Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

رنا قباني... قطتي مع محمود درويش

رنا قباني الزوجة السابقة للشاعر محمود درويش والمقال جزء من مذكراتها معه، نشرتها في القدس العربي كان محمود أكرم مخلوق ع...



رنا قباني

كان محمود أكرم مخلوق عرفته، مع أنه كان فقيرا- أو لأنه كان فقيرا، فسرعان ما اكتشفت أن لديه عبقرية في إنتقاء الهدية البليغة، التي اتسمت دوماً بحس جمالي أو عاطفي ذو شحنة عالية، تركت في قلبي علامة لم تمح، رغم أن كل ما أهداني إياه سرق مني فيما بعد، أو أندثر في الحروب والتنقلات المتتالية، أو مات.
كان لا يعود مرة الى البيت إلا وفي جيبه هدية: زهرة غاردينيا طلب من البائع أن يلفها بورق الجيلاتين وبشريطة خضراء بلون ضلعها تماماً؛ حبتان من «المارون غلاسيه» من محل «شانتيي» الشهير، إذ كان يعرف حبي لهذه الحلوى (رغم غلاء سعرها) لأسباب تتعلق بطفولتي، لأن والدي كان دائماً يحاول صنعها في بيتنا في دمشق، ليصبح المطبخ وكأن تسونامي قد ضربه، وقشر الكستناء يتناثر في كل مكا
ن، وأوعية عديدة نحاسية يغلي فيها قطر السكر على النار، وميزان الحرارة الخاص الذي جلبه معه من باريس، لقياس اللحظة المناسبة للبدء في تحضير الوصفة المعقدة من معجم «اللاروس غاسترونوميك» المفتوح أمامه، والصفحة التي يتدارسها أصبحت مهترئة من كثرة المحاولات.
في يوم ربيعي عاد زوجي من العمل الى شقتنا في بيروت، وطلب مني وكأنه لا يمكنه أن ينتظر ثانية- حينها كنت في المطبخ أفرم باقة من البقدونس لطبخ أكلة شامية هي «الجز مز» التي كان يسليه اسمها ويحب طعمها- أن أدخل يدي في جيبه لكي أستخرج هديتي. فعلت كما طلب، لأجد قطة صغيرة، بيضاء اللون، عليها علامة سوداء وأخرى حمراء، من صنف الهر الأوروبي. كان قلبي يدق من كثرة الفرح، وحين حملتها، نامت فوراً على صدري، وكأنها وجدت أمها الضائعة. بكى محمود حين رأى هذا، وأكل بسرعة بعد أن أطعم القطة وسقاها، لأنه أراد أن نذهب الى غرفة النوم ونأخذها معنا لنمضي معها ساعة القيلولة. حين فعلنا، وجدنا أنها نامت بيننا، ووضعت كفا صغيرا ناعما على كتف محمود، وباقي جسمها على جسمي. ثم أخذت «تخرخر» مطمئنة بأنها سرقت قلبي وقلبه، مدركة أنها ستصبح طفلتنا المدللة. تنهد محمود، وقال- والدمع ما زال يبرق على ريف عينه: «ليتك كنت تستطيعين (الخرخرة) مثلها، لكي أعرف أنك سعيدة معي وستبقين!».
كنت أترجاه دوماً أن لا «يدللني» بهذا الشكل اللا معقول، كي لا يحسدني القدر. فكم أضحكته كلماتي هذه، وسألني متعجباً كيف لي أن أؤمن بهذه الأنواع من الخرافات؟ لم يكن يرى، مثل ما كان يظهر لي (بحدس أثقل روحي وجار على أعصابي) تلك الكائنات القبيحة التي راقبتنا من ركن الغرف، وهي تتفانى في تدبيرها لتدمير سعادتنا البشرية الهشة. هل كانت هي التي دفعتني إلى الرحيل في ليلة سقوط الأماني، أم ظروف سياسية بائسة، وخارج إرادتنا تماماً، أعند بكثير من حبنا المتكرر؟
لم أنج من عقابه حين تركته ينزف جريحاً لوحده بعد انتهاء زواجنا الثاني، في بيت موحش في مصيف سيدي بوسعيد، بعد أن غادرها السياح لتجتاحها ريح الخريف الصاخب الرطب، التي كانت سرعان ما تغبها العظام ليوجعها، والنفس الحساسة ليؤلمها. وصل التاكسي الى باب الدار الأزرق الأثري الكبير، وكان سؤال محمود المأساوي الأخير هو: «كيف استطعت أن تأخذي ‘فيزا’ لكي تسافري؟» ثم أعاد السؤال باختصار أشد وأعنف، أشبه بـ «ستاكاتو» البرقية: «فيزا؟ كيف؟ كيف؟ فيزا؟» اذ إشارة الدخول الى أي بلد يريد ان يسافر اليها لاجئ مثله بقيت معضلة حياته، كما ستصبح معضلة حياة شعبي السوري بأكمله، في عهد محرقة بشار الأسد، والنزوح الجماعي للملايين بعد تدمير نصف بيوت سوريا بالطيران الحربي والبراميل المتفجرة؛ بالحصار والمجاعة والإغتصاب الجماعي والتعذيب الشنيع الحاقد.
ركبت التاكسي ولم أقل شيئاً، فالكلام كان أصغر من الحزن الصامت الذي اعتراني في لحظتها. وأسباب رحيلي كانت أكثر تعقيداً بكثير من أن تشرح أو تفسر. الأخطاء والجروح وأقوال الأفراد الذين أرادوا كسر علاقتنا، كانت قد غطت حبنا الناصع، كالنفايات في الصباح الباكر في حارات المرسى القديمة، قبل أن تلمها كاميونات البلدية، التي مررت بها وأنا متوجهة الى المطار. كانت بيوت هذه المدينة الساحلية البديعة، تعج بأصدقاء قضينا معهم أحلى أيام سنواتنا معاً، حين ذهبنا الى تونس للمرة الأولى في عام 1977 (قبل أن يحتلها أبوات الثورة الفلسطينية) ليقرأ محمود شعره هناك. ونزلنا في فندق من طراز تقليدي رائع، في غابة مليئة بالأشجار القديمة الضخمة، والياسمين والبوغانفيليا والميموزا. على شاطئ بحر سري، رمله كالسكر، كان اسمه «شاطئ القردة». هذه الجنة التي سحرتنا بيعت لشركة خليجية في عهد حكم سماسرة بن علي، وهدم الفندق الأثري وماتت الأشجار. بقيت المنطقة لسنين مهملة بعد قبض «الكومسيونات» الكثيرة، حتى بني عليها من فترة فيلات جديدة شديدة البشاعة.
كره محمود سماع لفظ اسمي عندما غادرته للمرة الثانية في تونس، وكان يترك جلسة بغضب لا إرادي إذا ما ذكرت فيها. صب علي كل سخط الذكر الذي طعن في غروره. لم يتغير هذا إلا حين أتت السنوات النهائية من حياته، حين سمح لنفسه أن يغفر لي، وتقابلنا وتحدثنا أكثر من مرة قبل وفاته. كم ترجيته، مثل كاساندرا، في المكالمة الهاتفية الأخيرة، أن لا يتوجه الى غرفة العمليات في ولاية تكساس، وان لا يسلم نفسه لجراحة خطيرة. قلت له أنني متأكدة انها ستقتله. أدهشه رد فعلي القاطع هذا، ولا بد ان ملامحه تغيرت حين أصغى إلي، فسمعت صوت ليلى شهيد، ممثلة منظمة التحرير، التي كانت تحرسه مثل ظله، تصرخ من غضبها: «ماذا تقول لك؟ كفى! كفى! لا ترد على كلامها وانه المخابرة فوراً!».


أما عقاب القدر القاسي لتركي هذا الشاعر الكريم النفس، والمترفع عن المادة مثله مثل الناسك، رغم إيهامه الجميع أنه كان متعلقا بملذات الحياة الدنيا- والذي بالرغم من ذلك كان يحلم ان يمطر على زوجته الصغيرة كل جواهر الأرض النادرة، دون أن يملك ثمن علبة يضعها فيها، جاءني بعد سنين، حين ذقت الذل على يد أبخل البخلاء.

ليست هناك تعليقات