محمد حجيري كاتب من لبنان. القسم الثقافي في "المدن"، نشرتها قبل مدة واعيد نشرها الآن في "الرومي" هنا مقار...
محمد حجيري
كاتب من لبنان. القسم الثقافي في "المدن"، نشرتها
قبل مدة واعيد نشرها الآن في "الرومي"
هنا مقاربة عن شخصية بشير الجميل وأيقونته
في النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي، ونظرة أبناء الطوائف إليه في السلب وفي الإيجاب.
حين قُتل بشير الجميّل الملقب بـ{فتى الكتائب»
في 14 سبتمبر عام 1982، لم أكن قد بلغت التاسعة من عمري، سمعتُ باسمه للمرة الأولى
عندما بدأ إطلاق الرصاص وقذائف «آر بي جي» ابتهاجاً باغتياله. لم أكن أعرف عنه إلا
وسامته وفتوته التي رأيتها في صورة له منشورة في مجلة تابعة لـ{القوّات اللبنانيّة».
وحين خرجت من دائرة قريتي وتقرّبت من بعض الشبان المسيحيين في بيروت والمناطق الأخرى،
لاحظت أن جيلاً كاملاً منهم اسمه بشير. كان هذا الاسم كافياً ليكون «ماركة» أيديولوجية
أو ولائية حزبية. والشبان «القواتيجية» ينظرون إليه بنوعٍ من القداسة و{الأيقنة» و{الرومانسية»
و{المثالية»، ويتحدثون عنه في مرات كما لو أنه صديقهم الشخصيّ أو زميلهم في المدرسة
أو مخلّصهم الأوحد وملهمهم، يسمعون خطبه الرنانة وأغاني تمجّده في سياراتهم ومركباتهم،
لا يصدّقون موته أو مقتله، ويكتبون على الجدران «بشير حيّ فينا»... باختصار، يعتبرونه
«أشبهيّ» زمانه.
في وقتٍ متأخّر، تعمقتُ في «الأيقونة البشيرية»،
إذ لسنوات كنت أعيش في الجانب الآخر من الضفّة، الجانب الذي يتهم بشير بالعمالة والقتل
على الهوية. حتى إن بعض المثقفين يعتبر أن الشاعر عباس بيضون ارتكب «خطيئة» لأنه كتب
مقالاً بدا فيه قدر من الرثاء له، بعدما غيّر خطابه في الأشهر الأخيرة لاغتياله واتجه
إلى خطاب لبناني جامع، يختلف عن مرحلة صعوده الميليشياوي. يقول الكاتب حازم صاغية إن
وصول بشير إلى الرئاسة خلقَ عنده تفاؤلاً ساهم في تعديل توجهه نحو الآخرين خلال أيّامه
الأخيرة، بما حمل أديباً وكاتباً ديمقراطياً (يقصد عبّاس بيضون) لم يجمعه مرّة موقع
واحد ببشير الجميّل، على أن يصف التحوّل الذي طرأ على صورته بين ما قبل انتخابه رئيساً
وما بعده كتحوّل في صورة فرانكو لبنان إلى «صورة ديغول لبنانيّ مشوب بميتران...» (صاغية
– «تعريب الكتائب اللبنانية»).
اللافت أن بيضون كتب مقاله في جريدة «السفير»
(العروبية اليسارية الفلسطينية في زمانها) وأحدث ضجّة كبيرة. وهو في هذا الإطار يقول
إن المقال «خضّ الجريدة وأزعج صاحبها، ولكنه لم يكن الشخص الذي يصرفك من العمل لمجرد
أنّك كتبتَ شيئاً يخالفه، رغم أن بشير الجميّل يمثّل كل ما هو معاد لمبادئ طلال سلمان»
(حوار منشور في موقع «جهة الشعر» الإلكتروني). تخلى بيضون عن ذلك المقال كما تخلى عن
قصيدته «يا علي» التي كتبها في رثاء الشيوعي علي شعيب، والمفارقة أن مقال بيضون عن
بشير كان عن رجل تحوّل «أيقونة» و{قديساً» في الوسط المسيحي، وقصيدة «يا علي» النيرودية،
المستلهمة من علي شعيب، «بطل» عملية «بنك أوف أميركا» التي نفذتها مجموعة يسارية خلال
حرب تشرين 1973، يقول فيها عباس بيضون: «قاومت لتحرر دمك/ من عنابر الزيت/ وفمك من
مخازن السكر/ وعظامك من مقاعد الزعماء وأمراء الدواوين/ لكن يا علي، أين تجد هنا أرضاً/
لرأس طليق ويدين حرتين...». هذه القصيدة غناها الفنان مارسيل خليفة وصارت راسخة في
الوجدان الجمعي اليساري والجنوبي اللبناني، واللافت أيضاً أن قصيدة بيضون الثورية أتت
في مناخ اليسار اللبناني المتطرّف ومقالته في البشير تأتي في خضم اليمين المتطرف، وعن
شخص قلّ ما أحبّه أهل الثقافة، ربما باستثناء القاص توفيق يوسف عواد الذي كان يتردّد
إلى «بلاطه» وولائمه، كذلك المخرج والكاتب المسرحي ريمون جبارة وفيلسوف «المقاومة اللبنانية»
شارل مالك و{جوقة» سعيد عقل التي ترفع راية القومية اللبنانيّة.
مخلِّص متواضع
يتأرجح «فتى الكتائب» بالنسبة إلى محازبيه
بين القداسة بمعنى أنه الرجل «المخلّص»، والمتواضع أي أنه يتصرّف في حياته كما لو أنه
من العوام، فالحكايات في هذا الإطار كثيرة ومتشعبّة وخرافيّة. تارة يقولون إن بشير
حمل جرّة الغاز وأوصلها إلى شقّة في الطبقة الرابعة لرجل عجوز في منطقة ساسين - الأشرفية،
وفوجئت به عائلة الرجل، وطوراً يروون أنه ذهب في سيارته «المتواضعة» إلى منطقة الرميل
(شرق بيروت)، ودخل منزل سيدة عجوز وتناول طبق المجدرة على مائدتها. ولا يقتصر الأمر
على هذا فإحدى الصحافيات كتبتْ أنه (أي بشير) كان كريماً مع كل من قصده طالباً المساعدة،
وعفوياً لدرجة أنه دخل مرة محل فلافل طالباً سندويشاً قبل أن يتنبه إلى أن ليس معه
حتى ليرة واحدة فاعتذر «مش حامل مصاري»، فما كان من صاحب المطعم إلا أن ناوله السندويش
متعجباً: «هيدا بشير؟ مش معقول يكون هوّي وما معو حق السندويش!».
تكرّ السبحة في القول إن بشير كان بسيطاً
يكره اللباس الرسميّ وربطات العنق والمواكبة. وكانت علاقته برفاقه علاقة زمالة طيبة
وعفوية، ويوم كانوا يتخوفون من ردّ فعله يوم استشهاد ابنته، اكتفى بالقول: «مايا شهيدة
متل الشهدا الخمسة آلاف». (زكية النكت رحمة جريدة النهار - 2006 / 9 / 14).
أبعد من ذلك، إذ يتحول بشير إلى أسطورة
في كل شيء وفي أحيان يتحول إلى طابع فرويدي، وكل أمر في حياته موضع غرابة وهالة. تقول
الرواية الشعبيّة إنه كان في العاشرة من عمره عندما تعلم قيادة السيارات، وذات مرة
قرّر أن يقود السيارة خلسة ففوجئ والده الشيخ بيار والسكان عند رؤية السيارة تسير بمفردها
في شوارع القرية، فبشير لم يكن ظاهراً في داخلها لشدة صغره على رغم الأريكة التي يضعها
على كنبة السائق. وفي البيت كان التأنيب نصيبه حتى وعد أنه لن يفعلها ثانية. فهو كان
وعلى رغم شقاوته يعتبر والده مثله الأعلى ويحترمه بشدة ولا يخالف له أمراً أو طلباً
إلا إذا كان هو (أي بشير) على حقّ».
وحدث مرّة أن غضب منه الشيخ بيار وأراد
أن يعاقبه على أمر لم يكن مخطئاً فيه، فهرب من المنزل ولم يعد إلا عندما ثبت للشيخ
بيار أنه ليس مخطئاً، وبالتالي لا يستحق العقاب. بمعنى آخر تريد الكتابات إثبات عبقرية
فتى الكتائب وهو في سن الطفولة، بل وتذهب إلى مدح «صبيانيته» باعتبارها بطولة القائد،
فتنقل رواية أنصار بشير أنه اختلف بضراوة مع والده على أمر، فما كان من بشير إلا أن
خرج من المنزل وبدأ بتمزيق صور والده المعلقة على الجدران في بكفيا إلى أن قبض عليه
بعض الكتائبيين لأجل التحقيق معه لأنهم لم يتعرفوا إليه، فنهرهم بشير بحزم قائلاً:
«هذا أبي وأنا حرّ في تمزيق صوره». وفي هذه الصورة تتجلى لعبة قتل الأب بمعناها الفرويدي.
في سياق متصل، يروي الباحث فواز طرابلسي أن صحافية أميركية قابلت، بناءً على نصيحة
من «الموساد» الإسرائيلي، بشير الجميل ووقعت في أسر سحره.
جاءت الصحافية إلى بيروت لتصور فيلماً عن
بشير بغية الترويج له في الولايات المتحدة، فكان الفيلم دراما نفسية على الطريقة الأميركية:
يسعى بشير إلى التماهي مع والده بيار الذي يفضل شقيق بشير البكر، أمين. في حين أن الأخ
الأصغر هو المحبوب والمدلل من أمّه التي تجيب عن سؤال في مقابلة مع الصحافية الأميركية
عن سبب عدم تمتّع بشير بالصداقات قائلة: «بشير لا يحتاج إلى أصدقاء، لديه أمه».
وإذا كان بشير جمع بين «التواضع» والقوة
و{الأشبهيّة»، فبعض المروجين لظاهرته يعتبر أنّ اغتياله كان مشيئة قدرية، وهذا ما يروج
له الأب سليم عبو في تناوله للقدرية التي كان يعيشها بشير إزاء الموت الآتي إليه لا
محالة، وهي القدرية التي دفعته إلى التنقل من دون مواكبة أمنية كبيرة لأنه لم يكن يريد
أن يعرض أحداً غيره إلى خطر الموت عندما تحين الساعة. حديث سليم عبو عن قدرية بشير
في الموت، يقابله أن بعض جمهور الأخير يتصرف من منطق أن الأسطّورة لا تقتل أو لا تموت،
فعندما فُجِّر مقر بشير الجميّل في الأشرفية، قالت امرأة إنها شاهدته ينقل إلى المستشفى،
وقالت أخرى إنه ألقى عليها التحيّة من سيارة الإسعاف. وقال رجل إن الشيخ بشير ألقى
عليه التحية وسأله عن أولاده. وزعم بعضهم أن بشير الجميّل انتشل من تحت الانقاض حياً،
وأن شهود عيان رأوه ينقل في سيارة إسعاف تحمل الرقم تسعين. وبعد ساعات، تعرف السياسي
كريم بقرادوني إلى جثة صديقه الرئيس من خاتم الزواج، الشيء الوحيد الذي بقي قطعة واحدة.
عالمه السحري
في مقابل هذه الحكايات عن بشير بين الشبان
المسيحيين، وهي تشبه كل الحكايات حول الزعماء الشعبويين، سمعت شاباً شيوعياً في منطقة
الحمراء (غرب بيروت) يقول إن «فتى الكتائب» كان يقتل الفلسطيني ويضع رأسه على حربة
بندقيته ويتجوّل في جيب عسكري في منطقة الأشرفية، وفتاة بيروتية تروي أن بشير قتل شاباً
مسيحياً لمجرّد أنه دخل إلى المنطقة الغربية حيث الأكثرية المسلمة هرباً من التجنيد
القواتي. ويسرد السياسي الفلسطيني الراحل شفيق الحوت الرواية الآتية: «نشطت إحدى العصابات
اللبنانية في ترويج المخدرات، وكان أفرادها يستعملون زي الفدائيين للتمويه. وفي إحدى
المرات تصدى لهذه العصابة جهاز الكفاح المسلح (أي الشرطة العسكرية) ووقع بينهما اشتباك
مسلح قتل خلاله النقيب الفلسطيني سعيد غوّاش. وفي اليوم التالي (26/3/1970) تحركت مجموعة
فدائية غير مسلحة من 14 شخصاً من بيروت إلى دمشق لترافق جثمان الشهيد إلى دمشق حيث
تقيم عائلته. وعند «كوع الكحالة» المشهور انهمر الرصاص على الموكب من السطوح ومن برج
الكنيسة، فقتل الفدائيون جميعهم. وفي تلك الأثناء كان الصحافي جورج فرشخ (من زغرتا
وله عدد من الروايات والأفلام الوثائقية وكان يعمل آنذاك في تلفزيون لبنان) ماراً بالصدفة
في تلك المنطقة في طريقه إلى زحلة، فصوّر الحادثة. وعند تحميض الفيلم ظهر بشير الجميل
وهو يطلق النار من برج الكنيسة. وبعد بضعة أيام أوقفه الفدائيون عند أحد حواجزهم بعدما
عثروا في صندوق سيارته على بعض القبعات الحمر وهي ملطخة بالدم وبقايا الأدمغة، وهذه
القبعات هي ما كان يعتمرها أفراد الكفاح المسلح. مع ذلك، ونتيجة لرغبة كمال جنبلاط،
وكي لا تتطور الأمور إلى أبعد من ذلك، أطلق سراح بشير الجميل من غير أن يحاكم، وهذا
ما حدث حقاً» (شفيق الحوت – بين الوطن والمنفى).
من هذه الصور، يمكن الدخول في عالم بشير
الجميّل «السحريّ» و{الأسطوريّ» والأجرامي «اللبنانيّ» و{الفاشي»، والذي ما زال حتى
الآن يشغل الجيل الصاعد والشبابي والعجائزي في الوسط المسيحي. هذا الشاب المسيحي الكاريزماتي
الماروني «المتمرد» والمارق والمتهور و{الثوري»(بالمعنى التعسفي)، الذي عُلقت صوره
في غرف النوم وعلى أعمدة الإنارة ووصف بأنه «الحلم» و{الوعد»، ما زال موضع خلاف بين
اللبنانيين، فهو بمثابة «قدّيس» بالنسبة إلى فئة من اللبنانيين وهو «عميل» وقاتل بالنسبة
إلى فئة أخرى. لم تنفع العمليات السياسية في تجميل صورته على رغم خطابه السيادي والمؤيد
للدولة بعد انتخابه رئيساً. يقول أحد المعجبين به: «غريب هذا الاختلاف حتى التناقض
في النظرة إلى بشير الجميّل. «هو شيطان البعض وملاك الآخرين»(...). وهو القادر في كل
الأحوال على أن يجد لنفسه مكاناً على صفحات الحاضر. لقد سقط بشير الجميّل، لكنه على
ما يبدو لم يمت في وجدان شريحة من المسيحيين». «لقد تحوّل إلى تلك الصورة التي لا تشيخ.
إلى ما يشبه الأيقونة المقدّسة التي يجب عدم لمسها أو انتقادها لأنها بالنسبة إلى كثيرين
بلغت مرتبة القداسة». حتى إن المغالين في رسم معالم تلك الصورة يذهبون إلى حد التوقف
عند معاني اليوم الذي مات فيه بشير. «لقد ارتفع في يوم عيد ارتفاع الصليب، وكما أن
المسيح فدى العالم، كذلك فدى بشير بموته لبنان. هي صورة سوريالية يحاولون رسمها فتمنع
بطبيعة الحال أي مراجعة أو نقد بنّاء أو حتى محاولة مساءلة ولو بسيطة»...
لم يكن لبشير الجميل، في مطلع عام 1975،
أي وجود أو يكاد، سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد العسكري، كانت له شهرة إنما
بلا اسم. على رغم أن عائلة الجميل لا تنتمي إلى كبار ملاكي الأراضي ولا إلى العشائر
المحلية الكبرى (الزعماء)، التي تشكّل طبقة الوجهاء الاقطاعيين للمجتمع الماروني، كان
رجال آل الجميل يحملون لقب «شيخ» أباً عن جد، إذ كان الأمير بشير أحمد ابو اللمع، الأمير
الحاكم آنذاك، قد منح جد بيار الجميل هذا اللقب لقاء خدمات أسداها له حوالى عام
1855. وآل الجميل مثال معياري لأسرة من البورجوازية يرفضها الاقطاعيون لأنها تمثل الطبقة
الوسطى التي يعتبرها السياسيون التقليديون بمثابة ظاهرة عارضة، لأنها لا تتمتع بثروة
كبيرة وليس لها تابعية عائلية، لذا قد انطوت على نفسها وواجهت الآخرين بإظهار تماسك
داخلي كبير.
«الأمل الأخير لخلاص لبنان»
بشير ابن مؤسّس حزب الكتائب وزعيمه «الشيخ
بيار»، مثّل «الأمل الأخير لخلاص لبنان» بزعم محبّيه، اصطدم مع الفدائيين الفلسطنيين
عام 1970 (صرّح بعد اجتياح 1982 لمجلة «تايم» أنه يفكر جدياً في تحويل كل المخيمات
الفلسطينية إلى حدائق للحيوانات أو إلى ملاعب «تنس»). وتبدأ قصة انقلابه للاستيلاء
على السلطة السياسية في لبنان عام 1976 مع تسلمه القيادة العسكرية لميليشيا حزب الكتائب،
إثر مقتل قائدها وليام حاوي خلال حصار تل الزعتر (قتل بطريقة غامضة وثمة من قال إنه
قتل بقناص فلسطيني). وتتدرج صعوداً عبر محطّات عدة أبرزها: تأمين انحياز فرع حزب الكتائب
في كسروان لبشير عام 1977 ومحاصرته فرع الحزب في المتن الموالي لأخيه أمين، مجزرة إهدن
بحق طوني فرنجيه وعائلته عام 1978، من هذه المجزرة يمكن قراءة الكثيرة من الوقائع والاستنتاجات،
فمن دون شك حين تعمقت في كواليس الأحداث لاحظت أن فظائع بشير الجميل في الحرب واغتياله
حتى ينتميان إلى ما يسميه المفكر الفرنسي روني جيرار «العنف المقدس»، فلا ضرر في القول
إن بشير الجميل قتل طوني فرنجية «ثأراً» لأحد الكتائبيين. في المقابل، يروي روبرت فيسك
أنه: «عندما قتلت ابنة بشير الجميل في محاولة قتله في بيروت الشرقية بسيارة ملغومة،
لم يستطع سليمان فرنجية أن يخفي شعوره بالرضا. وعندما سألته عن رد فعله جلس محدودباً
وراء طاولته في قصره الصغير وطأطأ رأسه ونظارتاه النصفيتان على طرف منخريه وقال لي:
«آمل أن يشعر بشير الجميل الآن بما شعرت به» (روبرت فيسك - ويلات وطن). وفي مفتتح كتابه
«رحلة إلى أقاصي العنف» يقول سمير فرنجية: «شاءت الصدف أن يقع بين يديّ كتاب حملني
على كثير من التفكير المعمّق في هذه المسألة. عنوان الكتاب «أشياء مخبأة منذ بداية
هذا العالم»... لدى قراءتي مؤلفات جيرار اكتشفت الطابع الميميائي اكتشفتُ الطابع الميميائي
للعنف المؤسس على «الرغبة في رغبة الآخر». وهو عنف يشاكل (يماثل) بين الناس، بحيث
«يغدو كل واحد توأم خصمه أو نسخة عنه». إنه عنف قائم على «التبادلية»...
بعد حرب بشير الجميل ضد القوات السورية
خلال ما سمي «معركة المئة يوم» التي انتهت بمغادرة هذه القوات منطقة الأشرفية وتحوّل
بشير إلى بطل ما سمي «المقاومة المسيحية»، تشكّلت أيديولوجيا اسمها «الأشرفية البداية»
بل «عصبية مكانية» اسمها الأشرفية. كذلك ارتكب بشير مجزرة الصفرا بحق ميليشيا «النمور»
التابعة لكميل شمعون في يوليو 1980 (وقد تحوّلوا إلى «قطط صغيرة» كما وصفهم داني شمعون)،
على أن بشير كان «طلب التقيّد المطلق بتوجيه صارم، الحفاظ على حياة كميل شمعون وابنه
داني وعائلته. كان شبح طوني فرنجية لا يزال يراوده» (آلان مينارغ – أسرار حرب لبنان)...
وأعقب مجزرة الصفرا توحيد ميليشيات «الجبهة
اللبنانيّة» المسيحية في إطار «القوّات اللبنانيّة» برئاسة بشير. واللافت في هذا الإطار
أن الأب سليم عبو في سيرة تجميلية لبشير الجميل خالية من أي تحفظ، برّر أخر عمل قام
بها بطله ضد ميليشيا داني شمعون بالقول: «لا شكّ أن الميليشيا الأكثر شبْهة كان ميليشيا
حزب الوطنيين الأحرار، الأهم بعد الكتائب، فهي كانت تستقبل في صفوفها عناصر جديدة بتساهل
زائد... من دون أن تهتم بأصولهم وأخلاقهم ونواياهم»(سليم عبو – بشير الجميل روح الشعب...).
ونحت الجميل صورته من المعارك التي خاضها، ومن الأدوار التي لعبها، ورأسماله كان هجومه
على الآخرين و{الغرباء» وحديثه المفرط عن السيادة و{لبنان أولا» و10452.
قضم القائد الكتائبي الشابّ الحياة السياسية
المارونية ومواقعها، قضم حزب الكتائب موقعاً بعد آخر، وأبعد المعتدلين وأصحاب البحث
عن التسويات. وبعد ذلك انصرف، ومعه وحوله فريق قريب يبلغ العشرات من السياسيين والتقنيين
وكبار الموظفين والحزبيين والضباط والأمنيين والرهبان والمقاتلين والصحافيين والجامعيين،
إلى شحذ أداته السياسية والعسكرية المستقلة عن الحزب اللبناني الذي أنشأه أبوه. والأداة
السياسية والعسكرية هذه، وهي توجه إنشاء «القوات اللبنانية» في النصف الثاني من السبعينيات،
مزجت الاستقلال عن حزب الكتائب اللبنانية، من وجه، والخروج فعلاً وحقيقة من صفوف الحزب
نفسه، من وجه آخر.
كانت القوات أشبه بالتنظيم «الثوري» المتمرد
والمارق على رخاوة الوجوه الميثاقية المعتدلة اللبنانية المسيحية تحديداً والتي تدعو
إلى لبنان التعايش والوفاق. وكان بشير يمثل جيلاً جديداً من الزعماء العسكريين «في
الوقت الذي يدرك فيه اللبنانيون بأن 2 + 2 تعطي 4 وليس شيئاً آخر، عندئذ تستطيع بناء
بلد جديد». في الواقع، وفي إطار ثقافة التسويات السياسية التقليدية في لبنان، «لم تكن
2 + 2 تعطي 4 إلا نادراً، بل أكثر أو أقل، لأن كل شيء قابلاً للمساومات والمتاجرة،
ولكن بشير الجميّل كان يلقي مسؤولية كل المشاكل على نظام التسويات، وكلمة الميثاق الوطني
أصبحت بالنسبة إليه إهانة (تيودور هانف – لبنان تعايش في زمن الحرب).
منذ اشتعال فتيل الحرب الأهلية في لبنان،
بل منذ بروز أزمة السلاح الفلسطيني في هذا البلد الصغير، بدأت بوادر أزمة في الصيغة
اللبنانية، وراودت بعض المنظرين الأيديولوجيين اللبنانيين (المسيحيين) من أمثال فؤاد
أفرام البستاتي (أحد قادة «الجبهة اللبنانية» التي ضمت الأحزاب المسيحية) فكرة البحث
عن وضعية «الانفصالية»، ولم يكن بشير الجميل بمنأى عن الأفكار الأيديولوجية هذه، فهو
منذ بروزه العسكريتاري، بدأ يعطي لهذه الأفكار بعداً أيديولوجياً، بوضعه أياها في إطار
أكثر عمومية: «إن لبنان، بما هو لقاء حضارات وثقافات، واجتماع الديانتين الكبيرتين
المسيحية والمحمدية، بكل تنوّعاتها... هذا اللبناني قد تفكك منذ بدايات العقد الحالي.
هكذا خسرنا الرهان، إذ كان في الواقع رهاناً، على إمكان استيعاب الفروق الإتنية والدينية
من خلال حياة وطنية مشتركة».
يقول سمير فرنجية: «بالنسبة إلى الجميل،
فإن هذا النكوص الهوّى اللبناني (تراجع الإحساس بالهوية المشتركة) إنما هو جزء من ظاهرة
عامة، وعلامة من «علامات الأزمنة». فهو يراه «مزامناً ومساوقاً لتقسيم قبرص، وحركة
الكيبيك الانفصالية في كندا...». استهوى هذا الحل «الانفصالي» بعض المسيحيين، خصوصاً
أولئك الذين لم يفهموا الأسباب الحقيقية للعنف المستشري... مهّدت هذه «الأفكار» والتحوّلات
لظهور لغة كتائبية أخرى، لا ينفّك صاحبها بشير عن استعراض كامل قواه وقدراته، فقد كان
يقول إنّ المسيحيين «قدّيسو الشرق وشياطينه» وساهم في عسكرة المجتمع اللبنانيّ، واستيلاد
«فكرة» الزعيم المنقذ والمخلّص التي لا سابق لها في السّياسة اللبنانية، ربما باستثناء
تجربة كميل شمعون وقبله يوسف بك كرم. والراهن أن هذه الفكرة، بحسب تحليل حازم صاغية،
ظّلت على الدوام عربيّة تفدُ إلى لبنان وفادة استفزاز وتحريك للحساسيّات الأهلية فتدفع
المسيحيين في صورة عابرة وموقتة إلى خلق زعيم معبودٍ لهم. فحزب الكتائب اللبنانيّة
الذي انطلق انطلاقة شبْه مدينيّة محفوفة بالتناقضات ومشرعة على احتمالات عدّة، بما
فيها الاحتمال المسيحيّ الديمقراطيّ. لم تلبث يقظة الريف المسلّح والمحبط على السّياسة
أن «عرّبته» في ما «عرّبت» بأن أناطت بالخوف أمامه السّياسة فأشاعت العنف ونحّت الدّولة
وردّت الطّائفة المارونية، في سياق الارتداد اللبنانيّ العامّ، إلى السويّة الدمويّة
العشائرية والمغايرة للطّائفية والرّسملة والسّياسة (حازم صاغية - تعريب الكتائب اللبنانية).
وبدا أن بشير يطمح إلى تحقيق انقلاب سياسي،
وهو أطول انقلاب في تاريخ لبنان بحسب تعبير السياسي كريم بقرادوني، وانقلب في البدء
على محيطه وحزب والده. ولتقدير حجم الفارق بين كتائب ما قبل بشير وجيله، لا بأس بالعودة
إلى شهادة جوزف أبو خليل الذي عايش عن قرب تجربة الطرفين وعبّر عنها بلغة لا تنقصها
المرارة والدهشة: «غريب كيف تغيّر هؤلاء الشبان وقد عرفتهم واحداً واحداً وأحببتهم
مقاتلين لا يسألون عن أيّ مقابل. بل غريبٌ ما صنعت فيهم الشهوة إلى السلطة وكم بدّلت
من فضائلهم! فطوال حياتي الحزبي والسياسية لم أعرف صراعاً على السلطة مثل الصراع الذي
بدأ مع السلطة التي أنشأها بشير الجميل في المناطق الشرقية ولم ينته بعد. وفي كلِّ
حياتي الحزبية والسياسية لم أشهدْ أحقاداً مثل الأحقاد التي تُفرّق بين أبطال هذا الصراع
وتدوِّخهم. وفي كلّ حياتي الحزبية والسياسة لم أرَ جرأة في طلب السلطة مثل جرأته»
(جوزف بو خليل - حرب لبنان).
في 6 يونيو 1982، اجتاح الجيش الإسرائيلي
الأراضي اللبنانية، فانسحبت القوات السورية إلى البقاع. انكفأت منظمة التحرير الفلسطينية
من الجنوب، وقبل أن تغادر قواتها بحراً إلى تونس، لتدخل في تشرد طويل. في 23 أغسطس،
انتخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، وهكذا زين للفريق المسيحي أنه وجّه إلى خصومه
الضربة القاضية التي ستمكنه من وضع حدّ للعنف. من تلك اللحظة تغير خطاب بشير الجميل
كلياً. لم يعد يقدم نفسه قائداً «مسيحياً» بل «لبنانياً»، وأخذ يبحث عن «كبش فداء»
يستعيد بواسطته وحدة اللبنانيين. في بداية حملته الانتخابية، كان قد حاول أن يجعل من
الفلسطينيين هذا «الكبش». لكن تلك المحاولة باءت بالفشل، لأنها لم تحظ بالإجماع المطلوب.
بعد انتخابه رئيساً، وقع اختياره على كبش آخر، تمثل هذه المرة بجميع «الغرباء»، من
سوريين وفلسطينيين وإسرائيليين. وكان الجميل «ضحية» هذا المشروع. وحتى في الوسط الإسرائيلي
يتم تكبير صورة بشير الجميل كدافع لأمور حربية. ذكر أحد الصحافيين الإسرائيليين أن
بيغن وبعد لقاءات عدة مع بشير الجميل همس لأحد مستشاريه: «الجلوس بمواجهة ستالين أو
تشرشل أو موسوليني لأهون بكثير من مواجهة هذا الشاب الطموح المدعو بشير الجميل!!».
في 14 سبتمبر 1982، تم تفجير المركز الرئيس
للقوات اللبنانية في الأشرفية حيث كان بشير موجوداً. هكذا قُتل بشير قبل أن يتسلم سلطاته،
ولم يبق في الرئاسة سوى ثلاثة أسابيع. فوراً، قرر الإسرائيليون إدخال قواتهم العسكرية
إلى بيروت الغربية، ذلك بحسب روايتهم الرسمية، لأجل «حفظ الأمن وطرد الميليشيا الكتائبية
من مخيمي صبرا وشاتيلا حيث ترتكب مجزرة رهيبة». بهذه الطريقة انقضّ الإسرائيليون عل
حزب الكتائب ومرغوا وجهه في الوحل. والحق يقال إن هذه الحزب لم يتعرض، حتى في أسوأ
لحظات الحرب، إلى هجوم بمثل هذه الشراسة. لقد وجه الإسرائيليون إليه التهمة بصورة مباشرة،
وأظهروا المسيحيين أمام الرأي العام الدولي كجماعة من المجرمين القتلة (سمير فرنجية
– «رحلة إلى أقاصي العنف»).
كان اغتيال بشير الجميل زلزالاً حقيقياً
بالنسبة إلى «القوات اللبنانية»، فقد خسرت الميليشيا الزعيم المنادى به من الجميع،
والصديق الأمين لكل واحد من أفرادها، والجامع لكل الأقطاب، والسور في وجه الحزب، وراسم
السياسة، وصاحب القرار الذي لا غنى عنه، ترك غيابه أعضاء فريقه ليس ضائعين ومذهولين
عاطفياً فحسب، بل تركهم عراة حقاً. وكرد فعل، بات ما تحقق أو قيل أو تقرر في حياته
مرجعاً، ومؤسسات «القوات اللبنانية» بالدرجة الأولى، فتشبث الجميع بها كخشبة خلاص.
كان وزن حزب الكتائب في قرارات «القوات اللبنانية» كناية عن موافقة بسيطة يعطيها بيار
الجميل ويتصرف بها بشير بمفرده. بعد مقتل بشير عاد حزب الكتائب إلى الواجهة، فبات بيار
لا يُستغنى عنه. غير أنه لم يعد كفؤاً للقيام بدور القائد، لأنه كان قد تقدم في السن
من جهة، ولأنه كان يجد صعوبة في محاورة الأجيال الجديدة التي تحمل قيماً مختلفة من
جهة أخرى. ومن ناحية ثانية، وبطريقة واعية أولاً، كانت صورة بشير تتطابق مع كل طامح
إلى زعامة العالم المسيحي.
ماذا لو بقي حياً؟
يتساءل الكتائبي جوزف أبو خليل في تقديمه
لكتاب «بشير الجميل، تاريخ في رجل» لجورج الحويك، ماذا لو ظل الرئيس المنتخب الشيخ
بشير الجميل حياً فتسلم مسؤوليته الدستورية وقبض على ناصية الحكم وشرع في تحقيق ما
التزمه أمام اللبنانيين جميعاً بدءاً بتحرير لبنان من كل الجيوش والمنظمات المسلحة
على أراضيه، وصولاً إلى إقامة الدولة المستهابة والديمقراطية في آن»؟ ويضيف: «كان ذلك
أشبه بحلم. إلا أن ما كان حققه الرئيس الظاهرة من أحلام جعلت الناس تصدق أن الحلم الكبير
لن يظل حلماً، خصوصاً أن البشائر كلها كانت تنبئ بالخلاص القريب. وربما لهذا السبب
استحال الحلم عند استشهاده، كابوساً، وربما لهذا السبب أيضاً لا تزال الناس تتساءل:
ماذا لو لم يمت البطل؟ بل ثمة من لا يزال يعتقد ويؤمن بأنه لو نجا بشير في ذلك الحين
من المكيدة التي دبّرت على حياته لكان لبنان قد نجا معه هو أيضاً». تتبدل نظرة الكتائبي
جوزف بو خليل إلى بشير القواتي، بين الماضي والحاضر، بين زمن صعوده وشهوته للسلطة،
وبين زمن مقتله وتحوله حلماً معلقاً.
وكتب بول عنداري في كتابة «الجبل حقيقة
لا ترحم» أنه حين أعلن بشير أن الحرب قد انتهت «راح اللبنانيون يحلمون بدنو ساعة الخلاص
من الدوامة. ورسخت صور البشير في الأذهان، كل الأذهان، ليس كقائد ومنقذ تاريخي وحسب،
بل كعناية ساهرة على كل أعمالنا وحياتنا اليومية وكإطار أخلاقي وعنفواني لمسارها.(...)،
وبموت بشير الجميل مات شعب عمره بضعة أيام، كان قبلها مجموعات لا اسم لها، ثم عاد مثلما
كان. لذلك كان حجم الخسارة كبيراً جداً لأنها فقدان شعب لا فقدان قائد فحسب». هكذا
يجعل عنداري المقاتل القواتي القائد في كفة والشعب في الكفة الأخرى، وفي ذلك ذروة العقلية
الشمولية والاستبدادية التي تختصر الجماعة في القائد، بل تعتبر الجماعة لا شيء من دون
القائد المنقذ والمخلص.
وبعد اغتيال بشير الجميل وجدت «القوّات
اللبنانيّة» نفسها في حالة فراغ سياسي، «تجرجر أذيال الخيبات، وتعتاش من فرائضها على
«المجتمع» المسيحي، وتثقل كاهله، وتنافس خزينة الدولة على عوائدها. ويصبغ تورطها في
أعمال وصفقات وتجارات غير مشروعة «مجتمعها» كله بصبغة الخروج على القانون (وضاح شرارة
– أقنعة المخلص)، ولم يعد الشيخ بيار بعد فقدان ابنه قادراً على قيادة الكتائب وتشكيلاتها
السياسية والعسكرية، ولم يستطع أمين الجميل شقيق بشير مواصلة الحالة السابقة. فقد كانت
«القوّات اللبنانيّة» ضده، وكانت هذه القوات التي تضم أكثر من 20 ألف مقاتل وتنفق على
الأقل 12 مليون دولار شهرياً وتحظى بدعم الدولة العبرية، تمثل وزناً سياسياً وعسكرياً
مهماً وخطيراً وتبدو سائرة نحو المغامرة والمجهول، ولم تكن للأميركيين خطة بديلة لما
بعد بشير فقد كان هو رهانهم الأساسي.
كانت صورة بشير الجميّل، غداة اغتياله في
كل مكان، على الجدران، على الأبواب على ذرى الأعمدة، على السيارات، بآلاف النسخ. ولم
تكن تحمل سوى كلمة واحدة «الأمل». غداة وفاته، نشرت صحيفة فرنسية الخبر بعنوان: «اغتيال
الأمل». وأنشد الجمهور القواتي «ع دعساتك نحن مشينا» و{بشير حي فينا» وغنّت باسكال
صقر، نجلة أبو أرز قائد حراس الأرز، «وعد يا لبنان»... وهذه الأغنية ذُكرت لاحقاً بعبارات
حسن نصرالله، خصوصاً بعد «حرب تموز» (2006) التي سميت «الوعد الصادق». وإذا كان بشير
الجميل غاب جسدياً فقد حضر من خلال الاحتفالات والأغاني والأناشيد والملصقات التي أختلطت
فيها التعابير السياسية بالرموز المقدسة، والصليب بالبندقية، ففي كتابها «ملامح النزاع
- الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية» الغنّي بالوثائق البصرية، تسرد لنا الكاتبة
زينة معاصري من خلال حرب الملصقات مسار النزاعات التي اجتاحت شوارع لبنان، واحتوت على
معان ودلالات متناقضة، وممارسات جمالية متنوعّة ومنها ملصقات بشير الجميل الأيقونة
المسيحية، كتبت في هذا الصدد: «هناك صورة فوتوغرافية لبشير الجميّل تظهره محمولاً على
أكتاف شبّان يمجّدون بطلهم، وقد نقّحت لاحقاً لتبرز فقط الرئيس الفائز، تحيط به الأيدي.
تلك الصورة الفوتوغرافية التي نشرت في هيئة ملصق أدخلت تلك اللحظة في تاريخ لبنان.
وأعيد إنتاجها كل سنة تقريباً. ولا يزال الملصق منتشراً إلى اليوم على جدران حيّ الأشرفية
في بيروت الشرقية». وعلاوة على الملصق الفوتوغرافي الشهير صمّم عدد هائل من الملصقات
حداداً على غياب الزعيم الشابّ. ففي أحد الملصقات التي تخلّد ذكرى اغتياله، تحاط صورته
الفوتوغرافية بهالة بيضاء تذكّر بصور القديّسين، وتستعار في صنع هذه الأيقونة تمثيلات
الشخوص المسيحية المقدّسة. شمس تنشر أشعّتها من خلال الغيوم، وتمنح البركة عبر نورها
المقدّس على خارطة لبنان.
إذا كان بشير الجميل يؤمن بأن 2 + 2 =
4، فإن من يتأمل جمهوره يدرك أن حلمه بات أقرب إلى الخرافة وازدراء للذات لأجل لا شيء.
لنقرأ هذا المقطع: «ذات يوم وبعد استشهاد بشير وقفت أمام الكبير شارل مالك في واحدة
من المناسبات التي كانت تقام لإحياء ذكرى بشير وكانت عديدة. نظرت إليه وكنت كما النملة
أمام عملاق تأملت تعابير وجهه وقد ازدادت تجاعيده بفعل الألم الذي كان يعتصره على غياب
حلمه الوحيد، كان ذلك بعد أقل من عامين على استشهاده، أنصت إليه وهو يسأل بإلحاح وينظر
إلى وجوهنا بامعان: هل ستنسون بشير؟ لا تنسوه لا تنسوا بشير» (غرازيلا خوري - موقع
الكتائب الإلكتروني 23 أغسطس 2011)...
تبيّن معاصري أنه صُمّم عدد هائل من الملصقات
حداداً على غياب «الفتى» (بشير) في تاريخين معروفين، 23 أغسطس و14 سبتمبر، ما ساعد
على بناء أسطورة «الأمل» في الوعي الجمعي المسيحي. في أحد الملصقات، يظهر بورتريه بشير
معلقاً فوق الأرض على خلفية زرقةٍ سماويةٍ داكنة، يمثّل «بروفايله» مفارقة حضوره وغيابه
معاً. فالصورة الظليلة البيضاء الفارغة تنبئنا بغيابه، مثلها مثل أثر قدمٍ على الأرض،
في حين تدل أنّ «البطل القومي» المزين بالعلم اللبناني قد خلّف علامةً بارزة في «سمائنا».
وتستنتج معاصري أن خسارة الرئيس مسألة، أمّا خسارة الزعيم العسكري المؤله فتلك مسألة
أخرى تستدعي نمطًا آخر من الملصقات. استولت حالة عامّة من الإحباط والوهن على مقاتلي
القوّات اللبنانية بعد فقدان مثلهم الأعلى في عام 1982. اقتضى الأمر حملةً إعلامية
شاملة لإقناعهم بأن ردّ فعلهم الخانع لن يرضي زعيمهم في وقت لا يزال فيه لبنانـ»هم»
يتعرض للمخاطر. في ملصق معدّل عن حملة ملصق التجنيد «أريدك أنت» الأميركي الشهير، تم
استبدال العمّ سام، وهو شخصية بطلٍ أميركي متخيلة، ببورتريه معبّر لبشير الجميّل. يخاطب
بشير الغاضب المقاتلين، بسبّابته المرفوغة ونظرته الثاقبة وعلم «القوّات اللبنانية»
وراءه: «لبناننا بحاجة إليك، أنت». أمّا الغيوم المستقرّة تحت صورته، فتوحي بأنه يتحدّث
إليهم من الحياة الأخرى، من موقع الشهيد البطل في عليائه بين الملائكة وسط السحاب،
أو كما يقول المسلمون يخاطب الناس «من فسيح جناته». يولّد الملصق نداءً بالغاً لا يمكن
تجنّبه. وقد غلّب الجمهور المسيحي في تعاطيه مع صورة بشير المنطق الكنسي الديني على
الواقع السياسي، وبالتالي غلب على صورته الترجيح الأهلي الخلاصي والشعبوي و{الطوباوي».
ورثة بشير
لطالما انشغل أهل الرأي العام في الحديث
عن ورثة بشير في الشارع المسيحي، عندما بدأ نديم نجل بشير العمل في السّياسة تمت المقارنة
بينه وبين والده، والسياسي الشاب يحاول من دون شك التماهي مع صورته والده، لكنه فشل
حتى الآن فهو يختلف في الجوهر والزمن والمنطق والنبرة. في الماضي، اعتبر سمير جعجع
نفسه وريث بشير الجميّل، فقد أبرز أكثر من أي زعيم ميلشياوي، نمطاً جديداً في مفهوم
القائد السياسي في لبنان، فهو بحسب بول عنداري «وجه قائد في وجه أمة» (بول عنداري
«الجبل حقيقة لا ترحم»)، ويروح عنداري يصفه بطريقة أقرب الى التعبد. في بداية الحرب،
اضطّر جعجع إلى التوقف عن دراسة الطبّ في الجامعة الأميركية في بيروت، وقد امتحن في
جامعة القديس يوسف ولكنه لم يمارس الطب إطلاقاً. شارك في المعارك والهزائم كافة التي
قامت بها الميليشيات المسيحية، من الحرب الداخلية في شمال لبنان، إلى معارك الشوف وزحلة
وشرق صيدا. ويعود رصيد نفوذه في «القوّات اللبنانيّة» إلى وجود ألف وخمسمئة مقاتل من
الشمال في صفوف القوّات، وهم مثله لم يكن بمستطاعهم العودة إلى قراهم التي يسيطر عليها
تيار المردة. كان «أمن المجتمع المسيحي» فوق كل اعتبار بالنسبة إلى جعجع، لم يكن مستغرباً
بروز ردود فعل حول شخصيته لدى المسيحيين اللبنانيين، فتوزعت وتأرجحت بين الإعجاب بحزمه
الثابت وغير المساوم، والخوف من إنسان يتزيّا بزي نبي ولكنه مدجّج بالسلاح.
فهو ابن عشيرة كثيرة العدد، لكنه ينتسب
إلى أحد أجبابها الفقيرة وإلى بيت يجمع الأب الذي خدم في الجيش مع الأم المؤمنة الورعة
التي تربي أبناءها على الكتاب المقدس. ولأنه أمضى طفولته وشبابه في عين الرمانة، أبرز
الضواحي البيروتية المسيحية، فإنه درج على خدمة القداس الكنسي في كنيسة سيد لورد في
عين الرمانة كما في كنيسة مارسابا في بشري إبان العطل الصيفية.
كان جعجع شديد التدين مجبولاً بالتاريخ
الماروني، يتماهي مع الرهبان الجنود والمزارعين الذين كانوا في أصل الطائفة. وكان قارئاً
مثابراً لإمانويل مونييه وهيغل. ولم يخف أبداً نفوره من «العائلات الكبرى» اللبنانية
كافة، بما فيها آل الجميل، وينظر إلى بشير على أنه طير يغرد خارج سربه، لكنه يبقى في
الأساس عضواً من آل الجميل.
يمكن تسمية ميشال عون «بشير الجميّل رقم
2» (فواز طرابلسي – تاريخ لبنان الحديث) لأن سياسته أصداء لسياسيات بشير في أكثر من
معنى: فهو رافد من روافد بشير ولجنة دراساته الاستراتيجية التي أنشأها قائد «القوات
اللبنانية» في صيف 1980، ممهداً الطريق إلى تسلمه السلطة بوسائل لم يكن دارياً بعد
على وجه الدقة بمسالكها.(...) في سعيه نحو وحدانية التمثيل المسيحي وفي وسائله العسكرية،
وفي التماهي الذي يقسمه بين «لبناني» و{مسيحي». كل برامجه مختصره في «الجيش هو الحل»،
وهو عنوان كتاب ألفه أحد معاونيه. ولكن فيما سعى بشير إلى إدراج الجيش في مشروع لتسلّم
السلطة بواسطة «القوّات اللبنانيّة»، لا شك في أن الجنرال حظي بتأييد شعبي وسط الجمهور
المسيحي خلال سنتي حكمه، وقد ضاق ذلك الجمهور ذرعاً بتجاوزات «القوّات اللبنانيّة»
والفساد في عهد أمين الجميّل، وهو جمهور، في كل الأحوال، تسهل تعبئته ضد الوجود السوري.
بل إن عون كسب عطف الكثير من المسلمين، وصولاً إلى تأييد حماسي أحياناً ممن عانى في
ظل الميليشيا والانتداب السوري ويتطلع إلى الجيش رمزاً لوحدة البلد. غير أن النزعة
الشعبوية التي كانت تحرك ميشال عون وحيدة الجانب واختزالية إلى حد كبير. فبعد تلك المهرجانات
الحماسية التي كانت تعقد في القصر الجمهوري في بعبدا، صار الرجل موضع طقوس وعبادة جدية
تصوره ملصقات ضخمة على شاكلة القديس جاورجيوس يصرع التنّين، وتعلن صحيفة «ليفي» (اليقظة)
الناطقة باسمه «أن الشعب ولد مذ ستين يوماً فقط (أي منذ بدأ جمهوره يلتف حول عون).
القاسم المشترك بين بشير الجميّل وسمير
جعجع وميشال عون اعتبارهم «قادة ملهمين»، انشأوا بنيتهم التحتية على الحرب المزمنة،
نسفوا كل شيء في هدف يسمونه «الخلاص». صارت لكل واحد من هؤلاء القادة صورة «المخلّص»
في لاوعي جمهورهم ومحازبيهم.
ليست هناك تعليقات