بيل هايس
ترجمة ـ أحمد شافعي
بدأت كتابة هذه المقالة قبل خمس سنوات،
ثم توقفت. ولم يكن عجزي عن الانتهاء منها قد أدهشني في وقتها بوصفه مفارقة، بل بوصفه
دليلاً على أن ما كان داخلي ـ مهما تكن طبيعته: عصارة، أم موهبة، أم إرادة ـ قد زال.
ثم إن إكمالها كان على أية حال ليدحض الحجة الأساسية التي أحاول الوصول إليها، وهي
أن عدم الكتابة قد يكون جيداً للكتابة، بل قد يجعل من المرء كاتباً أفضل.
توقفت عن الكتابة العمدية. في يوم لا أستطيع
أن أعيِّنه بالتحديد بدأ عدم كتابتي، مثلما لا يستطيع أحد أن يعيِّن في أية لحظة غلبه
النوم: فأنت لا تعرف ذلك إلا بعد أن تصحو. ولا أنا شعرت في البداية أني نضبت. كانت
السطور تخطر لي ثم تهرب مني، مثلما يفقد كلب الاهتمام بتربيتك له ويهتم بيد أخرى. هذا
يحدث من الطرفين. فلما توقفت عن الاهتمام بالسطور، توقفت السطور تدريجياً عن المجيء.
وقبل أن أنتبه، كانت سنتان قد مرتا بلا كلمة تقريباً.
لم أفتقدها، ومع ذلك كنت أشعر أن شيئاً
ما مفقوداً: ربما أقول إنه طيف صوت. لقد كنت أسعى وراء الكتابة منذ طفولتي، ونشرت أشياء
في أماكن كثيرة، وألَّفت ثلاثة كتب كاملة. كنت أدنو من الخمسين، فكان غياب التوقعات
ومواعيد التسليم للمرة الأولى منذ عقود أمراً لطيفاً من ناحية، ومزعجاً أيضا من ناحية.
هل للمرء أن يعتبر نفسه كاتباً وما يقوم به بالفعل هو عدم الكتابة، يوماً بعد يوم؟
لم أكذب قط. حينما كان يسألني أحد كنت أقول
إنني لا أعمل على شيء، وأقول لا، ما من شيء في المحرقة الخلفية، ولا شيء في الفرن،
ولا شيء في مرحلة الطهو، أو التقطير، أو النقع؟ (وما كل هذه التعبيرات المطبخية أصلاً؟).
ثم إنني لم أكن جائعاً.
في حفلة ذات ليلة، كان كل شاب ذي مظهر فني
وشارب كشارب إيرول فلين يحذرني من ألا أطيل فترة الراحة أكثر مما ينبغي. قال أحدهم:
"إذا ذهبتْ فإنه ذهاب بلا رجعة. أنا توقفت سنة 1999، والآن لا أستطيع أن أكتب
بياناً صحافياً إلا بطلوع الروح".
لا أستطيع أن أقول إن ذلك لم يفزعني. ماذا
لو لم أستطع فعلاً أن أكتب أو أنشر من جديد؟
قلت لنفسي، لن أعدم في هذه الحالة رفقة
جيدة. فبعد "سر جو غولد" لم ينشر جوزيف ميتشل شيئاً جديداً طوال الإحدى وثلاثين
سنة الباقية من حياته. وإي إم فورستر لم ينشر روايات بين "طريق إلى الهند"
ووفاته بعد 46 سنة. وهناك من بعد ذلك سكان قاعة الشهرة: جيه دي سالنغر الذي لم ينشر
شيئا طوال النصف الثاني من حياته، وهاربر لي التي يكفي صمتها في ما بعد الطائر الطنان
لإعلانها القديسة نصيرة اللافنانين من كل صنف ولون.
لكن لنكن واقعيين: أنا لست كهؤلاء، وعدم
الكتابة ليس وسيلة لكسب الرزق. لذلك حصلت على وظيفة (لا علاقة لها بالكتابة) ثم انتقلت
إلى مدينة جديدة، وعثرت على وظيفة أخرى لها علاقة هذه المرة بتمويل المنظمات غير الربحية،
وأخيراً انضممت إلى برنامج يؤهلني لأن أصبح مدرب لياقة بدنية محترفاً. كانت المحاضرات
تجري في قبو قاعة جمنازيوم. واشتركت في البرنامج بهدف التسلية، ومن الناحية العملية،
بهدف أن يكون بمثابة خطة بديلة لكسب الرزق في حالة فصلي من العمل (وهو احتمال غير بعيد).
والمفارقة أني عثرت هناك على طريق الرجوع إلى التفرغ للكتابة، وعلى إطار للتقدم في
ذلك السبيل، ووجدت التصديق لما كنت أفعله بالغريزة.
تدريبات اللياقة البدنية اليوم تقوم بصفة
عامة على ستة مفاهيم أساسية (برغم أنها قد تحمل أسماء مختلفة بحسب الوكالة المتخصصة
في تقديمها) وجدت لكل واحد فيها مثيله في الكتابة.
أولا: هناك مبدأ التحديد. وينص هذا المبدأ
على أن ما تتدرب من أجله هو ما تحصل عليه: فلو أن ما تريده هو القوة، تدرب على القوة.
باختصار، كن محددا. وهذا أول دروس الكتابة، صح؟ الأمر كله في التفاصيل.
بعد ذلك: مبدأ الحمولة الزائدة، أي تدريب
جزء من الجسم فوق مستوى طاقته المعتادة. عليك أن تعطي لجسمك دافعا دائما لكي لا يعتاد
الجسم على المهمة الموكولة إليه، وإلا فليس لك أن تتوقع تغييرا. وكذلك مع الكتابة:
ادفع نفسك، جرِّب أشياء جديدة، وذلك ما أسميه بالتقاطع بين التدريب والإبداع.
يفضي بنا هذا إلى المبدأ الثالث: مبدأ التقدم.
ما أن تبرع في مهام جديد، واصل التقدم. لا تعلق مكانك: لا عند فقرة، ولا عند تمرين.
وإن فعلت ذلك، هذا سيفضي بك إلى السكون. فعندما لا يتلقى الجسم تكليفات بمهام جديدة،
فإنه يركن إلى السكون وليس ذلك بالمكان الذي يطيب لأحد الوجود فيه. فها هنا يصبح كل
شيء مسطحا. لذلك، لا ترتح هنا أكثر مما ينبغي، فذلك سوف يظهر على الصفاحة أوضح مما
يظهر على المرآة.
وحينما يذهب الحافز، تنعكس المكتسبات: فاستعمل
حوافزك أو اخسر مكاسبك، وهذا هو مبدأ الانعكاس. تماما كما أن الحركة في أي اتجاه هي
خير من عدم الحركة على الإطلاق، فلتلجأ إلى المشي إذا صعب عليك الانضمام لدرس الجري
ـ لا بد أن يجد المرء شيئا ما يفعله، بل أي شيء، ليبقي محرّك الإبداع دائرا. وقد حدث
بعد أن توقفت عن الكتابة مثلا أن اشتريت كاميرا وبدأت ألتقط صورا بدلا من الكتابة.
وهناك أخيرا مبدأ الراحة، وذلك هو المبدأ
الذي وجدت فيه عزاء من نوع خاص. فلكي تحصل على مكتسبات اللياقة، سواء هي القوة أم السرعة
أم التحمل أو أي غرض تريده (راجع مبدأ التحديد)، عليك أن تعطي نفسك وقتا وفيرا للراحة.
لقد كنت أعمل بعيدا عن الكتابة طوال عملي
في الكتابة، ومن ثم لم يكن ذلك المبدأ جديدا بالنسبة لي. والإفراط في التمرين بدون
الحصول على راحات كافية قد يؤدي إلى إصابات، وإنهاك مزمن، وألم. ولكنني لم أكن لاحظت
من قبل هذا المبدأ ساريا بالنسبة للكتابة. ومثلما يحتاج الجسم للراحة، كذلك تحتاج إليها
المقالة، والقصة، والفصل، والقصيدة، والكتاب، بل حتى الصفحة الواحدة.
في بعض الحالات، لا تكون الكتابة وحدها
هي التي تحتاج للراحة القصيرة بل الكاتب أيضا. وأنا هنا أنقل عن دليل التدريب الصادر
عن المجلس الوطني للقوة واللياقة، وهو من الكتب الدراسية التي كنا نستخدمها في برنامج
التدريب الذي انضممت إليه. هنا يُعرَّف الإنهاك بـ "العجز عن الأداء برغم الحوافز
الغذائية المستمرة (وما قد يطلق عليه لاعب كمال الأجسام العجز عن التمرين، هو ما قد
نسميه نحن نضوب الكاتب).
ويمضي الدليل فيقول إنه "بازدياد معدل
الإنهاك في وحدة المحرك، يصبح التأثير أكبر وأوضح، مما يؤدي إلى تناقص الأداء بما يتناسب
مع مستوى الإنهاك. وفترات الراحة تمكِّن النسيج العامل من اجتناب الإنهاك لفترات زمنية
طويلة. عبر فترات الراحة، يتسنى للنسيج العضي أن يعيد بناء احتياطات الطاقة لديه، ويصلح
أي تلف ناجم عن إنتاج القوة، ويسترد مستويات ما قبل الإجهاد استردادا كاملا".
الترجمة: لا تعمل وأنت تتألم، لن يزيدك
هذا إلا ألماً. أمهل نفسك وقتاً كافياً لتجديد الطاقة.
كم ينبغي أن تطول هذه الفترة؟ ما يصدق على
النسيج العضلي يصدق على الأنسجة الإبداعية. وقاعدتي الذهبية في التمرين هي 2 إلى
1: في مقابل كل يومين من الأعمال القوية، يوم للراحة. غير أنه في "حالات المستويات
العليا من المجهود"، وبحسب الدليل الذي بين يدي، قد تستغرق الراحة التامة وقتا
أطول. وهذا ما حدث في حالتي. كنت أحتاج إلى راحة طويلة، طويلة للغاية.
ثم استيقظت ذات صباح، وقد خطر لي سطر. ثم
لم ينسرب بمرور الوقت بل مكث. واتبعته كأنه طريق. وساقني إلى غيره، وإلى غيره، وسرعان
ما بدأت القطع تصطف في رأسي، اصطفاف سيارات الأجرة الخاملة بجوار الرصيف، متأهبة للذهاب
إلى حيثما شئت اصطحابها. ولم يكن اصطفاف الصفحات بتلك الطريقة هو الذي جعلني أدرك أن
فترة عدم الكتابة انتهت بالنسبة لي. بل تبدل المنظور.
صرت أرى أن الكتابة لا تقاس بالصفحات مثلما
لا يقاس الكاتب بحجم النشر. فلكي يكون المرء كاتبا عليه أن يلتزم تجاه المجهود الشاق،
مثلما يلتزم المرء (لا سيما في كبره) تجاه الحفاظ على لياقته وصحته طالما أمكنه أن
يجري. وهذا يعني بالنسبة لي أن يبقى المرء فاعلا من الناحيتين البدنية والإبداعية،
ويبقى على فضوله واهتمامه بتعلم مهارات جديدة (وفور انتهائي من كتابة هذا المقال على
سبيل المثال سأذهب إلى آخر دروس الغوص التي أتلقاها لأصبح غواصا مؤهلا)، ويعطي نفسه
بالطبع الكثير من الوقت للراحة، ولتكن أياما أو حتى أسابيع. وأعرف أن الكاتب الذي بداخلي،
شأن الرياضي الذي بداخلي، سيكون بهذه الطريقة أفضل حالا.
*كاتب المقال هو مؤلف كتاب "خبيرالتشريح:
قصة تشريح غراي الحقيقية" و"شياطين المنام: سيرة مؤرق" وكان في وقته
من أكثر الكتب مبيعا في أمريكا"، و"الجالونات الخمس: تاريخ شخصي وطبيعي للدم".
*عن نيويورك تايمز