حادث تحطّم الطائرة الأثيوبيّة بعد دقائق من إقلاعها من مطار رفيق الحريري الدولي في العام 2010، ومصرع عشرات المغتربين اللبنانيين ممّن كانو...
حادث تحطّم الطائرة الأثيوبيّة بعد دقائق من إقلاعها من مطار رفيق الحريري الدولي في العام 2010، ومصرع عشرات المغتربين اللبنانيين ممّن كانوا على متنها، إضافة إلى حالة الهلع التي بدأت تصيب اللبنانيين جرّاء انتشار مرض «الإيبولا» في أفريقيا، هاجسان أشعلا مخيّلتي وضغطا عليها بقوّة لحظة البدء بحزم حقائبي والتوجّه إلى المطار ومنه إلى مدينة «بونت نوار» في جمهوريّة الكونغو- برازافيل من أجل إعداد ملفّ صحفي عن اللبنانيين هناك.
الهاجسان لم يتولّدا من الفراغ، فالطائرة التي ستقلّني أثيوبيّة، وستكون محطّتها الأولى «أديس أبابا» قبل أن تتابع إلى مدينة «بونت نوار» الواقعة على المحيط الأطلسي، وأيضاً التوقيت هو نفسه الذي أقلعت فيه الطائرة في العام 2010 وتحطّمت حينذاك. أمّا لماذا الإصرار على السفر عبر خطوط شركة الطيران الأثيوبيّة، فلأنّ معظم اللبنانيين في عدد من دول أفريقيا يسافرون عبر هذه الشركة لأنّها الأكثر اختصاراً للوقت وللمحطّات.
هذه حكايتي مع الهاجس الأوّل، أمّا الهاجس الثاني وهو «الإيبولا»، فقد عشت وقبل حوالى الشهر من السفر، تحت وطأة الإجابة والردّ عن الأسئلة كافّة التي كانت تردني من الأهل والأقارب والأصدقاء والتي تقول لي: «شو ماخدك على أفريقيا؟! مش عم تسمع شو عم يصير؟! مرض «الإيبولا» عم ينتشر وبلا هالروحة»!!

بين الكتاب والنظر من نافذة الطائرة نحو ذلك الليل الغارق في سواده، بدأ الوقت يمرّ بطيئاً. تتوالى صفحات الكتاب التي أقلّبها بين يدَيّ، ويتوالى هدير الطائرة التي تشعر عندما تنظر من نافذتها أنّك تُبحر في العدم. مشهد الليل الذي استمرّ طويلاً بدأ يتلاشى أمام انبلاج الضوء في سماء أثيوبيا، ومعه بدأ المشهد يتكشّف عن لوحة طبيعيّة رائعة الألوان. هنا أثيوبيا، ومعها تزدحم المخيّلة بالصورة النمطيّة التي تحضر فور ذكر اسم هذا البلد كونه بلد العاملات اللواتي يتدفّقن إلى لبنان من أجل العمل كخادمات في المنازل.
قبل هبوط الطائرة بدقائق، استيقظ جاري في الرحلة، وبدأ بالتثاؤب وفرك عينَيه والتلفّت نحو عروسه التي اصطحبها معه من لبنان إلى أفريقيا، ثمّ التفت إليّ متحدّثاً معرّفاً عن نفسه أنّه من صور، وأنّه متوجّه إلى كينشاسا، ثمّ بادرني بالسؤال التقليدي: من أين؟ وإلى أين؟ وعندما أجبته أنّني صحافي ورحلتي هي من أجل إعداد ملفّ عن اللبنانيين في الكونغو، وأنّني سأذهب إلى كينشاسا بعد انتهاء مهمتي في برازافيل، وذكرت له اسم الشخص الذي سأذهب إليه، فأجابني أنّ الشخص الذي ذكرت إسمه هو قريب له. فتوطّدت علاقتنا في دقائقها الأخيرة، وتبادلنا الأحاديث واتّفقنا على اللقاء في كينشاسا.
لم تدم طويلاً فترة الصباح في «أديس أبابا»، فسريعاً أقلعت الطائرة المتّجهة نحو «بونت نوار»، وعلى مقعدي تكرّر المشهد نفسه الذي رافقني من بيروت إلى «أديس أبابا»، لكن هذه المرّة كان إضافة إلى الكتاب ضوء الصباح الذي تكشّف عن أسراب لا تنتهي من الغمام لم يتّسع لها صحن السماء.
الطريق إلى «بونت نوار» كانت معبّدة بالغيم، مرصوفة بالأفق الأزرق يزنّرها ويزيّنها من كلّ اتّجاه في مشهد طال لساعات وكأنّه لوحة معلّقة على صدر هذا الكون الفسيح المترامي.
صفحات الكتاب المتبقيّة بدأت تتضاءل، ومعها بدأت الرواية تتكشّف عن نهايتها، ومعها أيضاً بدأ موعد الهبوط يقترب... إنّها الثانية عشرة والنصف ظهراً بتوقيت «بونت نوار».. المناطق المحيطة بالمدينة بدأت تتكشّف، بدأ قبطان الطائرة بالانخفاض تدريجيّاً. الأبنية ومعالم المدينة وتفاصيلها تقترب أكثر، والحركة داخلها أصبحت واضحة وتراها بالعين المجرّدة. المطار أمامنا ومدارجه مفتوحة للهبوط، ومعه تبدّد الهاجس الأوّل ليخيّم على مخيّلتي الهاجس الثاني بعدما شاهدت الاجراءات الصحيّة الصارمة والطواقم الطبيّة التي يرتدي أفرادها ثياباً خاصّة عازلة وفي أيديهم آلات الفحص، ما زاد من هواجسي وأقلقني وأدخل الخوف إلى قلبي، لم يبدّده سوى ابتسامة سلام العبد الله واقفاً ينتظرني في صالة الاستقبال قائلاً: «أهلاً بك.. نوّرت «بونت نوار».
زهير دبس - استراحة مجلة «المغترب»
ليست هناك تعليقات