كمّيات الكافيين التي تناولتها طيلة النهار وحتّى ساعات المساء، كانت كفيلة بتطيير نصاب النوم من عيوني، وكانت كافية لإجباري على العودة من ا...
كمّيات الكافيين التي تناولتها طيلة النهار وحتّى
ساعات المساء، كانت كفيلة بتطيير نصاب النوم من عيوني، وكانت كافية لإجباري على العودة
من الفراش والتنقّل في أرجاء المنزل كلّما حاولت اللجوء إلى النوم.
أنظر من الشرفة إلى الشارع الفارغ إلا من سيّارة
مسرعة يخرق صوت محرّكها هدوء الليل النسبي، ثمّ لا يلبث أن تتبعه قهقهات الساهرين في
أحد مقاهي الرصيف التي بدأت تنتشر كالفطر ويزدحم بها الشارع.
هدوء الليل النسبي لم يدم طوي
لاً، فأصوات مولّدات
صهاريج المياه تمزّق سكون المكان، فما إن يسكت واحد منها حتّى يبدأ آخر بالانطلاق،
وتؤشّر جميعها إلى أنّ المياه كانت شحيحة هذه الليلة ولم تفِ بالمطلوب.
![]() |
لوحة لروز اشمير |
صعدتُ إلى سطح المبنى واطمأننت إلى منسوب المياه
في الخزّان وما إذا كان يكفي لسدّ حاجتنا الأساسيّة، وعدتُ بعدها للتنقّل في ارجاء
المنزل... أفتح «الفايسبوك»، فأرى التراشق الاجتماعي قد بلغ حدّاً متقدّماً من التواصل
والشتم والتحريض، أدير التلفزيون، أقلّب بين محطّاته التي لا تُعدّ ولا تُحصى، فأرى
أنّ لا شيء جديداً، الأشياء هي ذاتها، مملّة وباهتة ومكرّرة تشعر أنّك شاهدتها جميعها
من قبل...
أعود إلى الفراش، أنظر عبر النافذة إلى ضوء القمر
الذي بدأ يتكشّف من وراء الغيم. نسائم أيلول الباردة نسبيّاً تنبئ أنّ خريفاً آخر أصبح
على الأبواب، فرائحته بدأت تعبق في المكان.
شريط الأفكار يمرّ سريعاً، ويتنقّل سريعاً أيضاً،
لا رابط فيه سوى هذا السيل العارم من الكآبة التي تخيّم على حياتنا، حياة كيفما قلّبت
في سيرتها تراها مثقلة بالمآسي ولا تتذكّر منها سوى الحروب والأزمات وأيّهما كان أشدّ
وقعاً علينا من غيره.
البارحة بكت زوجتي مع أهالي العسكريين المختطفين
المفجوعين بفقدان أحبّتهم بعدما شاهدتهم على شاشات التلفزة. البارحة رائحة الدواليب
المحروقة كانت تملأ الشوارع التي كنّا نسلكها في طريقنا إلى تقديم واجب عزاء والتي
عادت وقُطعت. قطعها شبّان لا يُشبهون أهالي العسكريين ولا يمتّون إليهم بصلة.
من جديد إلى النافذة وإلى تلك الغيمة البيضاء
الجميلة والكبيرة التي افترشت سماء بنايتنا وأقامت فيها، حاجبة ضوء القمر الذي يحاول
جاهداً الافلات والإطلالة من خلفها.
الشريط يعاود دورانه، وأنا أحاول إعادة ترتيب
حياتنا المؤجّلة، أنفض عنها الغبار، أوضّبها، أرتّبها وأضعها في أدراج أحلامي، أنقلها
من عام إلى عام. الصور تمرّ سريعة، أتلمّسها، بعضها ترك أثراً طيّباً وبعضها ندوباً
والبعض الآخر طرفة وموقفاً، أتلمّس صورة أبي الذي غادرنا باكراً وتهلّ ذكراه قريباً،
أذكره والصمت يعلو محياه دائماً، أتساءل عن الأسماء والصور حين تغادر أماكنها، لكنّها
لا تبارحها أبداً.
مفعول الكافيين بدأ يتلاشى ومعه شريط الصور الذي
بدأ يتأرجح بين النعاس والنوم، لم يقطعه سوى صوت وائل ومازن ومداعباتهما وضحكاتهما
قائلَين: «يللا بابا رح نتأخّر عالمدرسة». فتحت عينيَّ، تذكّرت الشاعر محمود درويش
وكلماته التي راحت تداعب خيالي من «أنّ على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة».
ليست هناك تعليقات