احدى الظواهر الكتابية البارزة في العقود الأخيرة، أن بعضهم يلجأ الى
«مزج» الفلسفة بالظواهر الفنية (ماريلين مونرو، مادونا، مايكل جاكسون، ليدي غاغا...)،
أو الى فلسفة الظواهر الفنية نفسها في مواكبة للتحوّلات الحاصلة في المجتمعات والمدن
والتكنولوجيا.
يلجأ الكاتب إلى هذه الطريقة في معالجة المواضيع،
إما هروباً من النصوص الجامدة «المتصحّرة» التي لا يستطيع القارئ متابعتها، أو لشعوره
بأن عليه تقديم جديد في زمن ما بعد الحداثة، خصوصاً أن الظواهر الفنية باتت شغل الجمهور
الشاغل أكثر من القضايا الكبرى و{الثورية». على هذا، يكون تطعيم النصوص التأملية والفلسفية
بالحديث عن ماريلين مونرو ومادونا أو جينيفر لوبيز وسيلة لإبقاء النصوص في دائرة الاهتمام
والحياة، ولو لمدة وجيزة. ثانياً، تصبح الثقافة عبر هذه المعالجات أمام مشهد جديد وهو
أن بعضهم يرفع ظواهر الميديا والكليبات إلى مقام الثقافة وينزل الثقافة – الفلسفة الى
مقام الظواهر «الميديائية».
نصل إلى بيت القصيد، وهو أن نيكولا بَيجير أحد كتاب
جريدة «ليبيراسيون» الفرنسية، كتب مقالاً عن النجمة ليدي غاغا، تُرجم الى العربية في
أكثر من موقع وجريدة، إذ اعتبر أن ظاهرة غاغا تمثّل بالنسبة إلى عدد كبير من المراقبين
النموذج الأسمى لحضارة تعرف عجزاً عن الإبداع، ظاهرة تجارية تراهن على نسيان موحد للجموع
التي ترضع ما يستهلك ويُرمى. يسأل بَيجير، لكن هل هي فعلاً تمثّل تلك الحالة؟ ويجيب
بأن ليدي غاغا تركب الموجة السائدة، باعتبارها كائناً يمثل تشخيصاً للمرحلة التي نعيشها،
موجة سائدة تدرك كونها اختزالاً للأزمنة السابقة، ومزجاً ثقافياً متوحشاً وبلا حدود.
بالطبع، يضعنا هذا الاستنتاج أمام فكرة رئيسة هي
أننا نعيش زمن «التحويل» أو «الرسلكة» سواء في الغناء أو الكتابة أو الأفكار أو الصناعات
أو الموسيقى، وصولاً إلى القمامة. ففي الموسيقى، تقارب كبير في النوتات. وفي الكتابة،
ثمة ما يشبه إعادة وضع الكلمات بأشكال مختلفة فيما يبقى المضمون نفسه ليكون القارئ
أو الكاتب تحت رحمة «التناص» الأدبي والفكري بشكل مباشر أو غير مباشر. حتى في السينما،
بات الشعار الراهن هو إعلان موتها.
ليدي غاغا تجسيد لكل شيء في زمن ما بعد الحداثة.
يقول أحدهم: «لا أبالغ إن قلت بأن غاغا هي ظاهرة فنية وثقافية معاصرة، فهي تقدّم لنا
عالماً من الأزياء والسينما والتصميم وغيرها من فنون مصاحبة لموسيقاها وأغانيها. فهي
مثلاً أسَّست «بيت غاغا»
Haus of GaGa الذي يضم مجموعة
من الفنانين والمصممين يعملون معها لإنتاج «الصورة» التي تقدّمها عبر أغانيها المصوّرة
وحفلاتها وظهورها الإعلامي. يُذكر أيضاً أن حتى الإسم «غاغا» يذكّرنا بحركة
الـ «دادا» الفنية التي ظهرت في مقتبل القرن العشرين
وشكّلت إحدى قواعد نهضة الفن الحديث، وحتى
Haus of GaGa مستوحى من اسم مدرسة
الباوهاوس للفن الحرفي الحديث. والنافل أن ليدي غاغا استوحت اسمها من أغنية فريق الروك
الشهير «كوين» التي حملت عنوان «راديو غاغا» وليصبح اسمها الدال على أغنيات غريبة التصوير
والأزياء والكلمات والألحان أيضاً.
ليدي غاغا واسمها الأصلي ستيفاني جوان أنجلينا جيرمانوتا،
وُلِدت في نيويورك عام 1986، تبدو في مؤشرات صعود نجوميتها وكأنها أيقونة الثقافة الأميركية
الشعبية الجديدة، فإذا كانت مادونا أيقونة الثمانينات، وبريتني سبيرز وكريستينا أغيليرا
تنافستا بقوة على اللقب في التسعينيات من القرن الماضي، فغاغا تبدو أقرب إلى اختصار
فنانات اليوم، إذ يشعر الجمهور بأنها مقلَّدة من الجميع مع أنها ليست أكثر من استنساخ
للماضي بأساليب جديدة، وهي من دون شك قلّدت مادونا الى درجة أصبحت نسخة أصلية في التقليد.
أكسسوارات
ليدي غاغا الشهيرة بأزيائها الغريبة وتسريحات الشعر
الفاقعة اللون، وحتى الأكسسوارات الأكثر غرابة بما في ذلك النظارات المرصّعة بالأحجار
الأصلية والمزيفة على حد سواء، تجتر أشياء سبق رؤيتها سواء في الأزياء أو الإطلالات،
إذ تستنسخ نجوم البوب روك المعروفين بغرابتهم (مادونا، ماريلين مونسون، كريستينا أغيليرا
أو بريتني سبيرز). أما في الأغاني، فقد اتُّهمت بالانتحال سنة 2009 من المغنية الإيرلندية
روازين مورفي.
غاغا أيضاً إبنة مستثمر في الإنترنت، وحسب توم كورسون،
نائب رئيس «إر سي أي ميوزيك» الذي سألته أخيراً الـ{وول ستريت جورنال»، فإن ليدي غاغا
تمثّل حزمة وسائط متعدّدة كاملة. ففي الخامسة والعشرين من عمرها بنت المغنية الأميركية
لنفسها دون غيرها مركز «ما بعد بعد الحداثة»، بل إنها تبقى أكثر ممثلاته وفاء.
قد يبدو غريباً الحديث عما بعد الحداثة، وعن صورة
غاغا بالنسبة إلى بعض الفلاسفة الكلاسيكيين أو التقليديين. لكن في الواقع تبدو هذه
النجمة هي النموذج والأمثولة لتفسير ظاهرة ما بعد الحداثة، وهي القشرة التي تعبّر عن
الجوهر أو المضمون. ويعود حدث موت ما بعد الحداثة في الواقع إلى نهاية سنوات التسعينيات،
هكذا وفي ظلّ مجتمع يخضع للاستهلاك المفرط ولندوب رقمنة المضامين، يرى الفيلسوف جان
– فرانسوا ليوتار، أن ما بعد الحداثة هي مرحلة الطعن في روايات الماضي والحاضر.
عموماً، لم يتّفق المفكّرون بعد على تعريف واحد
واضح لما بعد الحداثة، لكن الفكرة الأساسية وراء ذلك المفهوم تقوم على الاعتقاد بأن
أساليب العالم الغربي في الرؤية والمعرفة والتعبير طرأ عليها في السنوات الأخيرة تغيّر
جذري ناجم، غالباً، عن تقدّم هائل في وسائل الإعلام والاتصال والتواصل الجماهيري، وتطوّر
نظم المعلومات في العالم ككل، ما ترتّب عليه حدوث تغيرات في اقتصاديات العالم الغربي
التي تعتمد على التصنيع، وازدياد الميل إلى الانصراف عن هذا النمط من الحياة الاقتصادية،
وظهور مجتمع وثقافة من نوع جديد.
ثمة فكرة جوهرية أخرى يعود إليها نيكولا بَيجير
للحديث عن ظاهرة غاغا وهي مقالة للفيسلوف الألماني والتر بنيامين الذي اعتبر أن إعادة
إنتاج العمل الفني تضيّع هالته بسبب فقدان الأصل. والحال، أن هذا الأمر ينطبق على غاغا
أكثر من غيرها من المغنيات، فكأن الفيلسوف الألماني كان يكتب ليصفها في زمانه، ومع
أن مجموعة أعمال بنيامين تتردد فيها أفكار ملهمة عن الحداثة بكل أوجهها، لكن من المحتمل
أنه ما من عمل قد جذب انتباهاً أكثر من مقالته «العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج الميكانيكي»،
لا سيما في النقاش حول «ما بعد الحداثة». ومع أنها كُتبت بنبرة التحليل السياسي لإعادة
إنتاج العمل الفني، لا سيما في عصر الأفلام والتصوير الفوتوغرافي وإمكان وصول الجماهير
إليها، إلا أن بنيامين يقدّم في الواقع تحليلاً ذكياً لتغيير أساسي في نوعية العمل
الفني الجمالية. فحالما تذوي هالة الأصالة المحيطة بالعمل الفني كونه قابلاً لإعادة
إنتاجه، يتغير الإدارك الحسي وتتغير معه صيغة وجود الإنسانية بأكملها. كذلك، تجعل تقنية
إعادة الإنتاج المواضيع الفنية أقرب الى الحضور الجماهيري. والأكثر من ذلك، تنشأ معكوسية
معينة: أن العمل الفني الذي يعاد إنتاجه يؤدي الى كونه مصمماً لإمكان إعادة الإنتاج.
إلا أنه وفي عصر ما بعد – بعد الحداثة تحذف العينة
الأصلية من الذاكرة وتبقى النسخ المطابقة للأصل عرضة لتأويل دائم في دورة تعود إلى
نفسها بثبات. وهذا ما يحصل مع الليدي غاغا وهي النسخة، ولشدّة ما استُنسخت حلّت محل
الأصل.
ليدي غاغا الظاهرة الغريبة، في كلماتها لا ترثي
مشاعر الحب «السيئة» بحسب مزاج هذه الأيام، بل تمضي في مهمة «تبشيع» الأشكال السائدة
اليوم عاطفياً، لكنها حتى وإن قاربت السخرية في أدائها للمشاعر المتداولة، إلا أنها
لم تتخلّ عن خامة قوية في صوتها وبناء متين في سياق الكلمات حتى وإن جاء سياقاً غريباً،
وهي أصبحت مادة للتدريس في مدارس الولايات المتحدة في مادة بعنوان «سوسيولوجيا الشهرة»،
وهي على طريقة مادونا التي غنت قبالة صليب المسيح وأحدثت ضجة، فشنّت الكنيسة هجوماً
عليها لأنها جسّدت شخصية «مريم المجدلية». كذلك، نجد نجوميتها «ضاربة» بقوة بين فئات
من المجتمع، وإذا كان الكتّاب يستعملون ظاهرتها في سبيل تفسير فلسفي، فهي تكتب على
يدها اليسرى بالألمانية عبارات من شعر الألماني راينر ماريا ريلكه الذي طالما قيل إنه
شاعر الفلاسفة.
وبرأي أحد الكتّاب العرب، كي تستقيم عناصر اعتبار
غاغا «أيقونة» الثقافة الشعبية الأميركية، لا بد من اكتمال الحشد الرقمي للشهرة، فهي
الشخصية الوحيدة التي جمعت في صفحتها على الـ{فيسبوك» 10 ملايين معجب، متخطّية بذلك
الرئيس باراك أوباما.