في مشهد كثيراً ما يتكرر على ضفاف نهر السين
في باريس، ومع عبور أحد المراكب السياحية، يشرع بعض الركاب بالتلويح للمارة
بأيديهم، وقد يلتقطون بعض الصور أيضاً. ليس السبب مرور نجم أو فنان معروف، ولا
يعود ذلك لمعرفتهم بالأشخاص؛ الأمر فقط، بالفطرة، تحية إنسان لآخر.
في مشهد آخر على نفس الكوكب، تستمر قذائف
نظام الأسد في حصاد الضحايا الأبرياء، ويتوالى تساقط براميله المتفجرة على المباني
السكانية، فالجميع في سوريا؛ بشرا وشجرا وحجرا، أهداف لآلة الموت المعلن.
فما الجديد في كل هذا؟
لا جديد في مأساة إنسانية تجاوزت كل المخيلات
والأقلام في وصفها، وإنْ قد نقنع أنفسنا بأنّ للسياسة تفسيراتها ومداخلها
ودهاليزها التي تحددها مصالح الدول فيما بينها. لكن بماذا نقنع أنفسنا أمام الصمت
المطبق لكثيرين من مثقفين وفنانين وإعلاميين؟ أولئك الذين لطالما التهموا رؤوسنا
وهم يتغنون بفردوس الحرية المفقود، بل وكانوا لمعظمنا أبطالاً.
ما يزيد عن 300 ألف شهيد، ومثلهم بين معتقل
ومُغيّب، وأكثر من نصف الشعب هُجّر من منازله نتيجة الدمار الذي طال كل المدن
السورية، كل هذا لم يشفع عند هؤلاء.
الجديد هو في مشهد ثالث جديد/قديم، ففجأة، ومع
اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في فلسطين، استفاق هؤلاء المدّعون في
محاولة لجمع فتات أقنعتهم، عاداوا ليبحثوا لأنفسهم عن أدوار بعد أن هُمشوا من قبل غالبية
الناس، وبات أحسنهم في زمان مضى، يشار إليه، وفي أحسن الأحوال، بـفلان (سيء
الذكر).
أولئك
الذين غَيبوا عن وطنيتهم المبتذلة أنّ آلة الموت الإسرائيلية التي تقصف أحياء غزة،
تقابلها براميل المغتصب الأسدي التي تدك أحياء حلب، والحصار المفروض على أهالي
غزة، يقابله موت أهالي اليرموك جوعا جنوب دمشق، والحقد الذي أشعله المستوطنون بجسد
الطفل محمد أبو خضيرة في القدس، كانت قد تجرعته روح الطفل حمزة الخطيب بوحشية
شبيحة النظام في درعا.
وفي أذهان نفس شريحة المهرجين، تحضر فلسطين
في المسرحية الهزلية في النشرة الإخبارية الموحدة لعدة قنوات إعلامية لبنانية:
تُحزم الأقنعة، ملابس قاتمة والخلفية صور لشهداء وخراب ودماء ليكتمل المشهد، ويبدأ
تبادل للأدوار يصلح في أحسن أحواله لاجتماع حزبي بعثي.
تحضر هذه الواجهة المصطنعة، ويُغيب الفلسطيني
السوري الممنوع من عبور حدود لبنان، وتحضر صورة اللاجئ السوري على أراضيه مُتهما
بجلب الكوارث، كما يختفي كلياً فلسطينيو لبنان الممنوعون من حق التملك ومن ممارسة
معظم الأعمال والمهن هناك، عدا عن الحالة المزرية للمخيمات على كافة الصعد.
هذا الإفلاس المفرط في الإنسانية، واجتزاء
الموقف بين هنا وهناك، إنما يضع هؤلاء اليوم أمام حقيقة واحدة؛ أنّ شعاراتهم الباهتة
لم تعد تتسع حتى لحذاء ثائر.
بديهي ألّا نحتاج سؤال الضحية عن هويتها
لنساندها، كما لا يحتاج قاتل مثل بشار الأسد وأعوانه لعلامات فارقة لتشير أصابعنا
نحوهم. الفطرة، هي كل ما نحتاجه لإلقاء تحية إنسان لآخر.
محمد شعبان