"أين أضع روحيّ، كي لا تلامس روحكِ..." راينر ماريا ريلكه نصحني صديقي الشاعر اللبناني بالذهاب إلى وسط المدينة أو Downtown أو سوليد...
"أين أضع روحيّ،
كي لا تلامس روحكِ..."
راينر ماريا ريلكه
نصحني صديقي الشاعر اللبناني بالذهاب إلى وسط المدينة أو Downtown أو سوليدير أو جامع الحريري، وهذه هي كلّها مسميّات حديثة لأحدّ أحياء بيروت القديمة، بل إنّه كان قلبها النابض ذات يوم. قال لي إنّ ذهبت فتابع السير نحو "الجمّيزة" أيضاً، وأسأل عن "قهوة القزاز". ولو كنت غاوياً لما اتبعت نصيحته، فالشاعر عادةً، أو الشاعر الحقيقيّ بصورة أدّق، هو من يقود نفسه إلى التهلكة أوّلاً، فما الذي سيفعله إذاً بالآخر الغريب؟
لكنني مضيت إلى الحيّ القديم سيراً، لاختبر صلابة قدميّ، وعدت منه سيراً إلى شارع الحمراء، محطتي الأولى عندما قدمت إلى بيروت قبل ثلاثين عاماً وأقمت في فندق الحمراء ثلاث ليال.
وكنت أعلم قبل الوصول باّن خط التماس بات الآن خطّاً وهمياً، مثلما هو جدار برلين الآن، حيث أقيم، لكنه مازال ماثلاً في الرؤوس على حدّ قول الألمان. آنذاك كان هذا الخطّ يشكّل منطقة محرمّة وعازلاً مميتاً، لن يخترقه إلا من طلب الشهادة أو الخيانة. فكنت أتسكّع وحيداً عبر "وادي أبو جميل" فالفنادق الكبرى، فالبلد، فحيّ الزيتونة، وكأنني أغرف من ملامح بيروت وشواهدها زاديّ ومتاع رحلتي لمدة ثلاثين عاماً. وذات يوم نبهتني سيّدة بعدما رأتني أسير وسط الشارع في محلّة الفنادق الكبرى، حيث دارت أشرس معارك الحرب الأهلية، وأشدّها دمويّة، قبل أن "تتحرر" في هجوم ثان مضاد شنته قوات "الفصائل الوطنية"، اللبنانية والفلسطينية؛ أشارت السيّدة إلى الأعلى وقالت إنّ عليّ السير في محاذاة الجدران لئلا يرصدني القنّاص من أحد أبراج بيروت الشرقية.
لم أكن أعرف من أيّ نقطة أو مفرق قطعت خطّ التماس اليوم، لكنني شعرت به وكأنه يسير خفية معي ويرافقني مثّل ظلّي، فكنت أرفع رأسي بين الحين والأخر لأشخصّ موضع القنّاص، قاتلي المفترض. خطّ التماس! يالها من مفردة مرهفة وقاسية فتّاكة في آن واحد، فهي لمسة عطف ومسّ الجنون، بلّ مسّ التيّار الكهربائي القاتل، والنقطة التي تفصل بين الأجساد وأرواحها، وحتّى بين الأموات، قسراً وضغينة وخوفاً. وكم كنت أقبض علي نفسي آنذاك متلبساً في لقاء امرأة غريبة من الجانب الآخر، معسكر "الأعداء" التابع للإمبرالية العالمية والرجعية العربية وحليفتها الصهيونية.
خطّ التماس، الحاجز الإيديولوجي الجينيّ الذي حال دون اختلاط العروق والطوائف والأديان والجينات الوراثية وغير الوراثية. فأصبحت بيروت أسطورةً غير مكتملة الولادة، ليست الأسطورة المجهضة بالضرورة، بل حالة الولادة قبل أوان الوضع. فهي المنحوتة التي انكسر فيها أزميل النحّات ثم تحطمّ النحّات نفسه، فبقيت مجرد Torso . فمن ذا الذي يجرؤ إذاً على إكمال من خلفه مايكل أنجلو ناقصاً؟
واكتشفت بمحض الصدفة أنّ قانوناً سريّاً لم يدوّن نصّاً، وهو القانون الوحيد الذي طبّقت روحه تطبيقاً صارماً، ولم تشذّ عنه إلا القلائل من النساء، ألا وهو: قانون حظر "القبح". فأخضع الكثير من النساء أجسادهن إلى مبضع الجّراح، فصار ينحت وجوههن وصدورهن وفقاً للأنموذج الإغريقي الأفلاطوني للجمال المرهف الهشّ، وكلّ من تجاهر "بقبحها" قد تجعل نفسها عرضة للتندر من خلقة الله الطبيعية التي لم تسمها يد بشرية، أو مشرطها، فوق مشرحة الجمال. ولعلّ انعدام التناسب بين الملامح الطبيعية للرجال وتقاطيع وجوههم المتوسطية وقاماتهم المربوعة وأيديهم الكثيفة الشعر والنساء الممشوقات القوام الناعمات هو الذي جعلني أشكك في القيمة الحقيقية لهذا المظهر الجمالي.
كان القادة اليساريون للمقاومة الفلسطينية في بيروت يرددون دائماً بأنّ هدفهم هو الحيلولة دون أن تتحول بيروت إلى هونغ كونغ ثانية، هونغ كونغ الشرق الأوسط، أي إلى سوق مالية تجارية صرف وممر لغسل رؤوس الأموال. لكن ما الذي كان سيحدث لو أن بيروت تحوّلت حقّاً إلى هونغ كونغ العالم العربي أو نيويوركه، بدلاً من مقبرة أحلامه؟ أليست الاشتراكية التي كان ينادي بها هؤلاء اليساريون هي الطريق الأطول لبلوغ الرسمالية؟ ألم يتنافس أقطاب الشيوعية للحاق بركب اقتصاد السوق الهونغكونغي؟ وما الذي بقي أصلاً من اشتراكية الاشتراكيين بما فيهم الصينيون الذي مزجوا اشتراكيتهم الماوية الفلاحية برأسمالية السوق والبورصات المالية؟
يبدو أن لكلّ شيء في العالم خصائصه وقواه الكامنة وقوانينه الذاتية، بما في ذلك سوق المال الملغز والمخاتل، وكأن الإنسان خلق كي يتحايل على هذه القوانين عملاً بمبدأ البقاء للأصلح أو التقية، عسى أن تفرج ذات يوم. إنّها الداروينية الاجتماعية بعينها، أو التطبيق العملي لنظرية مالتوس حول التناسب بين المنتوج الغذائي وعدد السكّان. فكم كانت دهشتي كبيرة وأنا أرى أهلي وأبناء عمومتي الأحياء الذين شهدوا الحروب والحصارات كلّها في العراق وبقيت أجسادهم قويّة مفتولة وأصبحت جوههم مثل وجوه الذئاب، بفعل غريزة حبّ البقاء ، فتآلفوا قسراً مع أنظمة القتل والحرب والحصار، وهضموا الأطعمة المخلوطة بالإسمنت والجصّ وذروق الجرذان، فأصبحوا همّ أنفسهم تماثيل ومنحوتات من المواد المسلّحة.
وهكذا رأيت بيروت للمرّة الثانية: جبالاً من الإسمنت والحديد، وعمارات عملاقة خليجية الطابع، محت بلا رحمة صور القتلى والشهداء. فاختفت كتابات المقاتلين زماناً وشعاراتهم وأختامهم التي طبعوها على الجدران بخطوط متعرّجة عريضة: أبو الموت وأبو الجماجم وأبو الهول. فكم أبٍ للموت والجماجم والهول يا بيروت مات! بل مازال هؤلاء يموتون اليوم بين ظهرانينا دون أن نشعر ربّما بألم فقدانهم. وتذكرت فجأةً كابوس الأمس الذي أفزعني، فقفزت من فراشي أتلمس الطريق إلى الضوء وكأس الماء. فقد حلمت بسيّدة عجوز كانت تنتظر موتها، والسيّارة التي ستقلّ جثمانها إلى المقبرة، وكان ابنها، صديقيّ في الحلم الكابوس، الذي بدا جسده ضامراً منكمشاً، يقف إلى جانبها. وبعد حين تحركت ثلاث سيّارات تحمل توابيت بيضاء لها شكل القباب الصغيرة المدببة. فاستغربت أن تكون هذه السيّارات خُصصت ثلاثتها لتقلّ جثمان شخص واحد. ولعلّها كانت مخصصة لنا نحن الثلاثة، وفكرت في الوقت ذاته في أن يكون هذا طقس دفن لبنانياً. فقالت السيّدة المحتضرة: ها هي السيّارات قد تحركت!
فاعترتني رجفة خوف وكأنني أنا الذي كنت أحتضر، وتجمّد الدم في عروقي عندما نظرت إلى السيدة الراحلة وابنها الذي لم يقلّ موتاً عنها، فصفقت بيدي لأشعر بوجودي ثم صرخت صرخة لاهبة أيقظتني من كابوسي. إذاً أنا هنا في بيروت الموحّدة! وها هو البحر أسمع صراخه، وهاهم القتلى والشهداء!
لكن أين ذهبت صورهم وأساطيرهم؟ وأين اختفت أحلامهم وأوهامهم وضحكاتهم؟
إنّهم رحلوا ولم يخلّفوا سوى ذكرى ملامحهم المتداخلة ببعضها البعض وكأنهم شهيد واحد، وشذراتٍ من أقوالهم وأفعالهم عندما كانوا "يسشورون" شعورهم الطويلة المدهونة ويرتدون سراويل الجينز الأمريكية التي لم يكن ينقص أمريكيتها سوى ختم الرئيس جيمي كارتر. وهاهي المدينة، الساحرة فعلاً، وقد طوت صفحتهم حتّى إشعار آخر، وأشرعت نوافذها على رياح جديدة وواستثمارات مالية. وأصبحت هذه الحاضرة اللازمنية في أشدّ الحاجة إلى ضبط إيقاعها ومواعيدها، فاستوردت الساعات السويسرية المرهفة الدقّة، ليحلّ الزمنّ الساعاتيّ محل زمنها الرملي الذي ضبطه طوائف عديدة من المتمردين والثوّار والمجانين والسكارى واليساريين المتطرفيين والوجوديين.
كانت المدينة المشطورة نصفين آنذاك مركزاً للخدمات الاستهلاكية، فضعضعته الحرب ثم سرعان ما اختفى ذلك الطابع الخدمي، ليعود الآن، وبقوّة، استهلاكاً أحادي الجانب، استهلاكاً معولماً، بمعنى استهلك ثم أرمي في القمامة أو البحر، ليصبح سيّداً للمدينة. وكلّ من لم يكن سريعاً متعجلاً في استهلاكه يشعر لا محال بأنّ شيئاً ما خطيراً قد فاته، فلم يمسّ جسده أو معدته. واختفى الطقس المشرقي، وحتى الثوريّ أحياناً، الذي كان يحيط بالسلع ومواد الاستهلاك – هل نحتسي مثلاً الفودكا أم الويسكي؟- وجاءت السلعة المادة المحض رسول العولمة.
قلب البلد
عندما تدخل مركز المدينة الذي رمم حديثاً من قبل شركات عملاقة وفي مقدمتها سوليدير ينتابك هاجس غريب وهو أنّك لا تطأ مركز بيروت وحدها، إنما مراكز المدن العربية كلّها، وقد اجتمعت هنا، في هذا القلب الفتيّ. فبيروت هي المحور والتاج والذروة، وهي نبض قلب مدننا العربية، ومزار لم يرقد فيه قديّس، لكنّه مع ذلك مقدّس؛ فترابها مقدّس وحجرها وماؤها وهواؤها، وإنّ شحّ، فهو مقدس أيضاً.
بيد أن قلب المدينة بدا لي في النظرة الثانية خافت النبضات، بعد أن أجريت له عملية إنعاش وتبديل صمّامات. فجاءت العملية الجراحية بمثابة تجميل داخلي، وليس علاجاً لداء وبيل أصاب الشرايين. وأوقف الأمر برمته على الشكل، فتشابهت البنايات والبضائع والملابس والحانات والمقاهي، بل تشابه الناس أنفسهم، حـتّى في سلوكهم الخارجي، لدرجة أنّ اللغة الإنجليزية ثم الفرنسية أصبحتا الواسطة الوحيدة المنتشرة والشفرة التي تستقطب أهواء الجميع. وبدت الانفعالات الإنسانية نفسها معولمةً، أي أنّ معالم الارتياح والاستياء هي نفسها التي تراها في مدن العالم كلّها، وأضحى كلّ ما هو دفين جينيّ يوحي بغريزة شرقية عربية لا يفصح عنها حتّى اللسان.
فالنظرات متلهفة، مستوفزة، مشحونة بالتوتر والمحذور العربي الصرف، بل إنّ العيون تكاد تخرّج من محاجرها كبتاً وتعطّشاً، لكن الوعاء المتفرنس، ثم المتأمرك، جعلها مجرد أدوات إرسال، وشفرات مبطّنة تمرّ عبر قنوات "كوتشي" و "فرساتشي" و "دولتشي أي غابانا"؛ أمّ يا ترى أنّ العرف الاجتماعي هو الذي خلق خطّ اللاتماس بين الناس، لبنانين وعرباً؟وهل يمكن أصلاً أن أخاطب سيدّة خليجية ضربت حول وجهها نقاباً أسود سميكاً في قيظ بيروت ورطوبتها النسبية العالية؟ فهل أقول لها كيف حالك يا "حرمة"؟
كان من المستحيل قبل ثلاثة عقود أن أفكرّ مجرد تفكير في هذه "التحية" المهينة، وكيف يمكن التفكير فيها آنذاك في زمن لم يكن يعرف البرقع والنقاب قطّ؟ والآن حدث الصدام الحضاري المعلوم في أشدّ نقاط التماس حسّاسية بين آخر صرخات الموضة الغربية وآخر الأقنعة العربية القادمة من بطون الصحارى. دشاديش وعقال وبراقع وأنقبة ونوافذ وجوه صينية الصنع، وعالية الجودة مثلما يقال، باتت سلاحاً لمقارعة الزحف الشامل لمظاهر الحداثة الماضية، بمعنى تعولّم يا هذا لكن بحذر شديد! فالثبات والصبر والانكفاء على الذات هي الاستراتيجتات التي وصفها فريدريش بالقدرية الروسية، عندما كان الجنود الروس يدفنون رؤوسهم في الثلج لتمضية الشتاء في مواضع القتال، نعم هذه هي استراتيجية التقيّة الحديثة، الخليجية، التي ستجعل مصممي الأزياء يتراجعون أمام زحف القناع في نهاية المطاف، ويستجيبون لنزعة التصحّر، فنرى أخيراً دشاديش وبراقع من تصميم توم فورد وجورجي أرماني وجيل ساندر.
ما أثار انتباهي أوّل الأمر هو أنّ منطقة وسط البلد المرممة حديثاً كان معظمها مخصصاً للمشاة، فلم يسمح بدخول السيّارات. وهي من المناطق النادرة في بيروت التي تتيح للمرء أن يجذب فيها نفساً خالياً من عادم السيّارات ومخلفاتها. ثمّ إنّ هذا المربع التجاري كان مطوقاً بالعوارض والموانع الحديدية ويحرسه الجنود، فبدا الهدوء مفروضاً بقوّة السلاح. وخيل إليّ وكأن الحرّاس وقفوا لحماية المحلات التجارية التي لا ترى لها مثيلاً إلا في شوارع باريس ولندن وبرلين.
كان الشعار هنا هو أن ترَى وتُرى، وكلّما ارتفع سعر الفستان وبرزت ماركته ازدادت صاحبته ترفعاً وزهواً، كما لو أنها عارضة ترجلت للتوّ من منصّة Haute Couture. وقد يكون هذا الحيّ التجاري الأكثر كثافةً من حيث المعروضات الكمالية مما يمكن أن يضمه أيّ حيّ تجاريّ مشابه في لندن وباريس ونيويورك؛ لأن متاجر الأزياء الفخمة في هذه المدن تكون موزعة عادةً على شوارع تمتد أحياناً مسافة كيلومترات مثل "أوكسفورد ستريت" في لندن و"فيفث أفنيو" في منهاتن و"شانزليزيه" في باريس و"كورفورستندام" في برلين، ولعّله الأكثر حيويّة أيضاً من حيث الكثافة البشرية.
غير أننا نشهد الآن فصل التبضّع في موسم الصيف، إذ قدم ما يقرب من مليون سائح، جلّهم من العرب، ومليون عائد لبنانيّ، هم سوّاح أيضاً، دليلاً على الاستقرار النسبي الذي يشهده لبنان بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة. وتوكّد هذا الانتعاش مركبات الدفع الرباعيّ الضخمة التي جعلت هواء الصيف المتخم بالطوبة سحباً سوداء من سموم المحروقات.
وحالما تغادر المربّع التجاري تجد نفسك وكأنك تحررت دفعة واحدة من "عقوبة" الهدوء المسلّح، لتدخل حالاً في سمفونية الصخب الرباعيّة الدفع، لدرجة يستحيل معها الإصغاء أو الهرب أو حتى الالتفات، لتبعد صيوان الأذن نحو وجهة يخفّ فيها صخب المحرقات وزعيق منبهاتها. وإذا كان "غوتشي" و "أرماني" يشيران قبل قليل إلى علو شأن الطبقة الاجتماعية، فإن المنبّه ناب هنا عن الدور الطبقي، فالنظرة إليك يحددها عدد دفعات المحرّك، ثلاثيةً أو رباعيةً أو خماسية. فما عليك حينئذ إلا وأن تتخلى قسراً عن كرامتك الإنسانية وتضعها تحت تصرف سائقيّ السيارات الرباعية الدفع، فينشأ لديك شعور مقلق وهو أنّ هؤلاء يتصرفون وكأنّ لهم الحقّ في قتلك مادمت راجلاً. فكلّ محاولة لقطع الطريق تتحول إلى مجازفة خطيرة، ولا ينفع أحياناً حتى اللجوء إلى الرصيف الضيّق أصلاً والمهدم والمأهول. ولعلّ وباء الصخب والتزمير، بل الجائحة العربية الحقيقية، حلّ محلّ ذلك الهاجس الغريب الذي سكن مواطنيّ بيروت سنوات الحرب الأهلية، وهو انعدام الثقة المطلق بالسكينة والهدوء، لأن الهدوء كان يشكّل دائماً المرحلة التي تسبق اندلاع الاشتباكات المسلّحة مباشرة. وكان غالباً ما يتبرع أحد المحسنين فيطلق الرصاص في الفضاء، ليحررنا من الهدنة الرهيبة، فتغمض الجفون أخيراً؛ فزعيق المنبهات جاء إذاً تعويضاً عن أزيز الرصاص. ولابد حينئذ من التعليق بأنّ سيارة فلان الرباعية قد مرّت من هنا. وربما يكون التزمير ظاهرة من ظواهر العصاب الجماعي، Post War Syndrome ، أي محاكاة لعلعة الرصاص، تنفيساً عن المكبوت الاجتماعي والطاقات الحبيسة بأكثر الوسائل سهولةً ورخصاً. فمبدأ تجاوز الآخر، والتفكير حتى في سحقه، لم يقتصر على البيروتيين وحدهم، إنما أصبح سمةً لعصرنا الراهن، عصر الرأسمالية المفترسة، لكنه يتخّذ لدى الغربيين أبعاداً وقنوات تصريف أخرى غير الشوارع.
وبدا لي كما لو أن البيروتيّ استوطن الشارع نفسه، ولم يعد يشكّل له سبيلاً للوصول، بل غاية في حدّ ذاتها، فهو مجبول عليه. وأصبح الشارع مرآة اجتماعية عاكسة لجميع الظواهر، وعامل كشف، أو فضح، لا يسمح بالمستور مهما كثرت براقعه. واستحالت الأرصفة إلى نقاط لمراقبة حركة الشارع ونبضه، وإلى قمرات صغيرة يلجأ إليها الناس هرباً من لهيب الهاجرة، فبات النزول إلى نهر الشارع لا مناص منه. وبما أنّ نظام صفّ السيّارات ينتمي إلى أشدّ نظم الصفّ المعروفة غرابةً، فإن المرء يشعر كما لو أنه القي به في ساحة مجمع عملاق لخردة الحديد، مجمّع عشوائي خال من الرقابة، يطرح فيه المرء مخلفاته ثمّ ينصرف. وسألت نفسي كيف يمكن أن تمرّ سيدة تقود عربة أطفال فوق هذه الأرصفة التي لا ترصف شيئاً في حقيقة الأمر؟
وانتبهت أيضاً إلى أنني خلال تجوالي في المدينة طيلة عشرة أيّام لم أر سوى القليل من الأطفال! أم أنّ منطقة الحمرا التي أقمت فيها هي مجرد سوق تجارية، وليس مكاناً للسكنى؟ أو ربّما تراجعت معدلات الإنجاب بفعل الحروب والتحضّر وتكاليف الحياة المدنية؟ وتدلل ظاهرة اختفاء الأطفال على فقدان ملاعبهم أيضاً. إذ أنني لم أر ملعب أطفال واحداً في جميع الشوارع والأحياء التي مررت بها.
محلة الفاكهاني
عندما قَدِمت إلى بيروت قبل ثلاثين عاماً ونيف كانت محلة الفاكهاني محطتي الثانية بعد شارع الحمرا. وكنت اشتغل آنذاك في قسم السينما التابع "للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" عارضاً للأفلام، فكنت أطوف بآلة عرض الأفلام الوثائقية والروائية التي كنت استعيرها من المراكز الثقافية، وبالأخصّ المركز الثقافي السوفيتي، وأعرض الأفلام لجمهور المخيمات الفسطينية عادةً، وأحياناً أعرض الأفلام في صالة الطابق السادس من مبنى "الإعلام المركزي" التابع للجبهة الديمقراطية في محلّة الفاكهاني. وأتاح لي هذه العمل التعرّف على عدد من الكتّاب والفنانين العرب واللبنانين والفلسطينيين. وبدأت في تلك الفترة أنشر قصائدي وقصصي القصيرة في مجلة "الحريّة" وجريدة "القاعدة" و "صوت الشغيلة".واليوم عدت إلى هذا المكان الأليف الذي أشعر بحنين غامض إليه وإلى معالمه التي اندثر معظمها.
لا حواجز مسلحةً هنا ولا مفارز خلف جسر الكولا، حيث تبدأ "جمهورية الفاكهاني". فقد اختفى السلاح والمسلحون واختفى معهم ذلك التركيب الاجتماعي والثقافي العجيب المتماسك والمستقل بذاته. فكانت مساحة الحريّة المتاحة لنا واسعة للغاية، فلم نكن نخشى أحداً، بل إننا كنّا فعلاَ أحراراً ومتمردين، وكنّا من فرط اعتزازنا بحريتنا واستقلالنا لا نلقي التحيّة أحياناً على المسوؤلين الكبار، وننتقدهم علناً. ولا أعتقد بأنّ تاريخ العرب الحديث شهد ظاهرةً تماثل تلك الثورة الثقافية التي تأسست في بيروت الغربية والتي شكّلت خطراً فعلياً على منظومة كاملة من القيم المتخلفة الراسخة في المجمتع العربي، فكتب عليها أن تنتهي بسلاح إسرائيلي ودعم عربيّ غربيّ؛ ظاهرة كانت تشكّل بديلاً إخلاقياً إنسانياً، متحرراً ومتضامناً مع قوى الخلق والإبداع والمعرفة. وكانت شروط حياتنا قاسية إلى حدّ بعيد، ومقاييسنا الأخلاقية لا تقلّ عنها قسوةً، فكان كلّ من يتناول أكثر من وجبة طعام في اليوم يعتبر "خائناً" للثورة والثوّار. كنّا متصوفيين ثوّاراً متيمنين بحكمة تشي غيفارا: "لو خُيرت بين أن أحمل زمزمية ماء أو جعبة رصاص، لاخترت الجعبة، لأنها أشد ثقلاً وأكبر أهمية". وكانت كراهيتنا للإمبريالية والأنظمة العربية وإسرئيل كراهيةً مطلقة لا تقبل المساومة قطّ، فهذه الكيانات كانت تشكّل في نظرنا وحدةً كليّةً قائمةً على القتل والعدوان والتدمير. هكذا كانت الأشياء والمفاهيم واضحة بسيطة آنذاك، وكنّا مؤمنين بها بقلوبنا وعواطفنا وعقولنا أيضاً.
وهاهي حانة التوليدو، حيث كنت ألتقي زماناً بالشعراء سعدي يوسف وجليل حيدر وشريف الربيعي وآدم حاتم وعلى فودة وغيلان. وقد شهدت هذه الحانة الصغيرة ولادة ظاهرة ثقافية جديدة في الأدب العربي الحديث، وهي ظاهرة أدباء الرصيف التي لم يتعرّض لها النقد بصورة وافية. وتلك هي مقهى أبي علي، "كنافة أبو علي" التي كنّا نجتمع فيها ظهراً، لنكتب قصصنا وقصائدنا. وأتذكّر ذات مرّة أن بعثر غيلان الحوشي أوراقه على طاولة الرخام الطويلة، وأمضى ساعات طويلة ينتظر الوحي دون أن يطلب شيئاً. وأخيراً تقدم منه أبو عليّ بهدوء، ثمّ خاطبه بلهجة بالغة التهذيب: "شو خيي غيلان؟ عوّقت معاك القصيدة؟" وهي الصياغة الدبلوماسية للتوصية على طلب أو مغادرة المقهى. وحدث ذات مرّة أن ألقت قوات الأمن الفلسطينية القبض على غيلان، لأنّه كان يحمل رمّانة يدوية، بل زعموا أنّه هدد بها سعدي يوسف وآخرين. فوضع في سجن "أمن السبعطعش" بعد أن صودرت منه ممتلكاته، وهي عبارة عن قنبلة يدوية وحزام جلد. وفي الجانب الآخر من الشارع كانت مقهى أمّ نبيل، السيّدة اللبنانية المجتهدة الهادئة والجادة في عملها والتي خاطبها سعدي يوسف بقصيدة نشرت في "السفير": ابتسمي أمّ نبيل، ابتسمي...". وثمة مقرّات تنظيمات ودكانين حزبية تحيط بالجامعة العربية. الفاكهاني الذي لم تمتد له يد الإصلاح عقوداً طويلة، فترك في عشوائيته، حاملاً تاريخاً ملتبساً غامضاً، حافلاً بالبطولة والتضحية والتآمر والاغتيال السياسي. لينتهي هذا المربع التاريخي بعمقه الاستراتيجي وهو مخيّم صبراً وشاتيلاً الذي بقي على حاله، وربّما ازداد سوءاًَ، فبدا فعلاًَ شريطاً للبؤس، يشكّل نقيضاً تاماً لأحياء بيروت التجارية. فكلّ شيء هنا خاضع لقانون الصدفة: العمل والعيش والإقامة، بل الوجود برمته، كما لو أن مجزرة صبرا وشاتيلا اتخذت هذه المرّة شكلاً آخر، مجسّداً بالفقر والإحباط والحرمان من أسس الحياة.
لقد انتهت الثورة بل شكّ، وانتمى آخر الثوّار إلى أحزاب ذات طابع طائفيّ، وطرأ تحوّل على هذا الواقع بعد أن أصبحت بيروت مدينةً برغماتية نفعية على حدّ تعبير أحد الصحفيين اليساريين. هذه الحاضرة العربية التي كانت مأوى وملاذاً وقاعدة للثقافة الحقيقية والحرّاك العربي كلّه وتطلعاته ونوازعه وثورته على الأنظمة المهزومة والفاسدة، بيروت التي كانت العنوان الأوّل للتضامن ورمزاً شامخاً للثقافة العربية الأصيلة قولاً وفعلاً. لكن قوى الشرّ والظلام الغربية والعربية والعبرية اجتمعت كلّها بأموالها وجيوشها وإعلامها لتجهز على هذه التجربة الفريدة في التاريخ العربي المعاصر، لتتحول بيروت إلى هياكل إسمنتية لعرض البضائع وإلى دكانين مشرقية لعرض بضائع الطوائف، وليس إلى هونغ كونغ مثلما خشي آنذاك الزعماء اليساريون. لكنّ البحر بقي هو نفسه والجبل مازال قائماً. والناس الحالمين.
كي لا تلامس روحكِ..."
راينر ماريا ريلكه
نصحني صديقي الشاعر اللبناني بالذهاب إلى وسط المدينة أو Downtown أو سوليدير أو جامع الحريري، وهذه هي كلّها مسميّات حديثة لأحدّ أحياء بيروت القديمة، بل إنّه كان قلبها النابض ذات يوم. قال لي إنّ ذهبت فتابع السير نحو "الجمّيزة" أيضاً، وأسأل عن "قهوة القزاز". ولو كنت غاوياً لما اتبعت نصيحته، فالشاعر عادةً، أو الشاعر الحقيقيّ بصورة أدّق، هو من يقود نفسه إلى التهلكة أوّلاً، فما الذي سيفعله إذاً بالآخر الغريب؟
لكنني مضيت إلى الحيّ القديم سيراً، لاختبر صلابة قدميّ، وعدت منه سيراً إلى شارع الحمراء، محطتي الأولى عندما قدمت إلى بيروت قبل ثلاثين عاماً وأقمت في فندق الحمراء ثلاث ليال.
وكنت أعلم قبل الوصول باّن خط التماس بات الآن خطّاً وهمياً، مثلما هو جدار برلين الآن، حيث أقيم، لكنه مازال ماثلاً في الرؤوس على حدّ قول الألمان. آنذاك كان هذا الخطّ يشكّل منطقة محرمّة وعازلاً مميتاً، لن يخترقه إلا من طلب الشهادة أو الخيانة. فكنت أتسكّع وحيداً عبر "وادي أبو جميل" فالفنادق الكبرى، فالبلد، فحيّ الزيتونة، وكأنني أغرف من ملامح بيروت وشواهدها زاديّ ومتاع رحلتي لمدة ثلاثين عاماً. وذات يوم نبهتني سيّدة بعدما رأتني أسير وسط الشارع في محلّة الفنادق الكبرى، حيث دارت أشرس معارك الحرب الأهلية، وأشدّها دمويّة، قبل أن "تتحرر" في هجوم ثان مضاد شنته قوات "الفصائل الوطنية"، اللبنانية والفلسطينية؛ أشارت السيّدة إلى الأعلى وقالت إنّ عليّ السير في محاذاة الجدران لئلا يرصدني القنّاص من أحد أبراج بيروت الشرقية.
لم أكن أعرف من أيّ نقطة أو مفرق قطعت خطّ التماس اليوم، لكنني شعرت به وكأنه يسير خفية معي ويرافقني مثّل ظلّي، فكنت أرفع رأسي بين الحين والأخر لأشخصّ موضع القنّاص، قاتلي المفترض. خطّ التماس! يالها من مفردة مرهفة وقاسية فتّاكة في آن واحد، فهي لمسة عطف ومسّ الجنون، بلّ مسّ التيّار الكهربائي القاتل، والنقطة التي تفصل بين الأجساد وأرواحها، وحتّى بين الأموات، قسراً وضغينة وخوفاً. وكم كنت أقبض علي نفسي آنذاك متلبساً في لقاء امرأة غريبة من الجانب الآخر، معسكر "الأعداء" التابع للإمبرالية العالمية والرجعية العربية وحليفتها الصهيونية.
خطّ التماس، الحاجز الإيديولوجي الجينيّ الذي حال دون اختلاط العروق والطوائف والأديان والجينات الوراثية وغير الوراثية. فأصبحت بيروت أسطورةً غير مكتملة الولادة، ليست الأسطورة المجهضة بالضرورة، بل حالة الولادة قبل أوان الوضع. فهي المنحوتة التي انكسر فيها أزميل النحّات ثم تحطمّ النحّات نفسه، فبقيت مجرد Torso . فمن ذا الذي يجرؤ إذاً على إكمال من خلفه مايكل أنجلو ناقصاً؟
واكتشفت بمحض الصدفة أنّ قانوناً سريّاً لم يدوّن نصّاً، وهو القانون الوحيد الذي طبّقت روحه تطبيقاً صارماً، ولم تشذّ عنه إلا القلائل من النساء، ألا وهو: قانون حظر "القبح". فأخضع الكثير من النساء أجسادهن إلى مبضع الجّراح، فصار ينحت وجوههن وصدورهن وفقاً للأنموذج الإغريقي الأفلاطوني للجمال المرهف الهشّ، وكلّ من تجاهر "بقبحها" قد تجعل نفسها عرضة للتندر من خلقة الله الطبيعية التي لم تسمها يد بشرية، أو مشرطها، فوق مشرحة الجمال. ولعلّ انعدام التناسب بين الملامح الطبيعية للرجال وتقاطيع وجوههم المتوسطية وقاماتهم المربوعة وأيديهم الكثيفة الشعر والنساء الممشوقات القوام الناعمات هو الذي جعلني أشكك في القيمة الحقيقية لهذا المظهر الجمالي.
كان القادة اليساريون للمقاومة الفلسطينية في بيروت يرددون دائماً بأنّ هدفهم هو الحيلولة دون أن تتحول بيروت إلى هونغ كونغ ثانية، هونغ كونغ الشرق الأوسط، أي إلى سوق مالية تجارية صرف وممر لغسل رؤوس الأموال. لكن ما الذي كان سيحدث لو أن بيروت تحوّلت حقّاً إلى هونغ كونغ العالم العربي أو نيويوركه، بدلاً من مقبرة أحلامه؟ أليست الاشتراكية التي كان ينادي بها هؤلاء اليساريون هي الطريق الأطول لبلوغ الرسمالية؟ ألم يتنافس أقطاب الشيوعية للحاق بركب اقتصاد السوق الهونغكونغي؟ وما الذي بقي أصلاً من اشتراكية الاشتراكيين بما فيهم الصينيون الذي مزجوا اشتراكيتهم الماوية الفلاحية برأسمالية السوق والبورصات المالية؟
يبدو أن لكلّ شيء في العالم خصائصه وقواه الكامنة وقوانينه الذاتية، بما في ذلك سوق المال الملغز والمخاتل، وكأن الإنسان خلق كي يتحايل على هذه القوانين عملاً بمبدأ البقاء للأصلح أو التقية، عسى أن تفرج ذات يوم. إنّها الداروينية الاجتماعية بعينها، أو التطبيق العملي لنظرية مالتوس حول التناسب بين المنتوج الغذائي وعدد السكّان. فكم كانت دهشتي كبيرة وأنا أرى أهلي وأبناء عمومتي الأحياء الذين شهدوا الحروب والحصارات كلّها في العراق وبقيت أجسادهم قويّة مفتولة وأصبحت جوههم مثل وجوه الذئاب، بفعل غريزة حبّ البقاء ، فتآلفوا قسراً مع أنظمة القتل والحرب والحصار، وهضموا الأطعمة المخلوطة بالإسمنت والجصّ وذروق الجرذان، فأصبحوا همّ أنفسهم تماثيل ومنحوتات من المواد المسلّحة.
وهكذا رأيت بيروت للمرّة الثانية: جبالاً من الإسمنت والحديد، وعمارات عملاقة خليجية الطابع، محت بلا رحمة صور القتلى والشهداء. فاختفت كتابات المقاتلين زماناً وشعاراتهم وأختامهم التي طبعوها على الجدران بخطوط متعرّجة عريضة: أبو الموت وأبو الجماجم وأبو الهول. فكم أبٍ للموت والجماجم والهول يا بيروت مات! بل مازال هؤلاء يموتون اليوم بين ظهرانينا دون أن نشعر ربّما بألم فقدانهم. وتذكرت فجأةً كابوس الأمس الذي أفزعني، فقفزت من فراشي أتلمس الطريق إلى الضوء وكأس الماء. فقد حلمت بسيّدة عجوز كانت تنتظر موتها، والسيّارة التي ستقلّ جثمانها إلى المقبرة، وكان ابنها، صديقيّ في الحلم الكابوس، الذي بدا جسده ضامراً منكمشاً، يقف إلى جانبها. وبعد حين تحركت ثلاث سيّارات تحمل توابيت بيضاء لها شكل القباب الصغيرة المدببة. فاستغربت أن تكون هذه السيّارات خُصصت ثلاثتها لتقلّ جثمان شخص واحد. ولعلّها كانت مخصصة لنا نحن الثلاثة، وفكرت في الوقت ذاته في أن يكون هذا طقس دفن لبنانياً. فقالت السيّدة المحتضرة: ها هي السيّارات قد تحركت!
فاعترتني رجفة خوف وكأنني أنا الذي كنت أحتضر، وتجمّد الدم في عروقي عندما نظرت إلى السيدة الراحلة وابنها الذي لم يقلّ موتاً عنها، فصفقت بيدي لأشعر بوجودي ثم صرخت صرخة لاهبة أيقظتني من كابوسي. إذاً أنا هنا في بيروت الموحّدة! وها هو البحر أسمع صراخه، وهاهم القتلى والشهداء!
لكن أين ذهبت صورهم وأساطيرهم؟ وأين اختفت أحلامهم وأوهامهم وضحكاتهم؟
إنّهم رحلوا ولم يخلّفوا سوى ذكرى ملامحهم المتداخلة ببعضها البعض وكأنهم شهيد واحد، وشذراتٍ من أقوالهم وأفعالهم عندما كانوا "يسشورون" شعورهم الطويلة المدهونة ويرتدون سراويل الجينز الأمريكية التي لم يكن ينقص أمريكيتها سوى ختم الرئيس جيمي كارتر. وهاهي المدينة، الساحرة فعلاً، وقد طوت صفحتهم حتّى إشعار آخر، وأشرعت نوافذها على رياح جديدة وواستثمارات مالية. وأصبحت هذه الحاضرة اللازمنية في أشدّ الحاجة إلى ضبط إيقاعها ومواعيدها، فاستوردت الساعات السويسرية المرهفة الدقّة، ليحلّ الزمنّ الساعاتيّ محل زمنها الرملي الذي ضبطه طوائف عديدة من المتمردين والثوّار والمجانين والسكارى واليساريين المتطرفيين والوجوديين.
كانت المدينة المشطورة نصفين آنذاك مركزاً للخدمات الاستهلاكية، فضعضعته الحرب ثم سرعان ما اختفى ذلك الطابع الخدمي، ليعود الآن، وبقوّة، استهلاكاً أحادي الجانب، استهلاكاً معولماً، بمعنى استهلك ثم أرمي في القمامة أو البحر، ليصبح سيّداً للمدينة. وكلّ من لم يكن سريعاً متعجلاً في استهلاكه يشعر لا محال بأنّ شيئاً ما خطيراً قد فاته، فلم يمسّ جسده أو معدته. واختفى الطقس المشرقي، وحتى الثوريّ أحياناً، الذي كان يحيط بالسلع ومواد الاستهلاك – هل نحتسي مثلاً الفودكا أم الويسكي؟- وجاءت السلعة المادة المحض رسول العولمة.
قلب البلد
عندما تدخل مركز المدينة الذي رمم حديثاً من قبل شركات عملاقة وفي مقدمتها سوليدير ينتابك هاجس غريب وهو أنّك لا تطأ مركز بيروت وحدها، إنما مراكز المدن العربية كلّها، وقد اجتمعت هنا، في هذا القلب الفتيّ. فبيروت هي المحور والتاج والذروة، وهي نبض قلب مدننا العربية، ومزار لم يرقد فيه قديّس، لكنّه مع ذلك مقدّس؛ فترابها مقدّس وحجرها وماؤها وهواؤها، وإنّ شحّ، فهو مقدس أيضاً.
بيد أن قلب المدينة بدا لي في النظرة الثانية خافت النبضات، بعد أن أجريت له عملية إنعاش وتبديل صمّامات. فجاءت العملية الجراحية بمثابة تجميل داخلي، وليس علاجاً لداء وبيل أصاب الشرايين. وأوقف الأمر برمته على الشكل، فتشابهت البنايات والبضائع والملابس والحانات والمقاهي، بل تشابه الناس أنفسهم، حـتّى في سلوكهم الخارجي، لدرجة أنّ اللغة الإنجليزية ثم الفرنسية أصبحتا الواسطة الوحيدة المنتشرة والشفرة التي تستقطب أهواء الجميع. وبدت الانفعالات الإنسانية نفسها معولمةً، أي أنّ معالم الارتياح والاستياء هي نفسها التي تراها في مدن العالم كلّها، وأضحى كلّ ما هو دفين جينيّ يوحي بغريزة شرقية عربية لا يفصح عنها حتّى اللسان.
فالنظرات متلهفة، مستوفزة، مشحونة بالتوتر والمحذور العربي الصرف، بل إنّ العيون تكاد تخرّج من محاجرها كبتاً وتعطّشاً، لكن الوعاء المتفرنس، ثم المتأمرك، جعلها مجرد أدوات إرسال، وشفرات مبطّنة تمرّ عبر قنوات "كوتشي" و "فرساتشي" و "دولتشي أي غابانا"؛ أمّ يا ترى أنّ العرف الاجتماعي هو الذي خلق خطّ اللاتماس بين الناس، لبنانين وعرباً؟وهل يمكن أصلاً أن أخاطب سيدّة خليجية ضربت حول وجهها نقاباً أسود سميكاً في قيظ بيروت ورطوبتها النسبية العالية؟ فهل أقول لها كيف حالك يا "حرمة"؟
كان من المستحيل قبل ثلاثة عقود أن أفكرّ مجرد تفكير في هذه "التحية" المهينة، وكيف يمكن التفكير فيها آنذاك في زمن لم يكن يعرف البرقع والنقاب قطّ؟ والآن حدث الصدام الحضاري المعلوم في أشدّ نقاط التماس حسّاسية بين آخر صرخات الموضة الغربية وآخر الأقنعة العربية القادمة من بطون الصحارى. دشاديش وعقال وبراقع وأنقبة ونوافذ وجوه صينية الصنع، وعالية الجودة مثلما يقال، باتت سلاحاً لمقارعة الزحف الشامل لمظاهر الحداثة الماضية، بمعنى تعولّم يا هذا لكن بحذر شديد! فالثبات والصبر والانكفاء على الذات هي الاستراتيجتات التي وصفها فريدريش بالقدرية الروسية، عندما كان الجنود الروس يدفنون رؤوسهم في الثلج لتمضية الشتاء في مواضع القتال، نعم هذه هي استراتيجية التقيّة الحديثة، الخليجية، التي ستجعل مصممي الأزياء يتراجعون أمام زحف القناع في نهاية المطاف، ويستجيبون لنزعة التصحّر، فنرى أخيراً دشاديش وبراقع من تصميم توم فورد وجورجي أرماني وجيل ساندر.
ما أثار انتباهي أوّل الأمر هو أنّ منطقة وسط البلد المرممة حديثاً كان معظمها مخصصاً للمشاة، فلم يسمح بدخول السيّارات. وهي من المناطق النادرة في بيروت التي تتيح للمرء أن يجذب فيها نفساً خالياً من عادم السيّارات ومخلفاتها. ثمّ إنّ هذا المربع التجاري كان مطوقاً بالعوارض والموانع الحديدية ويحرسه الجنود، فبدا الهدوء مفروضاً بقوّة السلاح. وخيل إليّ وكأن الحرّاس وقفوا لحماية المحلات التجارية التي لا ترى لها مثيلاً إلا في شوارع باريس ولندن وبرلين.
كان الشعار هنا هو أن ترَى وتُرى، وكلّما ارتفع سعر الفستان وبرزت ماركته ازدادت صاحبته ترفعاً وزهواً، كما لو أنها عارضة ترجلت للتوّ من منصّة Haute Couture. وقد يكون هذا الحيّ التجاري الأكثر كثافةً من حيث المعروضات الكمالية مما يمكن أن يضمه أيّ حيّ تجاريّ مشابه في لندن وباريس ونيويورك؛ لأن متاجر الأزياء الفخمة في هذه المدن تكون موزعة عادةً على شوارع تمتد أحياناً مسافة كيلومترات مثل "أوكسفورد ستريت" في لندن و"فيفث أفنيو" في منهاتن و"شانزليزيه" في باريس و"كورفورستندام" في برلين، ولعّله الأكثر حيويّة أيضاً من حيث الكثافة البشرية.
غير أننا نشهد الآن فصل التبضّع في موسم الصيف، إذ قدم ما يقرب من مليون سائح، جلّهم من العرب، ومليون عائد لبنانيّ، هم سوّاح أيضاً، دليلاً على الاستقرار النسبي الذي يشهده لبنان بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة. وتوكّد هذا الانتعاش مركبات الدفع الرباعيّ الضخمة التي جعلت هواء الصيف المتخم بالطوبة سحباً سوداء من سموم المحروقات.
وحالما تغادر المربّع التجاري تجد نفسك وكأنك تحررت دفعة واحدة من "عقوبة" الهدوء المسلّح، لتدخل حالاً في سمفونية الصخب الرباعيّة الدفع، لدرجة يستحيل معها الإصغاء أو الهرب أو حتى الالتفات، لتبعد صيوان الأذن نحو وجهة يخفّ فيها صخب المحرقات وزعيق منبهاتها. وإذا كان "غوتشي" و "أرماني" يشيران قبل قليل إلى علو شأن الطبقة الاجتماعية، فإن المنبّه ناب هنا عن الدور الطبقي، فالنظرة إليك يحددها عدد دفعات المحرّك، ثلاثيةً أو رباعيةً أو خماسية. فما عليك حينئذ إلا وأن تتخلى قسراً عن كرامتك الإنسانية وتضعها تحت تصرف سائقيّ السيارات الرباعية الدفع، فينشأ لديك شعور مقلق وهو أنّ هؤلاء يتصرفون وكأنّ لهم الحقّ في قتلك مادمت راجلاً. فكلّ محاولة لقطع الطريق تتحول إلى مجازفة خطيرة، ولا ينفع أحياناً حتى اللجوء إلى الرصيف الضيّق أصلاً والمهدم والمأهول. ولعلّ وباء الصخب والتزمير، بل الجائحة العربية الحقيقية، حلّ محلّ ذلك الهاجس الغريب الذي سكن مواطنيّ بيروت سنوات الحرب الأهلية، وهو انعدام الثقة المطلق بالسكينة والهدوء، لأن الهدوء كان يشكّل دائماً المرحلة التي تسبق اندلاع الاشتباكات المسلّحة مباشرة. وكان غالباً ما يتبرع أحد المحسنين فيطلق الرصاص في الفضاء، ليحررنا من الهدنة الرهيبة، فتغمض الجفون أخيراً؛ فزعيق المنبهات جاء إذاً تعويضاً عن أزيز الرصاص. ولابد حينئذ من التعليق بأنّ سيارة فلان الرباعية قد مرّت من هنا. وربما يكون التزمير ظاهرة من ظواهر العصاب الجماعي، Post War Syndrome ، أي محاكاة لعلعة الرصاص، تنفيساً عن المكبوت الاجتماعي والطاقات الحبيسة بأكثر الوسائل سهولةً ورخصاً. فمبدأ تجاوز الآخر، والتفكير حتى في سحقه، لم يقتصر على البيروتيين وحدهم، إنما أصبح سمةً لعصرنا الراهن، عصر الرأسمالية المفترسة، لكنه يتخّذ لدى الغربيين أبعاداً وقنوات تصريف أخرى غير الشوارع.
وبدا لي كما لو أن البيروتيّ استوطن الشارع نفسه، ولم يعد يشكّل له سبيلاً للوصول، بل غاية في حدّ ذاتها، فهو مجبول عليه. وأصبح الشارع مرآة اجتماعية عاكسة لجميع الظواهر، وعامل كشف، أو فضح، لا يسمح بالمستور مهما كثرت براقعه. واستحالت الأرصفة إلى نقاط لمراقبة حركة الشارع ونبضه، وإلى قمرات صغيرة يلجأ إليها الناس هرباً من لهيب الهاجرة، فبات النزول إلى نهر الشارع لا مناص منه. وبما أنّ نظام صفّ السيّارات ينتمي إلى أشدّ نظم الصفّ المعروفة غرابةً، فإن المرء يشعر كما لو أنه القي به في ساحة مجمع عملاق لخردة الحديد، مجمّع عشوائي خال من الرقابة، يطرح فيه المرء مخلفاته ثمّ ينصرف. وسألت نفسي كيف يمكن أن تمرّ سيدة تقود عربة أطفال فوق هذه الأرصفة التي لا ترصف شيئاً في حقيقة الأمر؟
وانتبهت أيضاً إلى أنني خلال تجوالي في المدينة طيلة عشرة أيّام لم أر سوى القليل من الأطفال! أم أنّ منطقة الحمرا التي أقمت فيها هي مجرد سوق تجارية، وليس مكاناً للسكنى؟ أو ربّما تراجعت معدلات الإنجاب بفعل الحروب والتحضّر وتكاليف الحياة المدنية؟ وتدلل ظاهرة اختفاء الأطفال على فقدان ملاعبهم أيضاً. إذ أنني لم أر ملعب أطفال واحداً في جميع الشوارع والأحياء التي مررت بها.
محلة الفاكهاني
عندما قَدِمت إلى بيروت قبل ثلاثين عاماً ونيف كانت محلة الفاكهاني محطتي الثانية بعد شارع الحمرا. وكنت اشتغل آنذاك في قسم السينما التابع "للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" عارضاً للأفلام، فكنت أطوف بآلة عرض الأفلام الوثائقية والروائية التي كنت استعيرها من المراكز الثقافية، وبالأخصّ المركز الثقافي السوفيتي، وأعرض الأفلام لجمهور المخيمات الفسطينية عادةً، وأحياناً أعرض الأفلام في صالة الطابق السادس من مبنى "الإعلام المركزي" التابع للجبهة الديمقراطية في محلّة الفاكهاني. وأتاح لي هذه العمل التعرّف على عدد من الكتّاب والفنانين العرب واللبنانين والفلسطينيين. وبدأت في تلك الفترة أنشر قصائدي وقصصي القصيرة في مجلة "الحريّة" وجريدة "القاعدة" و "صوت الشغيلة".واليوم عدت إلى هذا المكان الأليف الذي أشعر بحنين غامض إليه وإلى معالمه التي اندثر معظمها.
لا حواجز مسلحةً هنا ولا مفارز خلف جسر الكولا، حيث تبدأ "جمهورية الفاكهاني". فقد اختفى السلاح والمسلحون واختفى معهم ذلك التركيب الاجتماعي والثقافي العجيب المتماسك والمستقل بذاته. فكانت مساحة الحريّة المتاحة لنا واسعة للغاية، فلم نكن نخشى أحداً، بل إننا كنّا فعلاَ أحراراً ومتمردين، وكنّا من فرط اعتزازنا بحريتنا واستقلالنا لا نلقي التحيّة أحياناً على المسوؤلين الكبار، وننتقدهم علناً. ولا أعتقد بأنّ تاريخ العرب الحديث شهد ظاهرةً تماثل تلك الثورة الثقافية التي تأسست في بيروت الغربية والتي شكّلت خطراً فعلياً على منظومة كاملة من القيم المتخلفة الراسخة في المجمتع العربي، فكتب عليها أن تنتهي بسلاح إسرائيلي ودعم عربيّ غربيّ؛ ظاهرة كانت تشكّل بديلاً إخلاقياً إنسانياً، متحرراً ومتضامناً مع قوى الخلق والإبداع والمعرفة. وكانت شروط حياتنا قاسية إلى حدّ بعيد، ومقاييسنا الأخلاقية لا تقلّ عنها قسوةً، فكان كلّ من يتناول أكثر من وجبة طعام في اليوم يعتبر "خائناً" للثورة والثوّار. كنّا متصوفيين ثوّاراً متيمنين بحكمة تشي غيفارا: "لو خُيرت بين أن أحمل زمزمية ماء أو جعبة رصاص، لاخترت الجعبة، لأنها أشد ثقلاً وأكبر أهمية". وكانت كراهيتنا للإمبريالية والأنظمة العربية وإسرئيل كراهيةً مطلقة لا تقبل المساومة قطّ، فهذه الكيانات كانت تشكّل في نظرنا وحدةً كليّةً قائمةً على القتل والعدوان والتدمير. هكذا كانت الأشياء والمفاهيم واضحة بسيطة آنذاك، وكنّا مؤمنين بها بقلوبنا وعواطفنا وعقولنا أيضاً.
وهاهي حانة التوليدو، حيث كنت ألتقي زماناً بالشعراء سعدي يوسف وجليل حيدر وشريف الربيعي وآدم حاتم وعلى فودة وغيلان. وقد شهدت هذه الحانة الصغيرة ولادة ظاهرة ثقافية جديدة في الأدب العربي الحديث، وهي ظاهرة أدباء الرصيف التي لم يتعرّض لها النقد بصورة وافية. وتلك هي مقهى أبي علي، "كنافة أبو علي" التي كنّا نجتمع فيها ظهراً، لنكتب قصصنا وقصائدنا. وأتذكّر ذات مرّة أن بعثر غيلان الحوشي أوراقه على طاولة الرخام الطويلة، وأمضى ساعات طويلة ينتظر الوحي دون أن يطلب شيئاً. وأخيراً تقدم منه أبو عليّ بهدوء، ثمّ خاطبه بلهجة بالغة التهذيب: "شو خيي غيلان؟ عوّقت معاك القصيدة؟" وهي الصياغة الدبلوماسية للتوصية على طلب أو مغادرة المقهى. وحدث ذات مرّة أن ألقت قوات الأمن الفلسطينية القبض على غيلان، لأنّه كان يحمل رمّانة يدوية، بل زعموا أنّه هدد بها سعدي يوسف وآخرين. فوضع في سجن "أمن السبعطعش" بعد أن صودرت منه ممتلكاته، وهي عبارة عن قنبلة يدوية وحزام جلد. وفي الجانب الآخر من الشارع كانت مقهى أمّ نبيل، السيّدة اللبنانية المجتهدة الهادئة والجادة في عملها والتي خاطبها سعدي يوسف بقصيدة نشرت في "السفير": ابتسمي أمّ نبيل، ابتسمي...". وثمة مقرّات تنظيمات ودكانين حزبية تحيط بالجامعة العربية. الفاكهاني الذي لم تمتد له يد الإصلاح عقوداً طويلة، فترك في عشوائيته، حاملاً تاريخاً ملتبساً غامضاً، حافلاً بالبطولة والتضحية والتآمر والاغتيال السياسي. لينتهي هذا المربع التاريخي بعمقه الاستراتيجي وهو مخيّم صبراً وشاتيلاً الذي بقي على حاله، وربّما ازداد سوءاًَ، فبدا فعلاًَ شريطاً للبؤس، يشكّل نقيضاً تاماً لأحياء بيروت التجارية. فكلّ شيء هنا خاضع لقانون الصدفة: العمل والعيش والإقامة، بل الوجود برمته، كما لو أن مجزرة صبرا وشاتيلا اتخذت هذه المرّة شكلاً آخر، مجسّداً بالفقر والإحباط والحرمان من أسس الحياة.
لقد انتهت الثورة بل شكّ، وانتمى آخر الثوّار إلى أحزاب ذات طابع طائفيّ، وطرأ تحوّل على هذا الواقع بعد أن أصبحت بيروت مدينةً برغماتية نفعية على حدّ تعبير أحد الصحفيين اليساريين. هذه الحاضرة العربية التي كانت مأوى وملاذاً وقاعدة للثقافة الحقيقية والحرّاك العربي كلّه وتطلعاته ونوازعه وثورته على الأنظمة المهزومة والفاسدة، بيروت التي كانت العنوان الأوّل للتضامن ورمزاً شامخاً للثقافة العربية الأصيلة قولاً وفعلاً. لكن قوى الشرّ والظلام الغربية والعربية والعبرية اجتمعت كلّها بأموالها وجيوشها وإعلامها لتجهز على هذه التجربة الفريدة في التاريخ العربي المعاصر، لتتحول بيروت إلى هياكل إسمنتية لعرض البضائع وإلى دكانين مشرقية لعرض بضائع الطوائف، وليس إلى هونغ كونغ مثلما خشي آنذاك الزعماء اليساريون. لكنّ البحر بقي هو نفسه والجبل مازال قائماً. والناس الحالمين.
ليست هناك تعليقات