محمد حجيري
مقال كتبته قبل سنوات عن كتاب "اوهام الاسلام السياسي" للكاتب السياسي عبد الوهاب المؤدب في ملحق النهار، استعيده الان مع غياب المؤدب.
يجد عبد الوهاب المؤدب، كالكثير من الكتّاب والباحثين، ان اعتداء 11 ايلول 2001 الذي ضرب عمق الولايات المتحدة الرمزي يشكل الذروة القصوى في سلسلة اعمال ارهابية سلكت خطا تصاعديا، كانت نقطة انطلاقه في العام 1979 الذي شهد انتصار الخميني في ايران واجتياح الجيش السوفياتي افغانستان. لقد كان لهذين الحدثين نتائج عززت الحركات الاصولية وساعدت في نشر عقيدتها. ومن اجل فهم تشكل هذه العقيدة يلزم الغوص في عمق الماضي للتحقق من الكيفية التي تهيأت بها القراءة الاصولية لكل من القرآن والسنّة. يستعيد عبد الوهاب المؤدب الطريقة المتبعة في علوم التفسير والفقه كي يبيّن اين يفسح هذا النص للتعصب او لتشجيع اولئك الذين لا يحتفظون من روحية الاسلام الا بالدعوة الى الاحتراب والجهادية. فالاصوليون الاسلاميون عمموا التكفير والتحريم والجهاد، في حين ان السنّة النبوية طالما كانت حذرة في مقاربتها هذه المسائل. فيصير من الملحّ تتبع تنامي هذا التكوين الذي انتج في النهاية مسوخا نسوا اهداف الوجود، وحولوا السنّة القائمة على مبدأ الحياة ومفهوم النعيم، سباقا محموما نحو الموت.
ففي يوم انهيار برجي نيويورك وسط غمامة هائلة من الغبار العدمي، وفي اللحظة التي قضى الوف الابرياء وبعضهم قافزا من النوافذ، كانت قنوات التلفزة تعرض مشاهد البهجة الآتية من فلسطين ولبنان. هذه الصور الجارحة انسانيا والمدمرة سياسيا، تم احتواؤها في وقت لاحق، ولهذا البؤس اسباب داخلية واخرى خارجية، فإذا كان التعصب هو داء الكاثوليكية، والنازية مرض المانيا، فمن المؤكد ان الاصولية هي داء الاسلام. اما في ما يتعلق بالعوامل الخارجية فيجدر القول انها لم تكن اساس الداء الذي يفتك بجسد الاسلام، لكنها من غير شك العنصر المحفّز او ان حدة الداء تضاعفت بسببها.
فجيعة زوال الغلبة
لا شك ان جسد "الامة" الاسلامية منهك بالداءات وليس بداء واحد، واذا كان داء الاصولية هو الاكثر سطوعا خاصة بعد العمليات الارهابية امام كاميرات التصوير، فهناك الداء النفسي اذا جاز التعبير، اذ لا يزال العالم الاسلامي مفجوعا بزوال غلبته. فقد سبق لهذا العالم ان شهد حقبة امبراطورية عـظمى تزامنت واندفاع فتوحاته او غزواته (وهي استعمارات بالطبع). اما انحسار الاسلام فكان قد بدأ في القرن الرابع عشر، لكن الاسلاميين لم يدركوا تأخرهم عن الغرب الا في اواخر القرن الثامن عشر مع حملة بونابرت على مصر. فالمسلم الذي كان يدّعي التفوق على الغربي او التساوي معه على الاقل، لم يتفهم المسار الذي اوصله الى هذا الدرك في مواجهة ندّه الاوروبي. ومذاك سيتولد لدى العربي المسلم شعور بالحقد حيال الغرب. ذلك لأنه تحوّل شيئا فشيئا الى رجل "لا" الفاقد للمبادئ والمكتفي بردة الفعل، يراكم الحقد وينتظر الوقت المناسب للانتقام، فمن اريستوقراطي سيد، تحول المسلم شيئا فشيئا الى حقود مكبوت، يعتقد نفسه اعلى من الظروف التي ينوجد فيها.
على ان عبد الوهاب المؤدب يبدو مثل القوميين العرب الطامحين الى حداثة من خلال التغني بنجاحات العرب، في حقبة سابقة. ان تغنيا كهذا لا يعني الا التسليم بقياسات تؤكد تفوق الغرب الآن. في المقابل، تلجأ الاصوليات الاسلامية الى اتهام الغرب بالانحطاط و"الجاهلية"، جملة وتفصيلا، مع تأكيد ان الحقائق العلمية محتواة اصلا في النص المنزل.
لنقل ان العرب يتحدثون دائما عن الماضي فيمجدونه، وهذا داء بالطبع، متناسين خمسة قرون من الانحطاط! جميعهم يرجعون الى غرناطة وقرطبة لأنها كانت فترة مجيدة في نظرهم، او "الجنة الارضية"، وهم لا يستخلصون تجربتهم من فترة الانحطاط التي امتدت خمسة قرون، منذ احراق كتب ابن رشد. لكن عبد الوهاب المؤدب يقول ان من الخطأ الاعتقاد ان الطاقة الفكرية والخلاقة في الاسلام قد نضبت بسبب غياب ورثة لفكر ابن رشد. ان الحضارة الاسلامية فقدت خصوبتها في نهاية القرن الثاني عشر، بالتزامن مع سقوط مذهب ابن رشد، مع ردة فعل الفقهاء التي اثارتها اعماله الفلسفية، اذ سيطر على الفكر ابتداء من القرن الخامس عشر شيء من القصور صار اكيدا. هل كان لابن رشد مذهب؟ يقول مالك شبل في كتابه "مفهوم الفرد في الاسلام": "صحيح ان الاسلام عرف فلاسفة كبارا، لكن عظمتهم ترتكز خاصة على مهارتهم كمترجمين كبار، وعند الاقتضاء كمجادلين بارزين. لكن اطروحاتهم كانت دائما مسالمة وبدون اي مواجهة بالغة مع النصوص المؤسسة". وهو بذلك يخفف من اثارة بعض الباحثين العرب والغربيين الذين يشيدون بهؤلاء الفلاسفة، لأنهم ليسوا سوى فلاسفة على الموضة. يتساءل مالك شبل على اي اساس كان ابن رشد صوريا محضا ولم يطرح ابدا اي تساؤلات حول النظام الذي يعيش فيه؟ فقد كان موظفا كبيرا ووزيراً للعدل في النظام الذي كان يعيش فيه، ويتمتع بمنافع كثيرة، وخلال فترته كان الانحطاط داخل العالم الاسلامي قد بدأ، وكان عليه ان يلاحظ ذلك، لكنه لم ير شيئا، وهذا دليل على انه فيلسوف نظام. هل نقول ان داء الثقافة في النظـام؟
الداء العضوي؟
يبدو الداء في الاسلام عضويا، اذا جاز التعبير، هذا ما يبيّنه مالك شبل الذي وجد ان الاسلام ديانة منظمة، وعالم قائم في ذاته. فالمسلمون لديهم نظرة كاملة الى العالم، كما لديهم نظام اخلاقي كامل بقيمه وممارساته وتمثيلاته. في زمن القبيلة كان في امكان الكثيرين من الشعراء والناس، التكلم بـ"انا". جاء الاسلام وقال "لا"، وكان ذلك مثابة قطع الطريق على التمرد. فالله يقول لنا: "وحدي القادر على الكلام، والشيطان لا يسعى سوى لمناقضتي". وفي جميع الحالات، يقول مالك شبل انها ميزة الطائفة المسلمة: اغراق الـ"انا" في حوض الـ"نحن". وفي هذا السياق، من الطبيعي ان يوضع الافلات الفردي بسرعة في سلة المحرّمات كهرطقة. جميع الحركات الانشقاقية كانت صادمة للاسلام لأنها بالتحديد تعيد ابتكار الحل الفردي، او الحل الرافض للعقيدة الموجودة. اذاً، الـ"انا" كانت مكروهة ولا تزال حتى اليوم. فالشخص العربي المذهب يقول: "هو" او "نحن" ويعتبر الـ"انا" اساءة الى الله. هل نقول ان اعطاء الحرية للفرد كان سببا اساسيا للحضارة؟
في زمن الخليفة المأمون، ازدهرت الثقافة الفقهية والعلمية ثم جاء المتوكل وقام بعكس ذلك واضطهد المعتزلة. ومنذ صدور "الوثيقة المتوكلية" (في تعبير نصر حامد ابو زيد) في ذلك الزمن حول العقائد الصحيحة لأهل السنّة، والتي تتضمن ان القرآن ازلي قديم، تجمدت المشكلة واوقفت الاسئلة لصالح مؤسسة لاهوتية هي الى حد كبير اشعرية حنبلية، وهي الى حد ما لبّ الداء الاسلامي و"النبع" الرئيسي للتيارات الاصولية. فأبن حنبل هو مؤسس احد المذاهب الفقهية الاربعة في الاسلام السنّي، وهو في مذهبه يشدد اكثر من غيره على العودة كلياً الى النص، والسير على خطى السلف الصالح، رغبة منه في تطبيع النموذج الذي نشأ في المدينة. وفي الفترة الفاصلة بين ابن حنبل والقرن الثامن عشر، الذي شهد قيام الدعوة السعودية على يد ابن عبد الوهاب، يطلع المؤدب على ما يمثله ابن تيمية كحلقة وسط. فهو من اتباع ابن حنبل الراديكاليين، عاش فترة عصيبة مر بها الاسلام (والمقصود بالفترة العصيبة الظروف المتمثلة في الغزو المغولي ونهب بغداد واسقاط الخلافة)، وقد ولدت تلك الحالة احساسا بدنو قيام الساعة، وهو وضع شعر معه المسلمون ان دينهم مهدد حتى في وجوده. وعلى هذا عاد ابن تيمية الى الذات الدينية الراديكالية، واخذ على عاتقه صقل النص وتنقيته من مختلف المعاني التي لا تعجبه، وبذلك طرد كل ما صادفه من انعكاسات للفلسفة والمؤثرات اليونانية على الخطاب الديني، وشهّر بعدد من المذاهب الباطنية معتبراً انها من البدع بسبب ما توليه من اهمية للتأويل. واضافة الى ذلك فهو أولى موضوع الجهاد اهتماما متميزا في كتابه "السياسة" وساوى بينه وبين الصلاة.
اما محمد بن عبد الوهاب، صاحب الدعوة الوهابية التي تنتسب اليه، فهو القائل، في عمق الجزيرة العربية، بنظرية ابن حنبل المتقاطعة مع نظرية ابن تيمية، وفي مسقط رأسه نجد، التحق بآل سعود الذين عملوا على الامساك بالسلطة عبر السيطرة على الصحراء العربية، لكن محاولتهم الاولى باءت بالفشل. هكذا، وفيما كان عصر الانوار يتألق في اوروبا في خضم القرن التاسع عشر، انطلقت هذه الحركة التي ستساهم بعد قرنين في ولادة المملكة السعودية الحالية في العام ،1932 بعد اعوام قليلة من محاكمة علي عبد الرازق في مصر بسبب كتابه "الاسلام واصول الحكم"، وطه حسين بسبب "في الشعر الجاهلي". كان الكاتبان من دعاة التنوير والتحديث والسير في الركب الاوروبي، لكن هذه المحاولة النهضوية فشلت، ويعيد عبد الوهاب المؤدب السبب الرئيسي لاخفاق هذه النهضة الى المعوقات التي زرعها الاوروبيون على طريق محمد علي. فمع زمن التوسع الاوروبي كان من المفترض بأي طريقة منع قيام اي قوة اقليمية على مشارف القارة العجوز، تكون منافسة لسوق في حالة الغليان، ويستخدم السلاح في سبيل حمايتها.
الاوروبيون أيضاً أخطأوا
واذا كان العرب قد تأخروا عن الاوروبيين ولم ينتبهوا، فإن سيمون فايل حذرت في نص لها ينطوي على نظرة ثاقبة من "ان امركة اوروبا ستحضّر على الارجح لأمركة الكرة الارضية". لم يدرك الاوروبيون ذلك، وشيئا فشيئا حلت الامركة مكان الاوربة، وانتهى زمن الاستعمار انما في غفلة، اذ كان رفض الاعتراف بأن زوال الاستعمار هو احدى النتائج الحتمية لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. تحوّل العالم من الزمن الاوروبي الى الزمن الاميركي، ووسط هذا التحول كان العالم العربي يغرق في التخلف. وتولد من نتائجه ثقافات، فالافغاني وتلميذه محمد عبده كانا معارضين سياسيا للهيمنة الاوروبية (كما تجلت في السيطرة الاستعمارية). لكنهما كانا في خصوص الثقافة الفكرية مفتونين كليا بالثقافة الغربية وخاضا معركتهما ضد الاستبداد المحلي انطلاقا من المقولات السياسية الموروثة من عصر الانوار الاوروبي. وقد قام مشروعهما الحضاري على استعادة الامجاد عبر التوفيق بين المساهمات الغربية والاخلاص للتراث.
الاعجاب بالغرب لم يكن دائما بالنسبة الى مفكري النهضة، فهناك مؤشر ذو زمنين يبيّن الانزلاق من الاعجاب بأوروبا الى رفضها. فالشيخ رشيد رضا، تلميذ محمد عبده ووارثه الروحي، غيّر في آخر حياته رأيه في الوهابيين بعدما كان اعتبرهم في مقالات الشباب اصحاب بدعة، وكانت له الجرأة كي يعدّل من موقفه عبر تقريظه لهم حتى قبل ان ينتصروا في الجزيرة، معتبرا اتباع ابن عبد الوهاب ممثلي السنّة بعدما كان رأى فيهم اصحاب عقيدة منحرفة. غير ان هذا التراجع يكشف عن تطوّر لدى رشيد رضا في اتجاه موقف اكثر تحفظا، بعيدا عما حققه معلّمه محمد عبده من اختراقات، وخصوصا في ما يتعلق بالاخذ من الغرب. فهو من جهته شدد مجددا على ان واجب المسلم ان يقاوم تأثيرات الغرب الاخلاقي عليه وان يواجهه بموقف اخلاقي يبيّنه انطلاقا من جذوره الخاصة. هذه الثغرة هي التي سيتوسع فيها في مرحلة ثانية حسن البنا، مؤسس "الاخوان المسلمين". ففي نص البنا يمكن تبيين المعاداة للغرب التي يجري التعبير عنها عبر خطاب بدائي يفرض اقتناعاته كأنها من المسلّمات. ان تعميم الخطاب السطحي يبدو مؤشرا الى البؤس الذي ينم على احد عوارض داء الاسلام. ويجد القارئ نفسه مع هذا الاستشهاد، ازاء نموذج مثير للشفقة من الاطروحات والتفكرات الساذجة التي تلقفتها العقول الحاقدة.
وقد ظهر مفكرون آخرون، اقل فظاظة من النزعة نفسها، ففضلوا هذه الشروح عبر عملية تحريف وانتهاك للمفاهيم. هذا ما فعله الباكستاني ابو علي المودودي وفي درجة اقل تلميذه المصري سيد قطب، وهما صوتان كان لهما صدى بالغ التأثير في المحافل الاصولية الحالية التي اعتمدت العنف وسيلة مثلى من وسائلها للوصول الى الحكم والسيطرة على الدولة.
الاسلمة الشمولية
مقت المودودي الثقافة الشعبية للأميركيين، بما فيها موسيقى الجاز التي يعبّر فيها السود عن غرائزهم. في حين كان قطب قبل اسلامه ناقدا ادبيا قريبا من عباس العقاد، مناهضا لطه حسين، وفدياً، لم "يتأسلم" الا في الولايات المتحدة التي سافر اليها موفدا من وزارة المعارف عام ،1948 لدراسة النظام التعليمي. استيقظ في عزلته الاميركية على اسلام الجماعة وايمان الجماعة، وكانت مشاهد قسوة الحياة على الضعفاء والاذلال الظاهر في الجنس، من دواعي عودته الى الاسلام، ووصف كل ما هو تابع للدولة بأنه جاهلي وينبغي "الجهاد" ضده. في المقابل ينقل المودودي السلطان الى الله، ويحيل مجمل الحقل السياسي على الحقل الالهي، ويخوض الحرب ضد الانظمة السياسية انطلاقا من هذا التسويغ. يأخذ على الغرب موت الله لكنه اسس لموت الانسان. المودودي وسيد قطب من دعاة اسلمة شمولية نجد اثرها عبر التحول الذي يصيب الجسم الاجتماعي في علاقته بالملذات والمتعة. فالمجتمع الاسلامي انتقل من التقاليد القائمة على حب الحياة الى الاحتشام الذي يذخر بالكراهية للمشاعر الحسية. فـ"نادرا ما نجد ثقافة دينية تهتكية الى هذه الدرجة في بنيتها، واباحية تجاه اشكال الملذات الارضية الاكثر تنوعا" (مالك شبل). انها ثقافة البعد الارتعاشي. لكن في الزمن الاصولي، باتت الحشمة مقياسا للحظوة بالاحترام. فأي انغلاق هذا الذي تشهده الديانة التي طالما سحرت الاجانب باحترامها للجسد، وبدعوتها الى المتعة التي هي من اسس عقيدتها؟
مرضى العدمية والحقد
يقترح الاسلام الاصولي مدينة محتشمة، سكانها مرضى بالعدمية والحقد، في حين ان الجسد العربي قد تحرر من الضغوط الموروثة، وهو انقلاب لا يعيه المسلمون، ويقترحون مجتمعهم الفاضل المضاد في نظرهم للمجتمع الغربي الموسوم بالرذيلة والشيطان. وفي ظل هجاس النقاء الجنسي، تتحول المرأة رمزا للهجوم الغربي بقدر ما تتحول المرأة المسلمة هدفا له. هذه هي الرؤية (الدائية) الجذرية المرعبة التي تؤسس لمحو كل فكر وتجعل العالم مثل صحراء، تطالعنا مشاهدها الموحشة حينما نلقي نظرة في الصفحات التي دبجها سيد قطب. فكل ماضي البشرية وحاضرها متهاو، وكل فكر، وكل تصور، هو من التقصير بحيث يستحق التدمير، اذ يجب القضاء على كل شيء باستثناء كلام الله. هذا موجز لأحد كتب سيد قطب، حيث خصائص الانسان "ميتا - حيا" على هذه الارض المحروقة.
ومن ربط هذه النظرية بالمذهب الوهابي، تشكلت الاصولية الاكثر شؤما، ومنه اصبح معتنقوها يتكاثرون في كل زاوية وخلاء، على وجه الارض. والنافل (بحسب المؤدب) ان الاصولية تزدهر على انقاض التجارب الفاشلة، وهذا اضافة الى انهيار مشروع القومية العربية في صيغتها الناصرية بعد هزيمة ،1967 حيث يلاحظ نصر حامد أبو زيد في هذا المجال ان الحداثة بعد هذه الحرب لم تعد مرجع تأويل التراث، بل صار التراث هو مرجع تأويل الحداثة، واصبح التراث هو المتن الذي يؤول عليه، وتالياً انفضّ نهائياً مشروع النهضة، وانفتحت ابواب الجزيرة امام أشباه المتعلمين، خريجي الازهر، الذين هاجروا بكثافة سعياً وراء الكسب المادي. في تلك المرحلة تعمقت الصلة بين الاصولية والوهابية. لكن الامر استغرق حتى اوائل الثمانينات كي تتحقق عملية الربط الثانية، الاكثر حضوراً من جهة اخرى، لكونها تمت على الارض التي شهدت حرب افغانستان، وفي باكستان، البلد نفسه الذي نشر فيه المودودي عقيدته بين قومه وبلغتهم. ومن هذا الربط المزدوج نشأ حكم "طالبان" في افغانستان وتشكل تنظيم "القاعدة" بزعامة الوهابي اسامة بن لادن والمصري ايمن الظواهري.
الغرام المتهاوي
لا بد من الاقرار بأن الاصولية المعاصرة هي في جانب منها نتاج التحالف بين السعودية والولايات المتحدة الاميركية من خلال زواج المصلحة القائم بينهما. فما بين الدولتين يشكل لغزاً اجتماعياً، فهما غطستا في ماء واحد هو الدين. هذا الغرام الاميركي - السعودي لا يهتز الا عندما تبرز شخصية "وهابي الوهابي" (على طريقة يمين اليمين او يسار اليسار). هذه الشخصية تهاجم الطرف الوهابي الذي لم يكن اميناً للعقيدة. وابن لادن هو "أيقونة" هذه الرؤية وليس لديه مبدأ سوى رفض الآخر. يتكامل العداء عنده حتى يصير أقرب الى العنصرية والفاشية، وقد تجسد ذلك في عملية تدمير برجي "مركز التجارة العالمي" في نيويورك. لا شك ان الذين نفذوا الاعتداءات الوحشية يعتقدون انفسهم شهداء في "الجهاد العالمي" وانهم ليسوا امواتاً بل احياء عند ربهم. تلك هي القناعة التي تحملهم على التضحية بالنفس، وتجعلهم يستنبطون اسطورة الشهادة في اخراج بدائي يدفعهم الى تطهير جسدهم المنذور سلفاً للعرس السماوي.
لا تجادلْ، دمِّر
يحاول عبد الوهاب المؤدب في كتابه فك تفسير الجديد - القديم، فلطالما اثير موضوع السرية في محاولة لفهم الطريقة التي تصرف بها ارهابيو 11 ايلول.
يقول المؤدب انه ينبغي اتخاذ الحذر في تحليل هاتين الخاصتين وعدم السعي الى تفسيرهما بالعودة حصراً الى تاريخ الاسلام وحضارته. فهؤلاء الارهابيون بقدر ما هم نتاج تطور داخلي خاص بالاسلام، هم ايضاً ابناء عصرهم وابناء عالم تحول بفعل الامركة او العولمة، وذلك على رغم ان كتاب برنارد لويس عن "الحشاشين" يواجه القارئ بحالات مماثلة مقلقة يمكن اسقاطها على سلوك ارهابيي "القاعدة". فالعناصر الذين قاموا في 11 ايلول بعمليات القتل الانتحاري يمكن فهمهم ايضاً في ضوء عدمية دوستويفسكي. يتصور الكاتب ما يعيشه، قريباً مما عاشته الشخصيات الموصوفة في كتاب "الممسوسون". وبدوره الكاتب البريطاني ماليس روثفن، وجد في كتابه "غضب في سبيل الله" ان 11 ايلول لم يكن بالنسبة الى هؤلاء تعبيراً عن بطولة اسلامية بقدر ما كان تعبيراً عن يأس نيتشوي. ونيتشه، كما نعلم، صوّر البطل العدمي في "العلم النضر" كمجنون يبحث بقنديله عن الله "الذي اغتلناه". وعلى هذا فإن ارهابيي 11 ايلول هم غاضبون، يذهبون في غضبهم بعيداً حتى لكأنهم يستجيبون الشعار الشهير لجماعة بادر ماينهوف اليسارية المتطرفة التي تقول: "لا تجادلْ، دمِّر". اما الفيلسوف اندره غلوكسمان في كتابه "دوستويفسكي في مانهاتن"، فقد استعار تعريف ليوشتراوس للعدمية في وصفها رغبة في تدمير الحاضر واجتثاث ممكناته من دون ان تترافق هذه الرغبة مع أي تصور واضح لما سيحلّ في مكان الهدم. ان العدمية من خلال 11 ايلول تعني التوق الى العدم من خلال التدمير المعمم والمتضمن تدمير الذات والآخر.
كما ان النسبة الى الاسماعيلية التي قدمت كمدخل لتفسير اعتداءات "القاعدة"، تنطبق على العمل الارهابي في حد ذاته اكثر مما تنطبق على جذوره الاصولية. فمن خلال كارثة نيويورك وُظّفت مجدداً اسطورة الحشاشين لتوضيح الجريمة، التي كان الدافع اليها سياسياً، وهي تدين بنجاحها لتضافر العمل السري والتضحية بالذات. وهذا الارجاع المتعدد الشكل الى الاسماعيلية غربي اكثر منه اسلامياً، هكذا يجد المؤدب. غير ان هذه الاسطورة كانت وُضعت في مسارها فاستغلها عدد من الكتاب وسلّطوا الضوء عليها في اعمالهم. وليم بوروز في روايته "مدن الليالي القرمزية" يتخيل اميركا وقد سقطت في ايدي قراصنة ماجنين، وهو يهديها الى حسن الصباح سيد الحشاشين. يقول المؤدب ان استلهام هذه الشخصية في سياق هذا النص الادبي العابث، يبدو على صلة اكثر بالنظرية الباطنية التي تنطوي عليها نظرية حسن الصباح. في المقابل، يستخدم فلاديمير بارتول، في روايته "آلموت"، مفهوم "النداء الداخلي" الذي استخدمه ماكس فيبر ليفسر الكيفية التي سيطر بها الصباح على اتباعه ووجههم لتنفيذ مخططاته واهدافه. لكن اللافت ان الافق العقائدي للارهاب السياسي، الذي ابتدعته الاسماعيلية، لا يمكن ان يكون على صلة بالافق العقائدي الذي يوجه سلوك الاصوليين الوهابيين المتكاثرين في شبكة "القاعدة". فهم لا يحلمون الا بفرض الشريعة في العلم، تلك الشريعة التي قوّضها الحشاشون، الذين يولون كل اهتمام لتقديس المعنى الباطني. في المقابل، يبدو الاصوليون مهووسين بالمعنى الظاهر. ومن هذا المنطلق لا يلتقي الاثنان.
في الديانات التوحيدية جانب قتالي متعصب عنيف. هذا هو داء الاسلام الذي يحبذه الاصوليون، والذي ظهرت عوارضه عبر التاريخ ولا تزال قائمة حتى ايامنا، ويمكن تبيّنه من تصرفات الاصوليين واقوالهم. لكن في المقابل ما هو الدواء؟
في نظر عبد الوهاب المؤدب، ان الاسلام كان يحتاج رجلاً من نوع الشاعر دانتي، يتحلى بالجرأة الفكرية فيواكب بكتاباته الواقع السياسي كما تجلى في الواقع التاريخي المضاد لابن تيمية. والارجح القول ان الاسلام يحتاج الى فتح "اقفاله"، في تعبير ياسين الحافظ، للخروج من المستنقعات التي تنتج الارهاب والتخلف والخوف وتنتهي بالاحياء للموت في الصحراء.
ولد سنة 1946 واختطفته يد الموت في صبيحة اليوم، 6 نوفمبر 2014.
كان كاتبا روائيّا وشاعرا وباحثا ومترجما ومقدّما لبرنامج “ثقافات الإسلام” بإذاعة فرنسا الثّقافيّة...
لهذا السّبب ربّما طلب منّي أن أضع صفة “أديب” أمام اسمه، في أحد البيانات التي شاركنا في صياغتها وتوقيعها طيلة السنوات الأربع الأخيرة. أديب، أي يحسن القول والفكر ويحترم آداب المجالسة، ويحتفي بالأصدقاء والقرّاء، فيقدّم لهم “مأدبة” من الحديث والكتابة. وهناك نسب أكيد يجمعه بالأدباء الذين يأخذون من كلّ فنّ بطرف، وبشغف فريد جعله يكتب إلى آخر أيّامه، مغالبا ألم السّرطان الذي ألمّ به.
أدار مجلّة “ما بين العلامات” Intersignes مع فتحي بن سلامة بين سنتي 1992 و1994 ثمّ أسّس مجلّة Dédale. وكان مهتمّا بالتّصوّف، بل مولعا به، وكان متحمّسا في نقد الأصوليّة الإسلاميّة التي اعتبرها “مرض الإسلام”. وعندما اعتلى الإسلاميّون الحكم في تونس سنة 2011، عاش كأغلب التونسيين محنة الإسلام السياسيّ والإرهاب والمحاكمات والاعتداءات، وحرص على إبداء رأيه في مصير تونس إلى آخر أيّامه، فكتب عن الانتخابات التّشريعيّة وردّ على منتقديه بشرح موقفه في نصّ بديع أعتقد أنّه حيّى فيه أساتذته وملهميه.
كان متحفّظا في الحديث عن مرضه، غير مقتصد في الحديث والكتابة عن تونس.
لا تكفي صفحات طويلة للتّعريف به وبما فعل وكتب. كأنّه عاش طويلا. أو كأنّه شعر بأنّه لن يعيش طويلا فأسرع في الحياة وفي الكتابة.
وداعا يا عبد الوهّاب.