي اسم رواية الحرب للرواية اللبنانية المعاصرة وذلك على أمل أن تشمل التسمية كل ما كتب وما لم يكتب بعد ذاك أنه ينبغي أن يعطي اسم للحقبة لكي تسمى به، إنها رواية الحرب وقبلها بحقبتين أو ثلاث كانت رواية الهزيمة، أما الشعر الذي ظهر بعد "رواية الهزيمة" فهو شعر المقاومة أو "شعر الجنوب" في لبنان بعد أن صارت للجنوب حربه وقضيته روايات حقب ذات أسماء وإن لم يتوفر ذلك سعت الرواية إلى تسمية قضيتها غير الروائية طبعاً بنفسها في السنوات الأخيرة ازدادت قضايا الروايات عظماً فهنا رواية عن تاريخ بلد كامل وهناك رواية عن التغيرات الاجتماعية التي ألمت بمدينة كاملة، أنه الهوى الملحمي يستعاد ثانية ذلك فيما أحسب يشبه أن تنظر الرواية في مرآة مجتمعها ذي القضايا الكبيرة الموحدة ليكون لها مثله قضاياها وأسماؤها التي لا تقل أهمية وعظما أنها تنظر في مرآته لتعرف نفسها أو لتعرفها هكذا ستكون رواية التواريخ الكاملة لمدن أو البلدان أو لحروب مرحباً بها على الدوام من أجلها نرضى بأن يكون الزمن مستقيما ممتداً مثل فلاة متطاولة المسافات.
محاضرة لحسن داوود قدمها عام 2008.