لم تكن المسافة طويلة بين منزلنا ومنزل بيت عمّي حسن حيث كنّا «نحضر» مسلسل «عشرة عبيد زغار»، بل كانت عبارة عن «ممشى» صغير يفصل بين المنزلَين ولا يزال، لكنّ قطعها بعد انتهاء المسلسل ليلاً كان يتطلّب جهداً كبيراً وحبس أنفاس، خوفاً من أن يكون أنطوان ملتقى وزوجته لطيفة اللذان كانت شخصيّتهما ووجهاهما الأكثر تأثيراً ورعباً بين الشخصيّات الأخرى من شخصيّات المسلسل يتربّصان بنا. ولم يكن مسلسل الخوف لينتهي عند قطع المسافة القصيرة جدّاً والوصول إلى البيت والإيواء إلى الفراش، بل يستمرّ أحلاماً وكوابيس طيلة الليل. لكن لم يكن ذلك ليمنعنا من المثابرة على مشاهدة المسلسل، بل كان يعزّز الشوق لدينا لمشاهدته أكثر، فننتظر بفارغ الصبر الأسبوع ليأتي ويحين معه الموعد، فنتجمّع من جديد ونتحلّق أمام شاشة التلفزيون الذي كان يقف على قوائم خشبيّة ويغلّفه بيت خشبي أيضاً، والذي كانت تصنع له زوجة عمّي قماشاً مزخرفاً يليق به وبمكانته التي كانت تتوسّط غرفة الجلوس، حيث كانت تضع على سقفه التحف والمزهريّات تقديراً واهتماماً.
أمام إلحاحنا بتشغيل التلفزيون، يتقدّم عمّي فيزيح القماش عنه ويسحب جرّاره الخشبي، وما إن يكبس على زرّ التشغيل حتّى تنفرج أساريرنا وتبين ضحكاتنا فرحاً بمشاهدة البرامج التي كان يبدأ بثّها مساءً فقط وبالأبيض والأسود قبل أن تنتقل في ما بعد إلى الملوّن مع ألوان الـ «Pal» والـ «Secam».
لم يكن هناك من لوحات تحكّم (ريموت كونترول) تتنقّل بين المحطّات، بل كانت يد عمّي الخشنة التي لوّحتها الشمس وشقّقها تراب الأرض هي التي تدير ذلك المفتاح السحري الذي كان صوت تكتكته يُدخل الفرح إلى قلوبنا، متنقّلة بين قنوات تلفزيون لبنان 5 و11 اللتَين لم يكن من محطّات غيرهما، فتتمايل الصورة يميناً ويساراً، ويخشخش صوت التلفزيون، وعلى وقعهما كنّا نحبس أنفاسنا، لتعود الصورة ويستقرّ الصوت فنتنفّس الصعداء. ويبدأ الهرج والمرج وتتعالى الصيحات، ليقطعه صوت عمّي المرتفع بنبرته الحازمة «سمّعونا ياه»! فيبدأ المسلسل وتبدأ القلوب بالخفقان ويعمّ الصمت المكان، إلا من أصوات الممثّلين.
لا أدري لماذا احتلّ «عشرة عبيد زغار» هذا الحيّز من الذّاكرة وارتبط عرضه بحقبة زمنيّة كاملة. ولا أدري لماذا عرضه الآن بالألوان مذيّلاً بعبارة «من أجواء أغاتا كريستي» أثار هذا الجدل الواسع والنقد بين مَن شاهده بالأبيض والأسود بالأمس ويشاهده الآن وبنسخته الجديدة.
البعض رفض مشاهدته بنسخته الحاليّة بالرّغم من الأداء العالي لبعض الممثّلين مخافة أن تخدش هذه المشاهدة ذلك الحيّز الذي احتلّه المسلسل من الذاكرة. فمشهد «الدورسوار» وعليه التماثيل العشرة مترافقة مع الأغنية الخاصة بالعمل، إضافة إلى أداء كميل سلامة وسائر الممثلين، جميعها حفر في الذاكرة مشاهد لا تنسى.
لا أدري لماذا يصبح الخوف جميلاً عندما يرتبط بالذّاكرة ويحتلّ حيّزاً منها. الخوف بالأبيض والأسود يختلف عنه بالألوان، الخوف بالألوان لا لون له... كلّ شيء يختلف في الأبيض والأسود. أغاتا كريستي، العدالة، المجرمون، الوجوه، الديكور، نحن، خوفنا وكلّ شيء... إنّها النوستالجيا التي تحتضن كلّ شيء وتحوّله إلى «جميلاً».
«عشرة عبيد زغار» أغاتا كريستي بالأبيض والأسود، أبقى الذاكرة مكانها وثبّتها هناك عصيّة على اللون، ثبّتها هناك ونحن جزء منها بلا ألوان.. وجوهنا، ضحكاتنا وخوفنا بلا لون. سوى تلك الفكرة التي أرادت أغاتا كريستي أن تقنعنا بها وأن نذهب معها في تلك الرحلة المحفوفة بإشكاليّة معقّدة تحمل عناوين الجريمة والعقاب والعدالة الحتميّة التي لا مفرّ منها... عدالة أغاتا كريستي والمجرمون الذين كنّا نتعاطف معهم أحياناً ويمتدّ خوفهم إلينا لم تستمرّ طويلاً، فأتت الحرب وأطاحت بكلّ شيء، وحوّلت معها كلّ شيء إلى مسرح كبير، يُعرض عليه مسلسل مستمرّ من الجرائم المختلفة. مسرح لا يحتاج إلا إلى جزيرة ومركب ودعوات شوقي شاهين، وإلى صوت عمّي حسن صارخاً: «سمّعونا ياه»!!
التصنيÙ:
خارج السرب