Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

محمد شوقي الزين: "الكتابة الفلسفية: خطاب وممارسة".

تحدثتُ مع زميل في الجامعة حول ما أصبح يسمى "Faire de…". faire de l'histoire, faire de la psychanalyse, faire de la philos...


تحدثتُ مع زميل في الجامعة حول ما أصبح يسمى "Faire de…".
faire de l'histoire, faire de la psychanalyse, faire de la philosophie
كلمة "faire" لها ترجمات متعددة تبعاً للسياقات والاستعمالات: يمكن أن تكون "الفعل" بالمعنى الأرسطي القديم (praxis)؛ ويمكن أن تكون "الصنع" بالمعنى الأرسطي في الفبركة (poièsis): "ماذا تصنع؟" ترادف نوعاً ما "ماذا تفعل؟". لكن كان غرض أرسطو في التمييز بين "براكسيس" و"بويسيس"، هو التمييز بين النظري والعملي، بين ما له هدفه في ذاته (مثل التأمل والتفكير)، وما له هدفه في شيء آخر على مستوى الفعل المتعدّي (transitif) كما سماه توما الأكويني، مثل صناعة شيء خارج الذات، مثل البناء والفبركة اليدوية.
هذه الإشارة الأرسطية هي فقط لتبيان أن فكرة "فعل التفلسف" (نظرياً) لم ينسجم بعد مع "صناعة الفلسفة" (عملياً، وكما كان مشهوراً عند العرب القدامى). كانت الفكرة غريبة سوى مع تصحيح فتغنشتاين لـ"مؤسسة الفلسفة"، وميل جيل دولوز نحو الأخذ بفكرة أن الفلسفة هي بالتعريف صناعة: إبداع المفاهيم. وهل بالفعل يمكن للفلسفة أن تكون "بويسيس" حيث يكون هدفها شيء آخر، مع أن تركيبتها الحقيقية هي "البراكسيس" بحكم التفكير والتأمل الذي هو أساسها أو قاعدتها؟ فماذا نبني خارج الفلسفة؟ الرهان الذي أعوّل عليه هو هذا: نقل الفلسفة من "البراكسيس" إلى "البويسيس" أو على الأقل الجمع بينهما. لكن، مرة أخرى: ما عسى الفلسفة أن تبني شيئاً خارج خطابها الفلسفي القائم على التأمل والتفكير؟ نبني منزلاً أو نصنع شيئاً قابلاً للتداول والتبادل والتجارة والاستهلاك. ما الشيء الذي يمكن للفلسفة أن تصنعه خارج شرطها المذهبي؟ إنه "العلاقة" التي تتجسّد في الكتابة.
العلاقة مع المجتمع، مع الحق، مع القانون، مع السياسة، مع العمل. في أزمنة انتصر فيها الباراديغم الاقتصادي/الليبرالي (حول النماذج الثلاثة: الديني/اللاهوتي، السياسي/الأخلاقي، الاقتصادي/الليبرالي، أنظر: محمد شوقي الزين، "الإيالة والعيالة: نحو تأويلية في اعتبار سؤال السياسة"، مجلة "ألباب"، 2، 2014)، الفلسفة لها شيء تقوله وتفعله: في مجتمعات أخرى، الفيلسوف الطالب يتخرّج من الجامعة ليعمل مع المحامي أو القاضي، لأن له شيء يقوله بالمنطق والحِجاج والبرهنة (argumentation) ويفعله. له شيء يصنعه وهو الحكم؛ كذلك له شيء يقوله في المؤسسة الاقتصادية أو الاتصالية بفلسفة اللغة والتمثّل ودراسة النشاطات البشرية (ergologie)، لأن له الأدوات المفهومية في اعتبار الأشياء والأشخاص. الفيلسوف يصنع العلاقة بالكتابة، وهنا تكمن قوته.
جاء الحديث مع الزميل أن فكرة "faire de la philosophie" هي مدينة في صيغتها لميشال دو سارتو (Michel de Certeau) الذي كان أول من استعمل كلمة "faire de l'histoire" (سنة 1974) في دراسة حول منهج التاريخ وأدوات كتابة التاريخ، إلى درجة أن الدراسة ألهمت المشرفين على العمل الجماعي: جاك لوغوف (Jacques Le Goff) وبيير نورا (Pierre Nora)، فصدر الكتاب الجماعي تحت عنوان: "ممارسة التاريخ" (Faire de l'histoire) في ثلاثة أجزاء. أعتقد أن فكرة ميشال دو سارتو، التي ألهمت العديد من الحقول المعرفية في هذا المجال، يمكنها أن تكون مفيدة لنا في المجال الفلسفي الذي لم يتعوّد بعدُ على هذه الصيغ في المقاربة، ربما لانغماسه في التجريد. ولا يمكنني إلا أن أكون سارتوياً في نمط تفكيري الفلسفي، الذي عندما يرى المصطلحات والمفاهيم، فهو يراها أدوات للاستعمال لا مقولات للتقديس. الثلاثي فتغنشتاين-دولوز-دو سارتو من شأنه أن ينقذ تصوّرنا للفلسفة: ماهي الفلسفة؟ إنها صناعة العلاقة بالكتابة؛ أو بالأحرى: صناعة العلاقة بمجالات الفكر والحياة بالكتابة، في شكل منتوج نسميه النص أو الكتاب؛ وفي شكل مهارة (performance) تتعدى الكفاءة (compétence).
"كتابة الفلسفة" لا تختلف في طموحها عما يسمى في الأدبيات المعاصرة "كتابة التاريخ": مؤسسة صعبة، لأنها ليست كتابة بريئة ولو كانت جريئة؛ ولكن وراءها أطياف ورغبات وعلاقات. ينبغي فقط إيجاد التوازين بين القوى النشيطة كما ذهب يوهان هردر.

ليست هناك تعليقات