تصدر قريباً ترجمة جديدة لرواية "التحول" لفرانز كافكا، بتوقيع الشاعر المغربي مبارك وساط، عن منشورات الجمل، هنا ملحق عن الرواية...
تصدر قريباً
ترجمة جديدة لرواية "التحول" لفرانز كافكا، بتوقيع الشاعر المغربي مبارك
وساط، عن منشورات الجمل، هنا ملحق عن الرواية بقلم المترجم.(خاص الرومي)
(ف. كافكا)
يقدِّم لنا كافكا واقعة "التّحوّل"
الجسدي لبطله، غريغور سامسا، في الجملة الأولى من قصّته الطّويلة،
"التّحوّل": « إذ استيقظ غريغور
سامسا ذات صباح، على إثر أحلامٍ سادها الاضطراب، وجد أنّهُ قد تحوّل، وهو في
سريره، إلى حشرة عملاقة ». بالطّبع، فإنّ تحوّلاتٍ من هذا القبيل هي من
تيماتِ أساطيرَ وحكاياتٍ وقصصٍ (خرافيَّةٍ وغيرِها)، وُجِدتْ، ولا شكّ، في
الغالبيّة العظمى من الثّقافات الإنسانِيّة. هنالك حالات معروفة – أدبيّا- لهذا
الصّنف من التّحوّلات، نجدُها، مثلا، في قصص كِتاب " التّحوّلات" لأوڤيد،
كما في "الحمار الذّهبيّ" لأپوليوس،
وفي العديد من قصص "ألف ليلة وليلة"، على سبيل المثال لا الحصر. ولا شكّ
أنّ قصص هذا الصّنف من التّحوّلات، في بعض الثّقافات، وفي الأزمنة القديمة على
الخصوص، كانت تجدُ في الاعتقاد في التّناسُخ ما يسندها في المخيال الشّعبيّ. في
قاموس "مُحيط المُحيط" (للمعلِّم بطرس البستاني)، وفي مادّة
"المَسْخ"، نقرأ ما يلي: «
مَصْدَرٌ. وعند الحكماء انتقالُ النّفس النّاطقة من بدن الإنسان إلى بدن حيوانٍ
آخر يُناسِبُه في الأوصاف كبدن الأسد للشّجاع وبدن الأرنب للجبان. وهو من أقسام
التّناسُخ...». وفي
"ألف ليلة وليلة"، نجد أنّ هذا النّوع من "التّحوّلات" يَكونُ
نتيجةًلِعمليّاتِ "مَسْخ"، تتمّ، عامّةً، بإرادة شخص ذي قدرة خارقة
(سِحْرِيّة)، إذْ يُسَلِّطُها على شخصٍ آخر، فينقلب هذا الأخير، بمفعولها، إلى
مِسْخٍ، أيْ إلى حيوان أو كائن نصفُه إنْسان ونصفهُ الآخر حجر... وكما كانت هنالك
قصص أسطوريّة لدى اليونان القُدامى عن عمليّات مَسخ يُقدِم عليها آلهتهم تجاه بعضٍ
من بني البشر، فإنّنا نجد مِنْ رواة الحديث النّبويّ المُسْلِمين، من يروي، مثلا،
حديثًا يُنْعَتُ ب"حديثِ الضِّباب"، وفيه أنّ «أمّة
من بني إسرائيل مُسِخَتْ في الأرْضِ دوابَّ...»وقدْ
آثَرْنا اعتماد كلمة "تحوّل"، عوض "مَسْخ"، كعنوان لقِصّة
كافكا الطّويلة المنشُورة في هذا الكتاب، لأسباب، نذكُرُ بعضها في ما يلي:
2- لا تَحْكي قصّة كافكا هاته سيرورةً ما
مُفَصّلةً لِ"تحوُّلِ" غريغور سامْسا إلى «حشرة عملاقة»، فهيلا تروي لنا،
مثلا، كيف أنّ شخصاً ما يَقوم بانتهاك مُحَرَّمٍ ما– كما في أغلب قصص كتاب
"التّحوّلات" لأوڤيد، على سبيل المثال- فيحلّ به عقابٌ إلهي أو لعنةٌ
يَتِمّ بمُقتضاها«مَسْخُه»، ولا هي تحكي لنا عن وقائعسبّبتْ ضغينةَ إلهٍ ما على
ذلك الشّخص الافتراضيّ، فقام بِ«مَسْخه» ( كما في بعض الحكايا الأسطوريّة
اليونانيّة)، كما أنّها لا تروي لنا أحْداثًا أدَّتْ إلى تعرُّضِ ذلك الشّخصِ،
الافتراضيّ دائمًا،لِنِقمةِ ساحرٍ، مِمّا جعل هذا الأخير «يَمْسَخُه»، أي
يُسَبِّبُ لهُ تحوّلا جِسْمانيًّا خارقا ومُخيفًا– كما هو الحال في عدد من القصص
الواردة في "ألف ليلة وليلة"، على سبيل المثال - بل إنّ تحوُّلَ غريغور
سامْسا إلى «حشرة عملاقة» يُقَدَّمُ إلينا في الجُملة الأولى من قِصّة كافكا هاته
ببساطة تامّة، كما لو أنّ الأمر عبارةٌ عن حَدَثٍ عاديّ،لا يحتاج سببًا خاصًّا لِيَقَع.
يُمكِنُ القول بأنّ تلك الواقعة تبدو، بقلم كافكا، شبيهةً بأكسيومٍ رياضي في
كونِها لا تتطلّبُ تبريرا ولا تفسيرا، أيْ أنّه ليسَ لها «ما قَبْلها»، فكلُّ ما
هنالك هو أنّ ثمّة تحوُّلا جسديًّا قد حدث(وهو تحوُّلٌ رهيبٌ ولا شكّ، ولكنّ غريغور
سامسا نفسه لا يستشْعِرُهُ كذلك). هكذا يكونُ الكلامُ عن «مَسْخ»، بصدد قِصّة
كافكا التي تعنينا هاهنا، أمْرًا مناقِضًا – ومُقَوِّضًا- للمنطق الدّاخليّلتلك
القِصّة.
3- تبدأ قِصّة كافكا هاته بالجملة التي
أوردناها سابِقًا: « إذ استيقظ غريغور سامسا ذات صباح، على إثر أحلامٍ سادها
الاضطراب، وجد أنّهُ قد تحوّل، وهو في سريره، إلى حشرة عملاقة ». يُقَدَّمُ لنا
"التّحوّل" الذي طرأ على أنّه لا يدعو حَقًّا إلى الاستغراب، على أنّهُ
واقعةٌ بسيطةٌ وَقَعتْ وكفى، كما سبق الإلماعُ إلى ذلك. فَتعبير «وجد أنّهُ قد
تحوّل، وهو في سريره، إلى حشرة عملاقة»، يتّسِمُ، في هذه القِصّة، بنفسِ بساطة
عبارةٍ من قبيل: «وجد أنّ العرق ينضَح من جبينه»، أو «ألْفى نفسَهُ مزكومًا»...
ولِذا، فإنّ عددًا مِن الدّارسين يُلِحّون على أنّ الفنتاستيك في قِصّة كافكا هاته
يَنحصِر في هذا المُعْطى الأوّل، وبعدَهُ، وإثر تقبُّله من طرف القارئ كما يستوجبُ
ذلك الميثاق الضّمني بين كتّاب السّرد القصصيّ وقُرّائهم (وهو ميثاق ينصّ، من بين
ما ينُصّ عليه، على كَبْحِ أوْ تعليق عدمِ التَّصْديق)، تكتسي القِصّةُ صبغةً
واقعيّةً (وصفث الحياة اليوميّة لعائلة غريغور البورجوازيّة الصّغيرة بعد ما وقع
لغريغور، والحياة اليوميّة لغريغور نفسِه،وهو في هيئته الحَشَرِيّة المُكْتَسَبة،
وقدْ بقي وَعيه وعواطفه على ماكانتْ عليه قبل "التّحوّل"...).
4- إنّ تحوُّلُ غريغور البَدَنِيّ سيُشَكِّلُ
فاتحةً لِتَحوُّلٍ آخر، هو ذاك الذي سيطرأ على عائلتِه. وإذا كان كافكا ينتهي من
مسألة التّحوّل البدني لِغريغور في جُملةٍ واحدةٍ هي أُولَى جمل القِصّة المسرودة،
فإنّ "تحوّل" العائلة هو الذي سترويه لنا هذه القصّة وتجعلُنا نَلْحظ
تجليّاته ومظاهره، وما ينتج عنه بالنّسبة لغريغور منِ سيرورة لا مفرّ منها نحو
نهايته ككائن منبوذ تتمّ التّضحيّة به... يتبدّى تَحوّلُ العائلة هذا، من جهة، في
كون الأب – وهو الشّيخ الذي كان قد أصبح مهدود القوى نتيجة إفلاسه وتقاعده- قد بدأ
في استعادة قواه شيئًا فشيئًا، ومن جهة ثانية، في التّبدّلات التي تطرأ على سلوك
الأخت تجاه غريغور، ومن جهة ثالثة، في غَلبة الاشمئزاز لدى الأمّ، في نهاية
المطاف، على الحنان... وفي هذا السِّياق، نجد غريغوروقد أصبح تلك الحشرة العملاقة،
ذلكَ«الشّيءَ» الذي لا يُسَمّى (كما ستنعتُه الخادمة، لدى إخْبارها عائلته بأنّها
أزاحت عن كواهلهم عِبْءَ التّخلُّصِ منه)، يُشَكّلُ موضوعًا للنّبْذ وللكُره، ثُمّ
تتمّ التّضحيّة به ويقبلُ هو أنْ يُضَحَّى به، عنْ طيب خاطر، إذا جاز التّعبير... ولا
تُحَمِّل القِصّةُ أفرادَ عائلة غريغور وِزْرَ ما يَحُلُّ بهذا الأخير، فهُمْ، في
نهاية المَطاف، ليْسُوا أحسنَ منغريغور الذي كان قبل التّحوّل ولا أسوأَ منه،
وإنّما هنالك وضْعٌ جديدٌ– يتجلّى في كون غريغور أصبح عديم الفائدة، اقتصادِيًّا،
بالنّسبة للعائلة، مثلما أصبحت هيئته الجسمانِيّة مثيرة للاشمئزاز الشّديد (وحتّى
للخوف، من طرف الأمّ ومُسَيِّرِ الشّركة، مثلا)–وهذا الوضع هو الذي نتج عنه ما نتج
من تحوّلات، كان من بين ما أدّتْ إليه أنّ غريغور قُضِيَ عليه بالمُضِيّ، تدريجيّا
ولكنْ حَتْمِيًّا،في اتّجاه نهايته التي لا نَشْعُرُ بأنّها مأساويّة تمامًا، إذْ
يُخامِرُنا الإحساسُ، أيْضًا، بِكونِها مُخَلِّصة...
على مُسْتوى نصّيٍ، نجد
أنّ عددا من دارسِي "التّحوّل"، من وجهة نظر لسانيّة أو باعتماد طرائق
الشِّعْرِيّة، لاحظوا أنّ عمليّة السّرد تتمّ، في الغالب الأعمّ، من وِجْهة نظر
الشّخْصِيّة الأساسِيّة، أي غريغور نفسه، ولكنْ مَعَ وُجود وجهة نظرٍ أُخْرى،
خارجيّة، قد تختلف مع وجهة نظر غريغور، بل وقد تكون مناقِضَةً لها، إضافةً إلى
كونها تُقَدِّمُ لنا مُعْطَيات لا يُمكن لغريغور أنْ يَقِفَ عليها، بِسببٍ من
انحباسه، على امتداد القِصّة تقريبًا، في غُرْفته،التي تكون مُنغلقة عليه في
الغالب الأعمّ. وهنالك من الباحثين من اعتبر أنّ ازدواجِيّة وجهتي النّظر ناجمةٌ
عن الازدواجِيّة التي يعيشُها غريغور، إذ إنّ له جسمَ«حشرة عملاقة»، من جهة، ووعيَ
وعواطفَ غريغور السّابق، أي الذي كان ذا هيئة آدمِيّةٍ لا غُبارَ عليْها، من جهة
أخرى. وتقنيّة الازدواجيّة السّرْدِيّة هاته تُمَكِّنُ
من إيراد الأحداث والمشاهد التي لا يُمْكنُ غريغورَأنْ يكون شاهِدا عليها، بِسبب
محدوديّةِ مجالِ حركته، من وجهة النّظر الثّانية، الخارجيّة. هذا مثال عن تبنّي
السّاردلوجهة نظر غريغور: « إلّا أنّه [ أي
غريغور ] اضْطُرّ إلى الاعتراف لنفسه بأنّهُ لن يقوى على احتمال ما يحدثُ لِوقتٍ
طويل. فقد كانتا تُخليان غرفتَه من محتوياتها، كانتا تنتزعان منه أحبَّ الأشياء
إليه! فهما قدْ أخرجتا الخزانة التي يوجدُ فيها منشارُ زخرفةِ الخشب وأدواتٌ أخرى،
والآن كانتا تقتلعان منضدة الكتابة، المُسَمَّرَةَ تقريبًا إلى الأرضيّة، تلك
المنضدة التي كانَ يُنْجِزُ عليها فروضه أيّامَ دراسته في مدرسة التّجارة، وحين
كان تلميذا في الثّانويّ، بل وحتّى في زمن المدرسة الابتدائيّة.» وهنا، مثال آخر،
لكنْ، في هذه المرّة، عن عملِيّة السّرد وهي تَتِمّ من وِجْهة النَّظَرالخارجيّة: «فيما
تكون المرأتان، في مكانٍ مُجاور، تتركانِ دموعَهُمَا تتمازج، أوْ تُسَمِّران
عيونهما على المائدة، من دون حتّى أنْ تبكيا»، فهذه العبارة تَصِفُ لنا واقعة لا يُمكِنُ
أنْ يُعايِنها غريغور، إذ إنّها تقع بعد أن تكون أختُه غريتِهْ قد أغلقتْ عليه باب
غرفته... والقول بأنّ السَّرْد يتمّ في غالب الأحيان من وجهة نظر غريغور، لا يعني
أنّه كان بإمكان الكاتب اعتماد شخصيّته الرّئيسة تلك كسارد يتحدّث، بشكل مباشِر،
بضمير المُتكلّم. فغريغور، كما بَيّن ستيفان مُوزيسْ، كان قد أصبح في حال من تفكّك
الهُويّة أَدَّتْ إلى استحالة أنْ يُعَبِّر هو عن هُوِّيَته: فوعيُه وجسدُه أصبحا
غريبين تمامًا بالنّسبة لبعضهما البعض، ووعيُه ما عادَ يَسْكُنُ جَسَده الجديد،
ولذا، فليس واردا أنْ يقول: «قوائمي»، مثلا، أو «قرنَي استشعاري»... وهكذا، فحين
يتعلّقُ الأمر بالحديث عن جسد «الحشرة العملاقة» الذي أصبح لغريغور، في غرابته
المطلقة بالنٍّسْبة لوعيه، أيْ في حيوانيّته الخالصة، فإنّ السّارد يُضْطَرّ إلى
اعتماد وجهة النّظر الخارجيّة. وعلى العكس من هذا، فإنّ السّارد يتكلّم من وجهة
نظر غريغور، حين يكون هذا الأخير قادِرًا، عن طريق وعيه، على الإحاطة بما حوله
مِمّا يكونُ موضوعًا للسَّرد.
وإذا كانت الدّراسات
النّصّيّة ل"التّحوّل" قد أَوْلَت كلّ الاهتمام لِلعلاقات الدّاخليّة
والمنطقِ الدّاخليّ للنّصّ، ولما يُشَكِّلُ «أَدَبِيَّتَه»، فقبلها وحتّى
بموازاتِها ظهرتْمُقاربات تأويليّة لِ"التّحوّل".في العادة، يُصَنّف
الباحثون المُقارباتِ التّأويليّة لِهذا النّصّ في خاناتٍ ثلاث، هي: 1- التّأويل
السّسيولوجي(والسّياسيّ). 2- التّأويل التّحلينَفْسيّ (أي من زاوية نظر التّحليل
النّفسيّ). 3- التّأويل الميتافيزيقي.
1- التّأويل
السّوسيولوجي: يُمكنُنا أنْ نأخُذ كنموذج عنه دراسة السّوسيولوجيّ الفرنسيّ
بِرْنار لاهِيرْ، "فرانتس كافكا. عناصر لنظريّة في الخَلْق الأدبيّ"
(لاديكوڤيرتْ، 2010). في هذه الدّراسة يعملُ لاهيرْ– حسب ما أعلنه هو نفسُه- على
الوقوف عند ما كان فرانتس كافكا يعيشُه وهو يكتب "التّحوّل": فهذا
الأخير كان، وقتَها، يعيشُ وضعًا صعبًا للغاية داخل أُسْرته، إذ بدا رافِضًا، من
خلال اختياراته، أنْ يَتولّى الأنشطة التي تكفُلُ له الاضطلاع بالإرث الذي
سيُشَكِّلُهُ لهُ رأسمال والده هِرْمانْ كافكا - فهذا الأخير كان تاجرًا ناجِحًا-
وعِوض ذلك، اختار فرانتس أنْ يشغلَوظيفةً تتطلّبُ الحدّ الأدنى من وقته، بحيْثُ يبقى
بمستطاعه تكريسُ معظمِ ذلك الوقت للكتابة الأدبِيّة. وهكذا كان يكتب في كُلِّ
ليلة، مُخَصِّصًا كامِلَ طاقته لما كان أبواه يعتبرانه عديمَ الفائدة. وكان له
أيضًا أصدقاء كُتّاب. وقد غضبَ الأبُ من أُسْلوبِ فرانتس في العيش، فنعتهبِ«الطّفيلِيّة»
- والكلمة، هنا، مفرد لِ«طُفيليّات»، التي تُطلَق، في العادة، على حشرات تعتاش من
أجسادٍ حيّة، مُمْتَصّةً دِماءَها، من دون أنْ تقضي عليها- فما كان من فرانتس إلّا
أنْ أخذَ استعارة«الطّفيلِيّة» تلك بِشكلٍ حرفِيّ، فتخيّلَ شَخْصِيّةَ غريغور
سامْسا، الذي يستيقظُ في أحد الأصباح فيجد نفسه قد انقلب، فعلا، إلى حَشَرة هائلة،
إلى كائن بَشِعٍ ومنالطُّفيليّات، ما دام لا يستطيعُ الاستمرار في مُزاولة عمله، وهكذا،
أصْبحُ يُخيفُ عائلته، ويقلبُ نظام الأشياء. ونُشِيرُ إلى أنّ بِرْنار لاهيرْ أَوْلَى
اهتمامًا كبيرًا للعلاقات المطبوعة بما يُنعَت بالتّناقُض الوجدانيّ، والقائمة بين
كافكا وأبيه- بما ترتّب عنها من صِراعات نفسِيّة لدى الكاتب-بِصُورةٍ يبدو معها
أنّ لاهيرْ، وهو السّوسيولوجيّ، يُعْطي أحيانا الانطباع بأنّه يُمارِسُ التّحليل
النّفسيّ. وفي الواقع، فهو يرى أنّ هذا النّوع الأخير من البحث– العلاقة بين الأب
والابن، هنا-ينبغي أنْ يدخل في نطاق اهتمام الباحث السّوسيولوجيّ، وبِصورة أدقّ،
في نطاق ما يُسَمّيه "ميكروسوسيولوجيا"...
وتجدر الإشارة، إذا تركنا جانِبًا تصوّرات
برنار لاهير، إلى أنّ قراءات سوسيو-سياسيّة مُعيّنة تعود إلى ثلاثينيّات القرن
العِشرين، كانتْ قد انتهتْ إلى اعتبار كافكا ماركسيًّا، وإلى أنّ قراءاتٍ أخرى، ظهرتْ
بعد الحرب العالميّة الثّانيّة، رأتْ في عددٍ من كتاباته تصويرا استباقيا، بصورةٍ
إبداعِيّة لها خصوصِيّاتها، لمعسكرات الاعتقال مثلا...
ويُشيرُ جيرار ريدَان وبريجيت ڤيرنْ-كانْ إلى
أنّ التّأويل السّياسيّ ل"التّحوُّل" يُرَكّزُ أساسًا على الاستلاب
الاقتصاديّ والاجتماعيّ لأسرةٍ تنتمي إلى البورجوازيّة الصّغيرة، ويعْتبرُ هذا
التّأويل أنّ«تَحَوُّل» غريغور الجسمانيّ هو بمثابة علامة على تمرُّده الفرديّ
ورفضِه لحياةٍ مُسْتلَبة، لكنّ التّمرّد الفَرْدِيّ لا يُجْدي شيئًا، وإنّما ينتهي
بِصاحِبِه إلى مزبلة التّاريخ، فيما تبقى الأوضاع الاجتماعيّة على ما كانتْ عليه.
2- التّأويل التّحلينفسيّ: يُشِيرُ الباحثان
المذكوران آنفًا (جيرار ريدَان وبريجيت ڤيرنْ-كانْ) إلى أنّ هذا التّأويل يتمّ من
خلال التّركيز على ما يُنعت في العادة بالمثلّث الأوديبي – أي على العلاقة بين كلّ
من الأب والأمّ والابن - وعلى الصّراع بين مبدأ اللذّة ومبدأ الواقع. ويُضيفان
أنّهُ، من زاوية النّظر هاته،تتمّ دراسة "التّحوّل" كما لو كان حلما، يمْكنُنا
من خلاله تتبّعُ آثار العلاقة الشّديدة الاضطراب بين الشّخصيّة الرّئيسة، أي غريغور،
وجسدِه، من جهة، وآثار تنامي عدم تواصُله مع الآخرين، من جهة ثانية. وإذْ تنقادُ
الشّخصيّة الرّئيسة إلى استيهامِها الفُصامِيّ، فهي تشعر بأنّها مَقْصِيّةٌ دون
وجه حقّ، فتُصبح كبشَ فداء، يُضَحَّى بها وتُضَحِّي بحياتها.
3- التّأويل الميتافيزيقي: وينطلق –حسب دراسات
معيّنة، من اعتبار أنّ المسار الشّخصيّ لغريغور في "التّحوّل"،
يُشَكِّلُ، في الواقع، بحثًا يعتمد طريقةً، جذريّةَ الطّابع، عن أنَاهُ الحقيقيّة.
ولكنّالقيم الرّوحِيّة التي يُجَسِّدُها غريغور ( فهو يتوخّى المُطلق ويسعى إلى مَثَلٍ
أعلى ترمزُ إليه الموسيقى خاصّةً) يَتِمّ، في نهاية المطاف، دَحْرُها مِنْ قِبَل
قوى الحياة التي تُمَثِّلُها عائلة سامْسا.
إنّ هذه الضّروب من التّأويل تتميّزُ بطابعها
الجِدّيّ، طبعًا، بل إنّها غالبًا ما تنبني على مُعْطيات في "التّحوّل"،
تتّسِم بكونها مُخيفة، أو مُجلّلة بالمرارة ومأساويّة الطّابع... فكيف نُفَسّر ما
يُقال من كون كافكا كان يقرأ قِصّته الطّويلة هاته لأصدقائه وهو يضحك؟ إنّ هنالك
من اعتبر أنّ ضحك كافكا ذاك كان ذا طابع دفاعيّ عن النّفس، مُنْطلَقُه أنّ
التّحوّل الجِسْماني لغريغور قد لا يَبْدو مُقْنِعًا لسامعي قِصّته، وهنالك من رأى
أن ذلك الضّحك، مِنْ قِبَل كافكا، كان يهدف إلى الحيلولة دون أنْ يُقيمَ سامعوه مُماهاةً
ما بين غريغور وبينه هو... ومع هذا، فإنّنا نجد أندري بريتون يُدرج عددًا من صفحات
"التّحوّل" في مؤلَّفه "أنطولوجيا الفُكاهة السّوداء"...
والواقع أنّ "التّحوّل"، في بعض المواضع، تُثيرُ لدى القارئ إحساسًا
بأنّ ثمّة تفكّهًا ما، «أسود» بكلّ تأكيد، من خلال بعض الوقائع الغريبة التي قد
تدفع القارئ إلى الابتسام، رغم كلّ شيء.نكتفي هنا بمَثَلٍ واحد، تفادِيًا للإطالة:
إنّنا نجد غريغور، بعد أنْ عاين بعضًا من ملامح تحوّله البدنيّ، الذي جعله يُصبِح «حشرةً
عملاقة» ذات قوائم دقيقة، يعود إلى التّفكير في بعض المظاهر السّلبيّةلِمهنته،
كأنْ لا شيء يُنغّص عليه الحياة سوى تلك السّلبيّات: «ولا شكّ أنّه حاولَ مئة مرّة[
أنْ ينام ]، مُغْلقا عينيه لِئَلا يرى مشهدَ قوائمه في حركتها الرّاعشة، ولم
يَكُفَّ إلا حين أحسَّ ببعض الألم الذي لا حِدّة فيه، والذي لم يسبق له من قبل أن
استشعره.«آه، يا إلهي»، قال في نفسِه، « أيّ مهنة متعبة قد اخترت! جَوَلانٌ، يومًا
بعد يوم. وعمليّاتُ البيع تُثيرُالأعصاب أكثرَ بكثير ممّا لو كانتْ في مقرّ
الشّركة نفسِه...»
لقد كتب كافكا "التّحوّل"
فيما بين 17 نونبر (تشرين الثّاني) و7 دجنبر (كانون الأوّل) من سنة 1912، كما يُسْتَخْلَصُ من الرّسائل التي كان
يتبادلها، وقتَها، مع فيليس باور –خطيبته
التي سينفصل عنها ثمّ يعود إليها أكثر من مرّة، دون أن يُقَيَّض لهما أنْ يتزوّجا،
لأنّه هو كان متمسّكا بوحدته، معتبرًا إيّاها ضروريّة له باعتباره كاتبًا. وفي
الفترة التي كتب خلالها "التّحوّل" (قبْلَهُ، لكنْ في نفسِ السّنة، كان
قد كتب "الحُكم"...)، كان كافكا يعيشُ مشكلاتٍ على الصّعيد المادّيّ وفي
نطاق الوظيفة، كماكانت علاقته بأبيه متوتّرةً، وعلاقته بخطيبته محكوما عليها بأنْ
تكون عابرةوعقيمة، وقدْ راودتْهُ فكرة الانتحار، كما اعترف بذلك لصديقه ماكس برود....
ويعتبر بيرنار لورتولاري- وهو صاحب ترجمة متميّزة ل"التّحوّل" إلى
الفرنسيّة، ومترجم عدد كبير جِدّأ من أعمال الأدباء الألمان إلى اللغة المذكورة -
أنّ كافكا لرُبّما يكون قد «أَعْدَمَ» جانبَهُ السّيّئَ هو نفسه، من خلال غريغور
سامسا. لكنْ، حتّى لو صَحّ هذا – يقول لورتولاري–فإنّ معنى قِصّة كافكا «يبقى في
مكان آخر»، كما أنّه«أكثرُ عمومِيّةً بكثير»، وبالنّسبة إلى لورتولاري، فإنّ «المادّة
الأوتوبيوغرافيّة تبقى مادّةً ليس إلَّا، وما يَمْنَحُها بِنْيةً هو مشروعٌ
سَرْدِيّ (...) يخلق، بتفرُّدٍ أَخّاذ، كتابةً يتحكّمُ فيها بأكملِها نموذجٌ
سلوكيّ، هو تحديدًا نموذجُ الإقصاء.»وهنا تكمن، فيما يخصّ قِصّة
"التّحوّل"،«قيمتُها الأدبيّة أيضًا، وسِرُّ نجاحها المُذهل».
ليست هناك تعليقات