يؤول مشهد الرثائيات والوجدانيات والانطباعات التي كُتبت عن العاملي والنجفي واللبناني والثوري والفتحاوي واللاهوتي، السيد هاني فحص، غداة مرضه ورقاده في المستشفى، ثم رحيله، ليس على أهمية الرجل ودوره ووجوهه المتعددة وفرادته فحسب، بل على ما آل إليه الواقع الاجتماعي اللبناني عموماً والشيعي تحديداً، وصولاً إلى المشرقي من فلسطين إلى سوريا والعراق وحتى مصر.
مشهد طوفان الرثاء للرجل الودود والمرح والمثقف والقريب من الجميع، يوحي كأن عائلة فقدت ابنها الوحيد في لحظة غفلة وبدأت تعيش لحظات فجيعة وفقدان وحسرة، وربما انقطاع السلالة، مع ما تعنيه هذه الكلمة في حياتنا. الرجل المعمّم والمنفتح والمعتدل، رحل في يوم كنّا نقرأ عن الترشيحات للانتخابات النيابية المحتملة في لبنان، وتظهر الوقائع أن عشرة أسماء نواب فازت بالتزكية في جنوب لبنان. بمعنى أن لبنان الذي زعمنا كثيراً أنه "واحة الديموقراطية" بات في بعض نواحيه يقترب من سياسة التصويت بـ99 في المئة، من دون اللجوء إلى المحادل، أو ما شابه.
باتت منطقة مثل جنوب لبنان، وغيرها من مناطق لبنانية محكومة بسياسة الأمر الواقع، وتحوَّلت إلى "بلوك" الصوت الواحد. فمنذ بروز "حزب الله" وخوضه حروبه المتتالية وانغماسه في الدم وتنامي وهج سلاحه ومشاركته في ترسيخ الانقسام الطائفي، من اغتيال رفيق الحريري 2005 إلى مشاركته في الحرب السورية، بدا أن أدوار الآخرين تختنق تحت سطوته وتندثر تباعاً، أو بسبب فائض قوته العسكرية وذهنيته القائمة على ثقافة الإقصاء والنبذ.
هُجّر السيد علي الأمين من منزله في منطقة صور، وأُقصي عن افتاء جبل عامل، وحرقت سيارات الأسعديين وقُتل مسؤول طلابهم. انحدر دور اليساريين إلى القعر وباتوا ملحقاً ثانوياً بثقافة "الممانعة"، وتضعضعت الأصوات الثقافية والشعرية أمام "ميتافيزيقيا المقاومة". لم يبق في الميدان إلا بعض مقالات صحافية واطلالات تلفزيونية لشخصيات اعتراضية قليلة ونادرة من هنا وهناك، لا ينجو أصحابها من الحملات الفايسبوكية والإعلامية التي تشبه القتل أو الاغتيال الرمزي.
السيد هاني فحص كان إحدى الشخصيات الشيعية المدنية البارزة والقليلة المعترضة داخل الطائفة الشيعية، وقد لاحقته الاتهامات والتخوينات وعبارات "تحسس رقبتك". حتى إن إحدى الصحف وصفته بأنه من "شيعة الوهابية"، لمجرد أنه قريب أو على تواصل مع آل الحريري. أجروا فحص دم، أصدروا التهمة الجاهزة، الغليظة والوقحة.
ولا تنجو الجماعات اللبنانية الأخرى من منطق الإقصاء والتهميش الذي يتبعه "حزب الله"، صاحب القوة والنفوذ غير المتوافرين لدى غيره.
الأمر الآخر أن السيد هاني، كان واحداً من رجال دين قليلين يعطون معنى للعمامة والجلباب، ولفهم الدين بطريقة حضارية لاهوتية وفلسفية. وربما يكون من الجيل الأخير الذي تخرج في النجف وبرز في الحياة العامة مازجاً بين الثقافة والفقه والسياسة. ما بعد جيله، لم نسمع بشخصيات دينية لبنانية لها دورها وخصوصياتها. لعله، في زمن "حزب الله"، لم يعد ميل طلاب الحَوزات في اتجاه الاجتهاد والفقه، بل تحوَّل إلى العسكرة ومنطق "السلاح زينة الرجال"، وحلَّت ثقافة القائد الميداني في مكان المثقف أو رجل الدين النجفي الآتي من الحوزة برصيد فقهي عميق. صار سهلاً وضع العمامة، وانتشرت بطريقة مريبة.
وفي المقلب الآخر، عند الطائف السنية، بات من السهل الغلو في إطالة اللحية، حف الشوارب، وادعاء الولاء لـ"السلف الصلح"، وربما الانتماء إلى الجماعات المسلحة.
بعيداً من مسيرة السيد هاني النجفية أو الفتحاوية، حبّه لغيفارا، أو عقده قران عشرات الكتَّاب المثقفين و"العلمانيين"، وبعيداً حتى من صوته الاعتراضي ضد "حزب الله" ومن قلب الضاحية الجنوبية نفسها، كانت قيمة السيد شخصيته المثالية في قدرته الحقيقية على التواصل مع الجميع وكسر أسوار وهمية وحواجز بنتها الجماعات في ما بينها. كان واحداً من رجال الدين القليلين العابرين للطوائف والجماعات. وإن كان السيد هاني معمّماً، فهو حضر في أروقة الكنيسة والتقى البطاركة والبابوات وصادق أرباب المذاهب، وكان قريباً من مطالب الناس. لكن المحنة أنه بقي صوتاً فردياً، كأن ما يقوم به لا يروق للجامعات المحيطة به، أو أنه هو لم ينجرف يوماً إلى هدير الطوائف وشحنها ضد بعضها.
لا ضرر في القول إن المغالاة في تقديم الرثاء للشخصيات اللبنانية الراحلة في السنوات الأخيرة (غسان تويني، أنسي الحاج، نسيب لحود، محمد شطح، السيد هاني...)، فيه نوع من رثاء للبنان نفسه، وشعور بالخواء، وإن هذا البلد يتجه نحو نهاية أدواره وتصحّره الفكري والثقافي في بعض النواحي، وانغلاقه في مواضع أخرى، وانحداره إلى مستوى "داعش" و"حالش". وكشكول الرثاء شعور بأن الداعشية والحالشية الثقافيتين، لم يبق حتى الصوت الفردي في مواجهتهما أو الاعتراض عليهما.
ينسجم بعض الرثاء مع أدوار الشخصيات التي نحبها، ويبقى البعض الآخر رتابة لغوية، إذ يكتب بعضهم كأن الشخص الذي نحبه سيخلد إلى أبد الآبدين، متناسياً أن أحداً لا ينجو من الغياب، أو "الموت حق" كما يقول العوام.
يبقى القول إن السيد هاني فحص كان عمامة ضدّ "طوق العمامة"، على ما عنون وضاح شرارة كتابه عن إيران.
مشهد طوفان الرثاء للرجل الودود والمرح والمثقف والقريب من الجميع، يوحي كأن عائلة فقدت ابنها الوحيد في لحظة غفلة وبدأت تعيش لحظات فجيعة وفقدان وحسرة، وربما انقطاع السلالة، مع ما تعنيه هذه الكلمة في حياتنا. الرجل المعمّم والمنفتح والمعتدل، رحل في يوم كنّا نقرأ عن الترشيحات للانتخابات النيابية المحتملة في لبنان، وتظهر الوقائع أن عشرة أسماء نواب فازت بالتزكية في جنوب لبنان. بمعنى أن لبنان الذي زعمنا كثيراً أنه "واحة الديموقراطية" بات في بعض نواحيه يقترب من سياسة التصويت بـ99 في المئة، من دون اللجوء إلى المحادل، أو ما شابه.
باتت منطقة مثل جنوب لبنان، وغيرها من مناطق لبنانية محكومة بسياسة الأمر الواقع، وتحوَّلت إلى "بلوك" الصوت الواحد. فمنذ بروز "حزب الله" وخوضه حروبه المتتالية وانغماسه في الدم وتنامي وهج سلاحه ومشاركته في ترسيخ الانقسام الطائفي، من اغتيال رفيق الحريري 2005 إلى مشاركته في الحرب السورية، بدا أن أدوار الآخرين تختنق تحت سطوته وتندثر تباعاً، أو بسبب فائض قوته العسكرية وذهنيته القائمة على ثقافة الإقصاء والنبذ.
هُجّر السيد علي الأمين من منزله في منطقة صور، وأُقصي عن افتاء جبل عامل، وحرقت سيارات الأسعديين وقُتل مسؤول طلابهم. انحدر دور اليساريين إلى القعر وباتوا ملحقاً ثانوياً بثقافة "الممانعة"، وتضعضعت الأصوات الثقافية والشعرية أمام "ميتافيزيقيا المقاومة". لم يبق في الميدان إلا بعض مقالات صحافية واطلالات تلفزيونية لشخصيات اعتراضية قليلة ونادرة من هنا وهناك، لا ينجو أصحابها من الحملات الفايسبوكية والإعلامية التي تشبه القتل أو الاغتيال الرمزي.
السيد هاني فحص كان إحدى الشخصيات الشيعية المدنية البارزة والقليلة المعترضة داخل الطائفة الشيعية، وقد لاحقته الاتهامات والتخوينات وعبارات "تحسس رقبتك". حتى إن إحدى الصحف وصفته بأنه من "شيعة الوهابية"، لمجرد أنه قريب أو على تواصل مع آل الحريري. أجروا فحص دم، أصدروا التهمة الجاهزة، الغليظة والوقحة.
ولا تنجو الجماعات اللبنانية الأخرى من منطق الإقصاء والتهميش الذي يتبعه "حزب الله"، صاحب القوة والنفوذ غير المتوافرين لدى غيره.
الأمر الآخر أن السيد هاني، كان واحداً من رجال دين قليلين يعطون معنى للعمامة والجلباب، ولفهم الدين بطريقة حضارية لاهوتية وفلسفية. وربما يكون من الجيل الأخير الذي تخرج في النجف وبرز في الحياة العامة مازجاً بين الثقافة والفقه والسياسة. ما بعد جيله، لم نسمع بشخصيات دينية لبنانية لها دورها وخصوصياتها. لعله، في زمن "حزب الله"، لم يعد ميل طلاب الحَوزات في اتجاه الاجتهاد والفقه، بل تحوَّل إلى العسكرة ومنطق "السلاح زينة الرجال"، وحلَّت ثقافة القائد الميداني في مكان المثقف أو رجل الدين النجفي الآتي من الحوزة برصيد فقهي عميق. صار سهلاً وضع العمامة، وانتشرت بطريقة مريبة.
وفي المقلب الآخر، عند الطائف السنية، بات من السهل الغلو في إطالة اللحية، حف الشوارب، وادعاء الولاء لـ"السلف الصلح"، وربما الانتماء إلى الجماعات المسلحة.
بعيداً من مسيرة السيد هاني النجفية أو الفتحاوية، حبّه لغيفارا، أو عقده قران عشرات الكتَّاب المثقفين و"العلمانيين"، وبعيداً حتى من صوته الاعتراضي ضد "حزب الله" ومن قلب الضاحية الجنوبية نفسها، كانت قيمة السيد شخصيته المثالية في قدرته الحقيقية على التواصل مع الجميع وكسر أسوار وهمية وحواجز بنتها الجماعات في ما بينها. كان واحداً من رجال الدين القليلين العابرين للطوائف والجماعات. وإن كان السيد هاني معمّماً، فهو حضر في أروقة الكنيسة والتقى البطاركة والبابوات وصادق أرباب المذاهب، وكان قريباً من مطالب الناس. لكن المحنة أنه بقي صوتاً فردياً، كأن ما يقوم به لا يروق للجامعات المحيطة به، أو أنه هو لم ينجرف يوماً إلى هدير الطوائف وشحنها ضد بعضها.
لا ضرر في القول إن المغالاة في تقديم الرثاء للشخصيات اللبنانية الراحلة في السنوات الأخيرة (غسان تويني، أنسي الحاج، نسيب لحود، محمد شطح، السيد هاني...)، فيه نوع من رثاء للبنان نفسه، وشعور بالخواء، وإن هذا البلد يتجه نحو نهاية أدواره وتصحّره الفكري والثقافي في بعض النواحي، وانغلاقه في مواضع أخرى، وانحداره إلى مستوى "داعش" و"حالش". وكشكول الرثاء شعور بأن الداعشية والحالشية الثقافيتين، لم يبق حتى الصوت الفردي في مواجهتهما أو الاعتراض عليهما.
ينسجم بعض الرثاء مع أدوار الشخصيات التي نحبها، ويبقى البعض الآخر رتابة لغوية، إذ يكتب بعضهم كأن الشخص الذي نحبه سيخلد إلى أبد الآبدين، متناسياً أن أحداً لا ينجو من الغياب، أو "الموت حق" كما يقول العوام.
يبقى القول إن السيد هاني فحص كان عمامة ضدّ "طوق العمامة"، على ما عنون وضاح شرارة كتابه عن إيران.