Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

جمهور أم كلثوم لعلي الشدوي

على الشدوي المقال نشر في موقع الآوان  ت تعلق بداية مقالي بالدلالة التي اتخذتها الحملة الفرنسية على مصر ( 1798 ) بالنسبة إ...

على الشدوي

 تتعلق بداية مقالي بالدلالة التي اتخذتها الحملة الفرنسية على مصر ( 1798 ) بالنسبة إلى الثقافة العربية الحديثة ؛ فبسبب تلك الحملة أجرى العرب على أنفسهم تحولا عُرف بمرحلة النهضة ثاروا فيه على الكيفية التي كانوا عليها في القرون الوسطى.

كان المثَل المثير لإعجاب العرب هو الغرب، ولهذا أراد العرب أن يشكلوا ذواتهم حسب كيفية وجود الأوروبيين آنذاك. وما اعتبروه أساسيا هو العلم لكي يحرر العرب من عاداتهم وتقاليدهم وخرافاتهم . وسرعان ما ولد سؤال النهضة العربية التي كانت وراء انبعاث الفكر العربي الحديث. ومن غير أن أتوقف عند بدايات اليقظة العربية، وتبلور أهدافها الوطنية والقومية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، سأنتقل إلى تجربة ثقافية مميزة في العصر العربي الحديث.
يمكن أن أسمي تلك المرحلة التاريخية بمرحلة العباقرة في الدين والعلم والشعر والقصة والرواية والمسرح والموسيقى والغناء والسياسة والاقتصاد. سأمثّل هنا باسم واحد لا غير لكي أشير إلى هذه المجالات الفكرية والجمالية كالإمام محمد عبده في تجديد الدين، و الشاعر أحمد شوقي، والقاص محمود تيمور، والأديب طه حسين والمفكر أحمد لطفي السيد، والاقتصادي طلعت حرب، والممثل نجيب الريحاني، والملحن سيد درويش، والموسيقار محمد عبدالوهاب، و المغنية أم كلثوم.
عاش العرب مع هؤلاء العباقرة وبهم تجربة تحديثية رائدة تكمن في القدرة على إسعاد الإنسان العربي في أي مكان . كان السؤال الذي طُرح آنذاك ومسّ العالم العربي كلّه هو: أين تتجلى سعادة الإنسان العربي بما أن لا معنى لها إلا على مستوى الحياة البشرية ؟ في شعور الناس بالرضا الذي يحسون به نحو الحياة الدنيا ، في تمنياتهم ورغباتهم ومشاريعهم التي يخططون لها .
***
إن من بين التغييرات التي حدثت آنذاك في المجتمع العربي بهدف السعادة لا شيء يكتسي أهمية كبرى مثل الدعوة إلى تحديث المجتمع العربي في كل بناه السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية ، وفي مشاريع جزئية أو شاملة ، جذرية أو إصلاحية طبعت تلك المرحلة البديعة .
ترتب على ذلك التحديث الاجتماعي والمعرفي أن تغيّر فهم العرب لأنفسهم ، وما تبع ذلك من تغيير في فهم طبيعة العلم والفن والأدب. وإذا ما اقتصرت على الفنون فمن المعروف الآن أن ظهور نوع أدبي أو فن تشكيلي أو لحن موسيقي جديد يأتي جزءا من الإجراءات الطويلة والمعقدة التي تغير فهم الناس لمجتمعهم ، وتقبلهم لأنفسهم ، قبل أن يتغير الخطاب الذي يعالج خبرتهم.
غدت القاهرة في تلك المرحلة التاريخية مثيرة لكل مواطن عربي من المحيط إلى الخليج . غدت من حيث هي “فضاء مادي وأسطورة ثقافية” في آن . وغدت فيها الحداثة أداة لتنقية الذوق العربي، وهي بطبيعة الحال أداة لا غنى عنها في مدينة يرتادها بدو العالم العربي وبرابرتهم.
يشير جمهور أم كلثوم الذي نراه الآن في تسجيل حفلاتها إلى جمهور مثقف ونشيط، وحتى إن أفترضنا أنه ينقسم في انتمائه إلى الأحزاب السياسية آنذاك، وأيديولوجيا في انتمائه إلى تيارات إلا أنه يؤمن ويتوحد ويوطّد ما سمته بياتريث سالو وهي تتحدث عن مدن الحداثة “بـالسيولة في التداول الجمالي والاستعارة الجمالية” ، في ذلك الحيز الذي يشغله الجمهور من حيث هو جمهور لا ينتمي فقط للطبقة العليا، إنما يشمل أيضا الطبقة الاجتماعية الدنيا.
تتعلق تلك المرحلة التاريخية في الثقافة العربية الحديثة ببرامج النزعة الإنسانية، وقد مثل كل تجديد أساسا لترسيخ قيمة جمالية. وما زلنا إلى الآن نستمتع بفرح تلك المرحلة التاريخية وسعادتها ونحن نقرأ شعرها ونثرها، ونشاهد أفلامها، ونستمع إلى ألحانها وغنائها.
***
ثم قامت الثورة المصرية 1952. ولا يخلو تحالف “العسكر” آنذاك مع جماعة الإخوان المسلمين من معنى ولو عند مستوى غير واضح، وهو أن ثورة 1952 في أحد مستوياتها لم تقم من أجل التغيير إنما من أجل إعادة السلطة كما تدل عليه كلمة ثورة في أصلها اليوناني؛ لذلك فما بدا للشعب العربي آنذاك على أنه روح جديدة في ثورة 1952 لم يكن سوى محاولة لاستعادة سلطة الماضي وقد فُهم التحالف آنذاك على الأقل من وجهة نظر الأخوان المسلمين على أنه كذلك.
ستبقى هذه الخلفية ناقصة من غير أن أتحدث عن القضية الفلسطينية التي وضعت العالم العربي بعد عام ( 1948 ) أمام مقتضيات تاريخية وثقافية استثنائية، وهو ما دفع مفكرا وناقدا كبيرا كإدوارد سعيد يعتقد أن التعبير عما حدث آنذاك بمقتضيات تاريخية وثقافية استثنائية تعبير ينطوي على أشد ضروب التبخيس ؛ فمن وجهة نظره أن عام ( 1948 ) والسيرورات التي شكل ذروتها؛ يمثل انفجارا لا تزال آثاره تقع على حاضر العالم العربي بلا هوادة ، وما من عربي آنذاك أمكنه أن يتجاهل الحدث مهما كان في تلك اللحظة قوميا أو قبليا أو متدينا أو مناطقيا.
بسبب عامي 1948 و1953 تفوّقت الوظيفة العملية المجتمعية لقضايا الوحدة ، والاشتراكية ، والرجعية ، والامبريالية التي طرحتها الثورة آنذاك ، من حيث أهميتها الأيديولوجية على قيمتها المعرفية مما يمكن القول إن الأيديولوجيا هي روح المرحلة التي بدأت في خمسينات القرن الماضي .
وقفت هذه الأيديولوجيا وراء القضايا الشكلية والتاريخية التي واجهها المثقف العربي ، وهي التي غذت الثقافة وحولتها إلى فعل تاريخي. هذا إن لم نقل فعل مقاومة بعد عام ( 1967 ) . فعلى سبيل المثال يذهب إدوارد سعيد إلى أن الرواية قبل عام ( 1948 ) كانت رواية تلخيص تاريخي ، ثم أصبحت بعد ذالك العام رواية تطور تاريخي واجتماعي ، مستدلا بالثيمة الكبرى التي رصدها الناقد المصري غالي شكري في معظم الروايات المصرية بعد عام ( 1948 ) ويعني ثيمة الصراع شبه المأساوي في معظم الروايات المصرية بين الشخصية الرئيسية وبين قوة خارجية ما.
***
إن ما يلفت النظر هو أنه لم يكن هناك استبداد لكي تحدث ثورة 23 يوليو فيما لو قارنا ما بعد الثورة بما قبلها؛ إنما هناك “عسكر” أشعلوا العالم العربي بتوحيدهم بين الثورة والقومية؛ أي ثورة عربية وقومية ثورية. تتحدث القومية العربية بلغة الثورة، وتثير الثورة الجماهير برفع الشعارات القومية. قبل أو بعد ثورة 23 يوليو. في ثورات سوريا والعراق وليبيا والسودان والجزائر، كان هناك حياة سياسية، تضمن حق التظاهر السلمي، وتنظيم الانتخابات الدورية. لكن تعطلت تلك الحياة السياسية بابتكار أعداء في الداخل وأعداء في الخارج تحت مفاهيم الرجعية والإمبريالية. لقد رفضت القومية فكرة الأوطان، ورأت فيها فكرة ورّثها الاستعمار. وقد ناضل القوميون من أجل الوحدة العربية. وقد ساوق فكرةَ الرباط القومي فكرةُ الرباط الديني لاسيما بعد نكسة 1967، وقد عطّل القومي والديني إصلاح المجتمعات العربية وتحديثها؛ لأن كليهما استندا إلى فكرة إحياء على المستوى الديني، وعلى المستوى الحضاري. وإنه من الدلالة بما كان أن تُسمى الأحزاب بأسماء كالبعث والنهضة والنور والوطني.

إن ثقافة لم تكن تهتم إلا بالصراعات مع ما كان يسمى في تلك المرحلة التاريخية بالرجعيات المحلية والعربية، والاستعمار الصهيوني والامبريالي لن تصنع سوى ثقافة ومثقفين مناضلين . وقد تحول هذا النضال وبفعل نكسة عام 1967 إلى شعور متحفّظ إزاء الثقافة والمثقف المناضل عبّر عنه عبدالله العروي بأن وظيفة المثقف ليس النضال، إنما ملئ فضاء المجتمع العام.

ليست هناك تعليقات