بيتر تراوني * ناشر أعمال مارتن هايدغير الكاملة الأخيرة بالألمانية، عن «اسبري» الفرنسية، 8-9/2014، اعداد منال نحاس تحول نشر المج...
* ناشر أعمال مارتن هايدغير الكاملة الأخيرة بالألمانية، عن «اسبري» الفرنسية، 8-9/2014، اعداد منال نحاس

والحال إن الكتابات المعادية للسامية، والمتحدرة من القومية – الاشتراكية (أو الاجتماعية)، على غرار تلك المنشورة في صحيفة يوليوس سترايشر «دير ستورمير» (تأسست في 1923)، فاقت حدتها ما دوّنه هايدغير، وحفظه في منأى عن عيون القوميين- الاشتراكيين. لكن المقارنة، حين يتعلق الأمر بالفلسفة وشروطها الداخلية، لا يعتد بها. وليس القصد الأول من تأويل أقوال هايدغير في اليهود قياس فداحتها الأخلاقية ولومها. فالمسألة هي دلالتها في ضوء الفكر الهايدغيري، وينبغي صوغها على الوجه الآتي: ماذا يحصل في فكر هايدغير حين يولي هذا الفكر «الطغمة اليهودية العالمية» دوراً في تاريخ الكينونة؟
ومن ناحية أخرى، لا يسعنا إغفال الوجه الأخلاقي من هذه الأقوال. وفكرة «الطغمة اليهودية العالمية» بعد المحرقة ليس معناها وهذه الفكرة قبل المحرقة واحداً. وهذا يوقع المناقشة في ما يشبه خللاً ناجماً عن الافتقار إلى التكافؤ والتناظر. وعلى سبيل المثل، في فكر نيتشه آراء معادية للسامية. فهو يعزو ظهور «خُلُق العبيد» إلى اليهود. لكننا لا نحمل قول نيتشه على ما نحمل عليه قول هايدغير، فالأخير كتب في عصر شهد بداية اضطهاد اليهود. وهذا العصر بادر إلى الاستئصال الجماهيري والجماعي، وإلى إعمال «صناعة الجثث». وإرادة هايدغير معالجة دور «الطغمة اليهودية العالمية» في تاريخ الكينونة، قبل وقائع أوشفيتز وبعدها، تنحو بالمعالجة نحواً خاصاً.
والأمر لا يخلو من إشكال. فنحن لسنا على يقين من أن هايدغير كان على بعض العلم بمعسكرات الاستئصال. والتستر الرهيب على أوشفيتز ليس أسطورة، على رغم إشاعة تلميحات من هنا وهناك، بعضها متعمد. وغداة 1945، لم يذع خبر «الاغتيال الجماهيري الإداري»، كما سمته حنة أراندت، كثيراً ولا بلغ المسامع. فلفّه الصمت إلى حين بث المسلسل المتلفز الأميركي «المحرقة. قصة عائلة فايس»، في 1978. وهذا المسلسل كان فاتحة مواجهة علنية وسافرة مع الحوادث.
ولا شك في أن ضابطاً في الجيش الألماني، هو إرنست يونغير، ألّف بعد الحرب كتاباً بعنوان «السلم»، تناول فيه «كهوف الموت» التي «تلابس أقدم عصور ذاكرة الإنسان»، وهي «النصب التذكاري الحقيقي للحرب». وتناول الموضوع أدورنو وتسيلان «لحن الموت» وحنة أراندت، بداهة، علناً. ويرجح أن هايدغير لم يكن على بصيرة جلية بما حصل، وعبارة «الطغمة اليهودية العالمية» ترددت في مقالات معادية للسامية وشائعة يومذاك، على خلاف حالها اليوم. فهل يعفينا هذا، أي جهل هايدغير المرجح، من الاحتكام إلى عدالة التأويل العسيرة؟ على رغم عسر هذه العدالة، أميلُ إلى اعتقاد ضرورتها.
ويقتضي الاحتكام معرفة خصائص الفكر الهايدغيري حين تناول تاريخ الكينونة في عقدي 1930 و1940، والسؤال عن علاقة الأقوال في «الطغمة اليهودية العالمية» بسمات فكر تاريخ الكينونة، وفهمها في ضوء هذا الفكر. وتُختصر ملاحظة أولى بارزة، من الـ12 صفحة المذكورة، في 3 عناصر: أ) تظهر «الطغمة اليهودية» في سياق «تعاظم سلطان ظرفي». ب) هذا التعاظم يتصل بالميتافيزيقيا الحديثة. ج) الميتافيزيقيا الحديثة تتصف «بعقلانية وطاقة حساب فارغتين»، لذا فإن تعاظم سلطان «الطغمة اليهودية» هو ثمرة «موهبة خارقة على الحساب». وحملُ هايدغير سمة التاريخ الحديث البارزة على شكل «تاريخ إرادة السلطان» (أو القوة)، هو فكرة بارزة من أفكاره. ولا تفهم الذات الديكارتية المتفكرة فهماً تاماً وجامعاً إلا من باب الإرادة وبسط السلطان المتاح لهذه الذات. وتمتثل الذات الحديثة في ابتكاراتها لتقنية وفنون صنع يصفها هايدغير بـ «التحايل» وإعمال الحيلة في الصنع (والاصطناع والتصنيع).
ويُلبس سلطان «التحايل» «الكائنات كلها» لباس الفعل أو الصنع، على معنى الإنتاج. فيؤنِّس الإنسان في الحيوان، ويستهلك الأرض، ويقسر العالم على تقنية المحاسبة. ولا عودة في هذه الحال، عن محو الفروق بين الشعوب والدول والثقافات، وإحالتها إلى ظاهر خالص. وفي «تأملات» (1941) يرى هايدغير أن طارئ الحرب العالمية هو ثمرة «سلطان التحايل التصنيعي» وليس صدفة أن ينتهي تاريخ إلى عصف حروب هائلة بأنظمة تقنية – كليانية (توتاليتارية)، قومية – اشتراكية/ بلشفية/ أميركية. والزمان/ المكان التاريخي الذي يملأه سلطان التحايل التصنيعي، هو زمان/ مكان الميتافيزيقيا الحديثة. وهذه تبدأ مع ديكارت وتبلغ ذروتها مع نيتشه، وهي جزء من رواية (أو مسرد) تاريخ الكينونة.
فالكينونة تتجلى في العصور الحديثة في صيغة إرادة ذاتية، أي أنوية، وتصعد من إرادة الإرادة في فلسفة هيغل إلى إرادة السلطان مع نيتشه. ووجهة التاريخ هذه هي «قدر» وليست تحت استطاعة البشر، وتترتب على دينامية بسط الكائن الحديث وفهمه. وتمثل ندوة زوريخ في 1951 على هذه الفكرة بـ «القنبلة الذرية». ويقول هايدغير إن «القنبلة الذرية انفجرت منذ زمن بعيد»، أي منذ قيام الإنسان على الكينونة وتمرده عليها، حين أوجب كينونته هو وجعلها موضوع تصوره. وأضاف: «هذا منذ ديكارت».
وأخيراً، سمة غالبة من سمات الفكر الحديث تمكنه من «عقلانية وطاقة حساب فارغتين». ويعني هايدغير بهذا السياق الذي حمل العلم الحديث على التوسل بالرياضيات توسلاً تقنياً إلى «استهلاك الأرض وحمل العالم على المحاسبة». ويدرج هايدغير «الطغمة اليهودية» في تاريخ التقنية والعلم الحديث، أي في التحايل التصنيعي، وينسب «موهبة خارقة على الحساب» إلى اليهود. وفي منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، كتب في «أعطيات الفلسفة» أن نسبة المباحث الاختبارية إلى الشمال الجرماني «حماقة»، وأن المباحث العقلانية أجنبية قطعاً، وإلا وجب إحصاء نيوتن ولايبنتز في عداد «اليهود».
ويفهم من رأي هايدغير في الفيزياء أنه لم يميز فيزياء «ألمانية» أو «آرية» من فيزياء «يهودية». ورفضه التمييز هو ثمرة انتباهه إلى استحالته ومناقضته روح العلم الحديث ومنطقه. لكن تركه التمييز لم يدعه إلى التخلي عن نسبته إلى اليهود موهبة خارقة على الحساب، وعن حسبانه أن كل فكر يهودي هو، تعريفاً، فكر حسابي. ويجوز الاستنتاج من «التأملات» أن «الطغمة اليهودية» هي دور من أدوار «سلطان التحايل التصنيعي»، ووقت من أوقاته، ذلك أن الفكر الغالب عليها هو الفكر الحسابي. وهي، شأن القوميين – الاشتراكيين، ممثل من ممثلي التقنية الحديثة. و «الطغمة اليهودية»، في هذا الضوء، هي وجه من «عداء للسامية كينوني – تاريخي»، وهذا أيضاً هو بعضٌ من تاريخ الكينونة وغيبتها.
وفي ملاحظة ثانية جوهرية تنطوي على قولين، يرى هايدغير، أولاً، أن السيرورة التاريخية التي اضطلعت إنكلترا فيها بدور راجح يستحيل تغييرها من طريق «محور» أو تفاهم (إنكليزي – ألماني)، ويرى، ثانياً، أن «دور الطغمة اليهودية العالمية» الذي تتمتع فيه «إنكلترا» بنفوذ، شأن «الأميركية» و «البلشفية»، ليس ركنه «عرقياً»، ومصدره هو «المسألة الميتافيزيقية التي تعرِّف نمطاً من الإنسانية يقبل، وهو حر تماماً، مهمة عالمية – تاريخية تتولى اقتلاع كل كائن خارج الكينونة». ولا تقتضي المسألة الأولى توقفاً ملياً. فهايدغير، شأن نيتشه، يزدري الفلسفة الإنكليزية و «الروح الإنكليزية» عموماً. ويصفها بالبراغماتية الإمبريالية والنزعة الاقتصادية. وهذا الموقف شديد الشبه بموقف هتلر الذي صاغه في خطبة ألقاها في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1939. ويبدو لي أن شخص هتلر هو أحد مفاتيح التأويل المفضي إلى فهم ولاء هايدغير للرايخ الثالث.
أما المسألة الثانية، فعلى جانب من الخطورة يفوق خطورة المسألة الأولى. وأنا أنحي المسألة العرقية التي عالجتها في كتابي «هايدغير وعداء السامية. ملاحظات على الدفاتر السود». يذهب هايدغير إلى أن «الطغمة اليهودية» تقتضي، ضرورةً، صنفاً من «الميتافيزيقيا» مناسباً وملائماً. وهذا الصنف يصور «إنسانية» تسعى «حرة» في اقتلاع كل كائن خارج الكينونة. ويثبت هايدغير جملة حلقات: «إنكلترا»/ «الأميركية»/ «البلشفية» - أي كذلك «الطغمة اليهودية العالمية». ما معنى «أي كذلك»؟ هل «إنكلترا» و«الأميركية» و«البلشفية»، و«الطغمة اليهودية العالمية»، واحد ولا تقتصر علاقتـها في ما بينها على الشَّبه؟ وهل تقوم «الطغمة اليهودية العــالمية» من «البلشفية» و«الأميركية» و«إنكلترا» مقام الأصل والسبب؟
يحمل هايدغير «الاقتصاد» و«التنظيم» اللذين ينسبهما إلى ماركس، على التدمير. ويخلص من هذا إلى أن «الأمة اليهودية» أو «الطغمة اليهودية» هما مصدر «البلشفية» و«الأميركية» و«إنكلترا»، ومصدر القومية – الاشتراكية من طريق البيولوجي أو الحيوي. فـ«الأمة اليهودية» هي «أصل التدمير» و «حرية اليهود» تختصر في المضي على «اقتلاع الكائن خارج الكينونة» وعلى «الافتقار إلى عالم» أي الافتقار إلى وطن.
ليست هناك تعليقات