كتب الصديق الشاعر عبد الزهرة زكي في ذكرى رحيل سركون بولص منتقداً قصيدته.. أو بالأحرى لا قصيدته! من حيث المبدأ لا مشكلة أن تكون ذكرى رحيل مبدع بحجم سركون وأهميته في قصيدة النثر العربية، مناسبة للمراجعة وإعادة الأسئلة حول تجربة الراحل، لكن وسط احتفاء واسع بالذكرى، فإن رأياً نقدياً مائعاً ومبتسراً وغير موضوعي، لن يبدو أكثر من محاولة للفت النظر، واستدراج الاهتمام، خاصة وإن خلاصة الرأي تقول: لا قصيدة لسركون، بل مجرَّد جمل متناثرة قد تستهوي القارئ، بينما لا رابط بينها في غياب بناء القصيدة لديه.
ومثل هذا الرأي حين أصفه بالمبتسر فإنني لا أبدو متحاملاً أو متجنياً، فهو أقلُّ توصيف ممكن، لمن لا يعرف جيداً بناء القصيدة لدى سركون.
فبناء القصيدة لدى سركون لا يقوم على تقليدية تراكمية معهودة في القصيدة العربية، بل على تقنية القطع، أو المونتاج السينمائي، وعلى فجوات مضمرة مقصود في سياق السرد، أن عدم إدراك هذه الفجوات والانتقالات الذكِّية والخفيَّة في قصيدة سركون، وقراءتها بوصفها جزءاً من السياق العام للقصيدة، يوهم قارئاً تقليدياً باحثاً عن البعد التراكمي الكمي للبناء، بغياب البناء، وبتقديري الشخصي، فأن سركون بولص استفاد بشكل ما من شعر البياتي في هذه التقنية ـ تحدَّثتُ مرة مطولاً مع الصديقين الشاعرين خالد المعالي وعبد العظيم فنجان في ذلك ـ إضافة إلى ثقافته العميقة بالشعر الإنكليزي، ومستفيداً كذلك من تقنيات السرد التي يعدَّ البناء المونتاجي الذكي فيها من السمات البنائية الأساسية لقصيدته.
ولكي لا يبدو ما أوردته أعلاه، بلا مسوِّغ أو تدليل أدرج أدناه نموذجاً من ديوان «الأول والتالي» الصادر عن دار الجمل 1992. وهو قصيدة: «يونس وبئر الأرملة»:
يونس وبئر الأرملة
من وراء السدّة العالية لسكّة الحديد
كان يظهر بلحيته الكثيفة شاردَ العينين في كلّ النواحي
متنقّلاً بهما بين العصفور الذي يرفرف فوق تلّة من الفضلات
قرب عربة القطار التي تصدأ في الشمس
إلى طارمة المقهى التي يجلس فيها شيوخ المحلّة
أمام السكّة مباشرةً، يرصدونه بعيون ذئبية مليئة بالغيرة.
بعيون ذئبية مليئة بالغيرة، وأيدٍ ما زالت طافية في الهواء،
تحمل الزار عالياً فوق الطاولة، سمرها الفضول كالشراع إذا ملئته ريحٌ واعدة بالبحر
يعرفون أنه يزور الأرملة ذات البيت الكبير المغطى بالعرائش
الغبراء، في الطرف الآخر من السكة مرة أخرى.
بيت الأرملة الذي لا يطأ عتبته من كان، ولم يروا أحداً، ذات يوم،
يجتاز تلك العتبة.
يتابعون كل حركة من حركات البهلوان، الذي يحظى وحده من بين الجميع،
هو المعتوه رسمياً في عرف الجميع، بالدخول إلى بيت الأرملة بحجة البستنة
أو حمل المؤونة، أو تنظيف البئر في نهاية الحديقة.
«منعول الوالدين» كانوا يتمتعون بإعجاب شرس ما إن يقترب يونس من منطقة الفيء، حيث يجلسون، إلى أن يعاجله نزَّاح الآبار المتقاعد بلهجة قانطة بقدر ما هي متواطئة، كأنَّه يكمل حديثاً شيقاً تبودل بينهما منذ زمن بعيد، بينما يشعل سيجارته بمقدحة أثرية لها فتيلة برتقالية طويلة كساق مالك الحزين:
ها سيدنا يونس!! وكم مرة دندلت حبلك اليوم، بإذن الله، في بئر الأرملة؟
ومثل هذا الرأي حين أصفه بالمبتسر فإنني لا أبدو متحاملاً أو متجنياً، فهو أقلُّ توصيف ممكن، لمن لا يعرف جيداً بناء القصيدة لدى سركون.
فبناء القصيدة لدى سركون لا يقوم على تقليدية تراكمية معهودة في القصيدة العربية، بل على تقنية القطع، أو المونتاج السينمائي، وعلى فجوات مضمرة مقصود في سياق السرد، أن عدم إدراك هذه الفجوات والانتقالات الذكِّية والخفيَّة في قصيدة سركون، وقراءتها بوصفها جزءاً من السياق العام للقصيدة، يوهم قارئاً تقليدياً باحثاً عن البعد التراكمي الكمي للبناء، بغياب البناء، وبتقديري الشخصي، فأن سركون بولص استفاد بشكل ما من شعر البياتي في هذه التقنية ـ تحدَّثتُ مرة مطولاً مع الصديقين الشاعرين خالد المعالي وعبد العظيم فنجان في ذلك ـ إضافة إلى ثقافته العميقة بالشعر الإنكليزي، ومستفيداً كذلك من تقنيات السرد التي يعدَّ البناء المونتاجي الذكي فيها من السمات البنائية الأساسية لقصيدته.
ولكي لا يبدو ما أوردته أعلاه، بلا مسوِّغ أو تدليل أدرج أدناه نموذجاً من ديوان «الأول والتالي» الصادر عن دار الجمل 1992. وهو قصيدة: «يونس وبئر الأرملة»:
يونس وبئر الأرملة
من وراء السدّة العالية لسكّة الحديد

متنقّلاً بهما بين العصفور الذي يرفرف فوق تلّة من الفضلات
قرب عربة القطار التي تصدأ في الشمس
إلى طارمة المقهى التي يجلس فيها شيوخ المحلّة
أمام السكّة مباشرةً، يرصدونه بعيون ذئبية مليئة بالغيرة.
بعيون ذئبية مليئة بالغيرة، وأيدٍ ما زالت طافية في الهواء،
تحمل الزار عالياً فوق الطاولة، سمرها الفضول كالشراع إذا ملئته ريحٌ واعدة بالبحر
يعرفون أنه يزور الأرملة ذات البيت الكبير المغطى بالعرائش
الغبراء، في الطرف الآخر من السكة مرة أخرى.
بيت الأرملة الذي لا يطأ عتبته من كان، ولم يروا أحداً، ذات يوم،
يجتاز تلك العتبة.
يتابعون كل حركة من حركات البهلوان، الذي يحظى وحده من بين الجميع،
هو المعتوه رسمياً في عرف الجميع، بالدخول إلى بيت الأرملة بحجة البستنة
أو حمل المؤونة، أو تنظيف البئر في نهاية الحديقة.
«منعول الوالدين» كانوا يتمتعون بإعجاب شرس ما إن يقترب يونس من منطقة الفيء، حيث يجلسون، إلى أن يعاجله نزَّاح الآبار المتقاعد بلهجة قانطة بقدر ما هي متواطئة، كأنَّه يكمل حديثاً شيقاً تبودل بينهما منذ زمن بعيد، بينما يشعل سيجارته بمقدحة أثرية لها فتيلة برتقالية طويلة كساق مالك الحزين:
ها سيدنا يونس!! وكم مرة دندلت حبلك اليوم، بإذن الله، في بئر الأرملة؟