ميشال فوكو والروحانية السياسية... القاتلة

alrumi.com
By -
0
       

محمد الحجيري
مرت أكثر من 35 عاماً على الثورة الخمينية 1979، وثلاثون عاماً على رحيل ميشال فوكو(1926 - 1984)، وما زال السؤال الذي يتداوله المثقفون والكتاب ما هي الأسباب التي جعلت الفيلسوف وعالم النفس وخبير الجنون يرى في الخميني والثورة الإيرانية بشارةً وتعبيراً عن "سياسة روحانية". هناك شيء من "السريالية" والعجائبية في هذا الموضع، ولا يتعلق بفوكو فحسب، بل بالكثير من المفكرين والشعراء والمثقفين الذي شعروا بالفراغ والضياع في هاتيك المرحلة الانتقالية، وبحسب ما يورد كريم مروّة في مذكراته أنه وأثناء زيارة له لإيران بعد ثورة 1979، رأى الكثير من الكتّاب والمثقفين الإيرانيين ممن كانوا منتمين إلى تنظيمات ومجموعات علمانية ويسارية، يبكون ويلطمون على أجسادهم في المجالس الحسينية، كما يلطم المؤمن الشيعي العادي.
ربما قبل التعليق على "خمينية" فوكو، علينا التذكير في أن الكثير من المثقفين اللبنانيين والعرب التحقوا بالطيف الخميني بعد انهيار الناصرية وصعود الساداتية وانكسار زعامة كمال جنبلاط و"الحركة الوطنية" اللبنانية، كانوا يبحثون دائماً عن "ثقافات راديكالية" تتراوح بين القومية البعثية او الناصرية وبين الشيوعية "الماوية" أو "الغيفارية" ثم "الروحانية" الخمينية وتتقدم هذه الراديكاليات الهذيانية قضية فلسطين المحتلة. وثمة مقالات هنا وهناك تدل على المرحلة الخمينية ومثقفيها، لكن يبدو أن معظمهم يحاول حذف أو الغاء تلك المرحلة من سجله الثقافي والسياسي، لأن "إغواء" الثورة الخمينية صار في الواقع كابوساً وكان المثقف أول الضحايا قبل أن يصبح المجتمع الإيراني، وربما الشرق الاوسط معه، في السجن "الروحاني – السلطاني" الكبير...
وعلاقة بعض المثقفين بالثورة الخمينية بالنسبة لبعضهم هفوة العابرة (باستثناء أدونيس في قصيدته التي كتبها عن الثورة وما تزال تنشر حتى الآن من باب الزكزكة)، بينما كان تأييد المرشد الروحي لثقافة ما بعد الحداثة ميشال فوكو للثورة الخمينية أشبه بـ"الصدمة" الراسخة في الوجدان ولا تزيلها الأيام. وبدأت قصة فوكو مع الخمينية  في خريف عام 1978، حين قررت صحيفة "أخبار المساء" الإيطالية تطوير أداءها المهني... فاتفقت مع عدد من كبار الكتاب على تقديم ما اسمته "تحقيقات فكرية". اتفقت مع الناقدة والروائية سوزان سونتاغ لتقديم تحقيق فكري عن فيتنام، ومع الكاتب جورج سمبرون تحقيقاً عن "نشر الديمقراطية في إسبانيا"... واتفقت كذلك مع ميشال فوكو على المساهمة في الفكرة. كان من حظ صاحب كتاب "تاريخ الجنون" أن اندلعت الثورة الخمينية فاختار أن يسافر إلى هناك ليكون قريباً من الحدث. ولم يكن فوكو، المعروف بنقده الصارم للعقل الغربي والديكارتي وبتحليلاته النظرية للاتجاهات الأوروبية نحو الجنون والمستشفيات والسجون والمصحات، يعرف إلا القليل، باعترافه هو، عن التاريخ الإيراني أو الإسلامي، بالإضافة إلى أنه لم يعمل كصحافي سابقاً، إلا أنه قال عبارته التالية: "لا بدّ من أن نتواجد حينما تولد الأفكار". وكان فوكو مندهشاً بشخصية الخميني وقد قابله في باريس، ولم يكن غريباً هذا الاندهاش من فيلسوف فرنسي، فابو الحسن بني صدر، أول رئيس لإيران بعد الثورة الإيرانية سنة 1979 قال: "في باريس كان الخميني محاطاً بالمثقفين والمفكرين. ولكن تغيير مسار أفكاره بعد نجاح الثورة لأنه في قم وطهران كان محاطاً برجال دين". هكذا انزلق الحلم الثوري بالتغيير وصار كابوساً، وتدحرجت الثورة الإيرانية التي انطلقت تعددية وصارت أحادية الرأس والتوجه والسلطان، غادرت الثقافة وحضر الدين، وطرد أهل الثقافة وحل محلهم الملالي.
 ذكر فوكو أنه رأي شكلاً جديداً من أشكال "الروحانية السياسية" في ايران، فكتب بإعجاب عن كيفية تحريك "آيات الله العظمي شعباً بأكمله ليخرج للشارع"، معبرين عن "إرادة شعبية واحدة تماماً"، كما ادعى أنه شاهد "أول تمرد كبير ضد النظم العالمية؛ إنه أكثر أشكال التمرد حداثة وجنوناً"، لم يفهم فوكو هذه الطاقة الهائلة التي لعبها العامل الديني في مقاومة الاستبداد والتخلف والاستعمار غير المباشر والتبعية للغرب الكولونيالي، على ان جموح فوكو إلى مسألة "الروحانية السياسية" يقابله رفضه القاطع لفكرة "الحكومة الإسلامية" عبر عنه كما يلي: "لا اشعر بالارتياح وأنا أتكلم عن حكومة إسلامية سواء كفكرة، أو مثال. لكنها أثرت في كشكل من أشكال الإرادة السياسية. لقد أثر في جهدها نحو تسييس البنى الاجتماعية والدينية في مواجهة المشاكل الراهنة. لقد أثرت في محاولتها لفتح بعد روحي للسياسة".
لقد بيّن فوكو أن الحركة الإسلامية الحديثة تهدف إلى قطيعة أساسية، ثقافية، اجتماعية، وسياسية مع النظام الغربي الحديث، وكذلك مع الاتحاد السوفياتي (السابق)، والصين. أي قطبي الحرب الباردة، الشيوعي والرأسمالي. البعض رأى في مثل هذا الأثر دليلاً على إيمان فوكو بفكر الاختلاف والغيرية واحترام الآخر والانفتاح على العالم الشرقي ولكن البعض الآخر اعتبر ما حدث ورطة كبيرة وقع فيها فوكو الذي أراد أن يكفر عن ذنبه ويفكك العلاقة الحميمية بين التنوير والاستعمار فسقط في تبرير الاستبداد باسم النزعات العدمية والتنظير إلى ما بعد الحداثة.  
ظل موقف فوكو المنبهر بالثورة الخمينية مدار جدل لفترة طويلة، وما زال. فهو حيناً يتخذ ككليشيه لـ"مثالية" الثورة الإسلامية وتتسابق بعض المواقع الالكترونية الخمينية في "استغلاله" باعتبار ان فوكو مفكر ما بعد حداثوي يؤيد ويتماهى مع الثورة الاسلامية، وهناك من الغربيين من يعتبره قدّم مساعدة معتبرة من أجل إنجاح تجربة "الإسلام السياسي". على أن الأسئلة التي ظلت تطرح نفسها هنا هي التالية: كيف يدافع أحد أهم دعاة التحررية والمثلية الجنسية على الثورة الدينية ويتسامح مع عودة الأنظمة الثيوقراطية التي حسمت الحداثة الغربية المعركة معها منذ الثورة الفرنسية وإبعاد سلطة الكنيسة عن التدخل في الشأن العام؟ وهل يحاول فوكو الانتصار إلى النزعة الثقافية التي تمثلها فرنسا ضد النزعة الاقتصادية التي تجسدها أميركا؟
قضية فوكو مع الثورة الخمينية ليست أمراً عابراً وليست مجرد سقطة، تشبه تلك القضايا الشائكة والعالقة في الذاكرة مثل علاقة الفيلسوف مارتن هايدغر بالنازية او علاقة الشاعر ازرا باوند بالفاشية. هي موضوع مثير للجدل، أساء الى وهج مؤلفات فوكو التي أصبحت من كلاسيكيات ما بعد الحداثة، ولهذه الأسباب ما تزال خمينية فوكو المرحلية  قضية يبحث عن جوهر أسبابها، فحتى الأمس القريب أعيد نشر مقابلة أجراها الجامعي فارس ساسين بالفرنسية مع فوكو عن زيارته إلى إيران، كانت نشرت بالعربية في مجلة "النهار العربي والدولي". وترجم الى العربية كتاب "فوكو صحفيا"(دار جداول) يتضمن مقالاته ومقابلاته عن الثورة الإيرانية ويتضمّن مجموعة مقالات حول إيران، أبرزها "الدين ضد الشاه"، و"الزعيم الأسطوري للثورة الإيرانية"، و"بم يحلم الإيرانيون؟" إلى جانب بعض الحوارات معه. ويحلّل فوكو في الكتاب الإسلام، وآليات السلطة، والجنسانية والثورة الإيرانية. ملخّصاً ومستدركاً لبعض القضايا الفلسفية التي فاتته الإشارة إليها في مؤلّفاته الكبرى مثل "آركيولوجيا المعرفة وتاريخ الجنسانية"، وناقداً لبعض النظريات الفلسفية كالوجودية والتحليل النفسي، ومتحدثاً في مواضيع أخرى كثيرة كالموت، والعدالة، والهوية، والسياسية الصحية.
 لا يمكن اختصار فوكو بما كتبه عن إيران ولا يمكن رجمه عن خطأ ارتكبه، فمعظم المفكرين لديهن اخطاءهم ويمارسون التحولات في المواقف السياسية والولاءات. ربما علينا الغوص في تداعيات تلك المرحلة ومتابعة جوانب منها. لقد برر فوكو أسباب اندفاعه للثورة الخمينية قائلاً في مقابلته مع فارس ساسين: "بينما كنت اقضي فترة نقاهة في الصيف الفائت بعد حادث صحي ألمّ بي، قرأت كتاباً لم يشتهر في فرنسا ولم يكن له فيها صدى كبير. هذا الكتاب هو مبدأ الأمل لأرنست بلوخ. وتراءى لي أن هذا الكتاب يطرح مسألة جوهرية هي مسألة الرؤية الجماعية للتاريخ التي بدأت تتبلور في أوروبا في القرون الوسطى. فحْوى هذه الرؤية هي إدراك إمكانية وجود عالم آخر وافضل على هذه الارض ورفض واقع الاشياء وعدم اعتباره امراً ثابتاً ونهائياً والسعي الى اكتشاف ثغرة ونقطة تضيء وتجذب داخل الزمن والتاريخ وتتيح الانتقال الى عالم افضل على هذه الارض الفانية.
ذهبت الى ايران وفي ذهني السؤال الآتي: ما العلاقة بين الثورة السياسة والآمال الدينية؟"
بغض النظر عن مسار الثورة الايرانية وكيفية سيطرة الخميني والملالي على السلطة بعد طردهم التيارات اليسارية والعلمانية والثقافية المشاركة في الثورة. فوكو كان لديه موقف مسبق محبذ لكل ثورة، ورأى في الثورة الايرانية انتفاضة لتحرير شعب. وبرغم متابعة فوكو المتحمّسة لما كان يحدث في إيران، لم يكن مناصراً للخميني ولا للنظام الجديد الذي ستفضي إليه الثورة، وإنما كان متحمّساً لحدث التمرّد في ذاته، لهذا الرّفض الشامل والعام للسّلطان القائم، بامتداداته وبدائله. فما كان يعني فوكو من كلّ ما جرى ليس "الإسلام" في حدّ ذاته ولا إيران ولا الملالي، وإنّما تجربة "الحدث"، أي حدث "الثّورة" بما هو قطيعة مع النّظام القائم. فهو يستعمل بدل لفظ "الثّورة" ألفاظاً وعبارات أخرى مثل "التّمرّد"، أو "الحركة الدّينيّة"، أو "حركة ثورية"، أو "الحدث الثوريّ". ويبدأ لفظ "الثورة" في الظهور لمّا غادر فوكو إيران: "لمّا غادرت إيران كان السّؤال الذي يطرح عليّ دون هوادة هو بطبيعة الحال: "هل هي الثّورة؟" وبعد سيطرة الخميني على السلطة واعدامات المعارضين له سيطرت على فوكو خيبة أمل مما جرى، فكتب رسالة مفتوحة إلى مهدي بازركان الذي كلف من طرف الخميني بتشكيل الحكومة: "ليست لدي بالطبع سلطة سيدي رئيس الوزراء لأتوجه إليكم سوي بالإذن الذي منحتموني إياه عندما أفهمتموني في لقائنا الأول أن الحكم بالنسبة إليكم ليس حقاً تشتهونه بل هو واجب في غاية الصعوبة. عليكم أن تتصرّفوا بحيث لا يرفض هذا الشعب أبداً القوة التي حرّر بها نفسه للتوّ من دون تنازل". وتحت عنوان لافت يختتم فوكو تأملاته عن الثورة الإيرانية بمقال:" لا فائدة من الثورة"... يحلل أو يبرر موقفه: "بما أن الثورات تقع على هذا النحو "خارج التاريخ" وفي التاريخ لأن كل شخص يغامر فيها بحياته وموته، فإننا نفهم لهذا السبب كيف استطاعت أن تجد بسهولة في الأشكال الدينية تعبيرها ومسرحها. فالوعود بالعالم الآخر وبعودة الزمن وانتظار المخلص ومملكة يوم القيامة، التي يسود فيها الخير دون منازع، كل هذه الأمور شكلت على مدى قرون عدة، وحيثما سمح نمط الدين بذلك لا غطاء أيديولوجيا للثورات فحسب، بل نمط عيشها ذاته". لاقت مقالات فوكو نقداً عنيفاً من المتابعين، نشرت على مواقع الانترنت قراءة مفصلة لكتاب "فوكو، الجنوسة، والثورة الإيرانية" لجانيت آفاري وكيفن آندرسون يظهر أن الخلافات بشأن كتابات فوكو عن إيران معروفة في فرنسا، وخلال المناقشات التي تلت الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن عام 2001، أشار أحد المعلقين الفرنسيين في جريدة لوموند بقوله: "إن ميشيل فوكو، داعية الخمينية في إيران". وقد اعترف غالبية المتعاطفين مع فوكو بالطبيعة الإشكالية البالغة لمواقفه من إيران، ووضح ريبون ديدييه، المحرر في مجلة الابزرفاتور، وأحد أصدقاء فوكو أن: "النقد والسخرية الذي تعرضت له "خطئية" فوكو فيما يتعلق بإيران، زادت من الإحباط الذي أحس به جراء النقد الذي استقبل به المجلد الأول من (تاريخ الجنسانية)". بعضهم شخص كتابات فوكو عن إيران بأنها "حماقة". واقترح أن يكون لولع فوكو بالموت دور في حماسه للإسلاميين الإيرانيين، وحرصهم على الشهادة. اثنين من الناشطين في الحركة النسوية تهكما على فكرة فوكو عن "الروحانية السياسية"، وتساءلا ما إذا كانت لها علاقة "بالمعنى الروحي" للإعدامات العلنية للمثليين جنسياً. وقد أطلقا دعوة إلى فوكو ليعترف بأن أفكاره بخصوص إيران كانت "خطأ".
تعاطف 
  نادراً ما دافع أحد عن كتابات فوكو حول إيران على عكس ما جرى في هجمات سابقة على كتاباته الأخرى، مثلاً تلك التي قادها سارتر وبوفوير على كتابه "الكلمات والأشياء" (1966). باستثناء واحد، وهو ما كتبته الناشطة النسوية من المدرسة ما بعد الحداثوية كاثرين كليمنت في جريدة "لوماتين" عندما اعتبرت أن فوكو ببساطة "حاول أن يرى ما أفلت من رؤانا الثقافية" وأنه ما من "مخطط في تراثنا، حتى في مجال حقوق الإنسان، يمكن أن يطبق مباشرة على ذلك البلد، الذي يقوم بالثورة اعتماداً على ثقافته الخاصة".
بعد ثلاثين عاماً على رحيل فوكو وأكثر من خمسة وثلاثين عاماً على الثورة الخمينية تنامت أصوليات مختلفة ومتنوعة ومتعسفة وفاشية تراوحت بين الارهاب المحلي والمعلوم و11 أيلول وبلغت ذروتها في الداعشية التي تمارس كل الشدائد من الصلب الى بتر الأعضاء والاعدمات التعسفية ورمي الجثث في الوديان.
كان فوكو يقول ان ثمة خواء فكري وروحي ومادي يعصف بوحدة الجسد بعد فكرة "موت الله" النيتشوية التي تعني موت الأخلاق. الأرجح ان داعش وشبيهاتها وعدا عن أنها عديمة الاخلاق، فهي جعلت من المبالغة في استعمال اسم الجلالة موتاً روحياً، تريد تطويع وضبط ومراقبة وقتل كل يعارضها ويعترض عليها ويختلف معها.

Tags:

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)