مرت امس الذكرى ال 88 لميلاد ميشيل فوكو ، وكنت قبل هذه المناسبة ، قد ترددت طويلا في الكتابة عن هذه الفيلسوف المغاير في صفحتي هذه ، لان ال...
مرت امس الذكرى ال 88 لميلاد ميشيل فوكو ، وكنت قبل هذه المناسبة ، قد ترددت طويلا في الكتابة عن هذه الفيلسوف المغاير في صفحتي هذه ، لان المحاولة بحد ذاتها ستبدو ساذجة ، ان تتحدث عن فوكو خارج السياق ، هذا امر فيه مجازفة وهو فعل أخرق بمعنى من المعاني ،
الحديث عن فوكو يستدعي سياقا خاصا لهذا الحديث ، سياقا معرفيا أقله ان تجري - على سبيل المثال - مراجعة لفصل من فصول احد كتبه شديدة التعقيد ، كنوع من تبرير هذه المجازفة ، ولكن ماذا سنفعل اذا تحولنا بحكم التعود الى ( كتاب بوستات ) ومزاجنا الثقافي اصبح هكذا ، انفعاليا ومسطحا وخاويا واختزاليا .
المهم باعتقادي في فوكو المفكر ، هو ليس ذلك البحث العميق في تاريخانيات الحضارة الأوربية ، جنونها وسجونها وعيادتها وجنسانياتها ، منذ عصر النهضة ( ربما قبل ذلك ايضا، في مبحثه عن مفهوم العدالة اليوناني وموضوع الاهتمام بالذات ) حتى نهاية القرن التاسع العشر ، المهم كما اعتقد ، هو كشفه عن انساق اشتغال هذا العقل والطيات التي تضمنها في مسيرة تعريفه للاشياء ، وفي إطلاقه للمفاهيم ، تلك المقدرة الفذة في تعقب اليات هذا العقل ونقده وتعرية إخفاقاته في التعرف على نفسه .
في كتابه الكلمات والاشياء ، وهو بتقديري كتابه المركزي ، حيث مراجعة أربعة قرون من الفكر الغربي والذي اثار الكثير من السجالات ، وكاد ان يسجن فوكو في ( جزيرة ) أيديولوجية رسمها حوله خصومه، بخاصة إعلانه موت الانسان (إن الانسان سيتلاشى كما يتلاشى على شاطئ البحر وجه الرمال ) في نهاية هذا الكتاب ، حين احتشد ضده السارتريون ( من جان بول سارتر ) والماركسيون وفلول الكنيسة الكاثوليكية ، عبر مناكفات طويلة ليس هذا المكان المناسب لتفصيلها .
يتطرق كتاب الكلمات والاشياء ، الى لحظتين هامتين في الفكر الغربي ، يرصد من خلالهما سيرة تطور هذا الفكر في ثلاثة قرون ، تبدأ من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر ، في ممارسة أعمق حفريات معرفية قام بها مفكر غربي على الإطلاق . كاشفا عن العصب السري الذي تنتقل فيه المعرفة من عتبة ابستمولرجية الى اخرى . متجاوزا بلادة التاريخ (التقليدي) الذي تواضعنا عليه .
اللحظة الثانية هنا هي مراجعة البنى التي استند عليها هذا الفكر منذ القرن التاسع عشر حتى اخر معطيات العلوم الانسانية .
سأحاول في مناسبات قادمة طالما وجدت ذلك ممكنا ، ان أتوقف عند اهم مرتكزات فكر فوكو فيما يتعلق بفهمه للأدب والفلسفة والعلوم الانسانية وارادة المعرفة والسلطة والقانون واللذات والسيطرة، ثم انهماكه بالذات وسواها من مراكز اشتغاله الفريدة والمنفردة .
قراءة فوكو ليست ترفا فكريا ، هي في الواقع درس عميق وضروري في المعرفة ، لا تكتمل معارف المثقف الحديث دون اطالة الوقوف فيها ، الوقوف امام عطائه الثر وتمرده النيتشوي على ديالكتيك هيغل وماركس وإخلاصه لمشروع خاص واستثنائي في مسيرة الفلسفة .
أتقدم هنا بالشكر لأستاذنا سهيل سامي نادر، على تلك الإضاءات العميقة لفكر فوكو، التي كان يطرحها في مناقشاتنا الطويلة في مقاهي باب المعظم ، وقاعة حوار ، ولولاه لما كنت شخصيا ، استدل على مفاتيح قراءة فوكو وأدواته المنهجية العميقة .
غادر ميشيل فوكو عالمنا نتيجة مرض الإيدز وذلك في باريس بتاريخ 25 حزيران/يونيو 1984. وترك خلفه تراثا نفسيا سيبقى طويلا يتحرك ويحرك مجالات المعرفة في كل مكان .
ليست هناك تعليقات