موسكو - رائد جبر
لم يسبق ان اثار امر بحظر فيلم سينمائي في روسيا كل هذه الضجة التي علت اخيراً بعد صدور القرار الرقابي بحظر الفيلم الشيشاني «امر بالنسيان». والفيلم الذي يجمع تقنيات التسجيل التاريخي في اطار درامي يعد اول محاولة سينمائية جادة لتقديم احداث شباط (فبراير) في العام 1944 على الشاشة الكبيرة، لكنه حظه العاثر انه جاء «في توقيت غير مناسب» كما قال احد النقاد.
يتناول «امر بالنسيان» مأساة الترحيل الجماعي القسري لسكان جمهورية شيشان - انغوشيا (كما كانت تسمى في العهد السوفياتي) الى سيبيريا بأمر من الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين. واللوحة المتعلقة بالفيلم، والتي ظهرت على شبكات التواصل الاجتماعي لقطات مسربة منه بعد قرار الحظر وتبرز حال الذعر والفوضى وفقدان الأمل في واحدة من اقسى المراحل في تاريخ شعوب المنطقة، رغم انها تبرز في الوقت ذاته «آلام الضحايا من الطرفين» كما قال منتج العمل رسلان كونانايف، الذي اصر على ان فيلمه حاول ان ينصف ضحايا الكارثة التي اسفرت عن ترحيل مئات الألوف في غضون ايام قليلة وقتل من اعترض على تنفيذ القرار. كما يبرز الفيلم آلام من اضطر لتنفيذ القرار الصادم ولم يجرؤ على اعلان العصيان على الأوامر العسكرية الصادرة.
هكذا يبدو مشهد الجندي الروسي المصدوم وهو يتلقى امراً بقــتل طــفل حـــديث الولادة لأنه صبي، فالأوامر كانت واضحة بالتخلص من الذكور. أو عندما يسمع القرار بأن تبدأ عمليات الترحيل في الخامسة صباحاً من ذلك اليوم المشؤوم وأن يكون التنفيذ حازماً ولا يرحم من يعترض. والمشهد ذاته يتكرر عندما تصدر الأوامر بإشـــعال النار في معــسكر اعـــتقال اقيم على عجل لجمع الرافضين لتــنفيذ القرار. وقال واضعو الفيلم انهم تعمدوا اجراء المراجعة بهذا الشكل حتى يزيلوا النظرية الخاطئة بأن «كل الروس متهمون بارتكاب المجزرة في شتاء 1944».
حرق بالجملة
واللافت ان مشاهد الحرق الجماعي بالتحديد شكلت الذريعة الرسمية لحظر الفيلم، ليس بسبب قسوتها ولكن لأنها «تحمل تزويراً للأحداث التاريخية ما يسبب بث الفتن وإثارة النعرات القومية»، وفق نص قرار وزارة الثقافة الذي استند الى قانون جديد يحظر تقديم «رؤية تاريخية مغايرة للأحداث» ويعتبرها محاولة لتزوير التاريخ.
وفي الرسالة الموجهة إلى منتج الفيلم أكدت الوزارة انها «لم تعثر في ارشيف اللجنة الشعبية للشؤون الداخلية في الاتحاد السوفياتي (جهاز الأمن الداخلي) على وثائق تثبت وقوع عمليات احراق جماعية في قرية خيباخ الشيشانية» ما وفر سبباً لاعتبار ان الفيلم احتوى مواد في تزوير للحقائق التاريخية.
لكن اصحاب اللوحة التي انتجتها «مؤسسة غروزني فيلم» وتمت عمليات المونتاج وتصوير غالبية مقاطعها الداخلية في الشركة الروسية العريقة «موسفيلم»، ابدوا استغراباً للذريعة المقدمة. واعتبر المنتج كونانايف ان قرار الوزارة اهانة لذاكرة الشعوب التي شهدت الكارثة، ومحاولة معاصرة لتزوير احداث تاريخية عبر انكارها.
وتساءل المنتج: «ماذا نفعل بـ 250 الف شخص كانوا شهوداً وتم التنكيل بهم وطردهم قسرياً الى سيبيريا وسجلت شهادات كثير منهم ممن لا يزالون احياء الى اليوم؟» وزاد المنتج الذي يقول ان جدته كانت بين المهجرين وشكلت قصتها الحافز لوضع الفيلم ان «حقيقة الآلاف الذين رفضوا التوقيع على اوراق الترحيل الإجباري وتم تجميعهم في قرية خايباخ قبل وصول الأوامر بإشعال النيران في معسكر الاعتقال، لا تقبل الجدل من الناحية التاريخية وقد اقرت بها لجنة التحقيق الروسية التي تشكلت بعد انهيار الدولة السوفياتية، كما ان كثيراً من اقربائهم مازالوا احياء ويذكرون كيف اختفت آثارهم تماماً يوم 27 شباط (فبراير) من ذلك العام». وأخيراً كما يقول المنتج فإن القرية نفسها لم تعد منطقة مأهولة منذ ذلك الوقت وظلت على مدى سبعين عاماً مزاراً يقام فيه الحداد كل عام منذ رحيل ستالين وإصدار قرار عودة المرحلين الى ارضهم.
وخلف هذا السجال يؤكد المنتج ان الفيلم لا يهدف الى تقديم رسالة سياسية، بل الى إنصاف ضحايا كثر، لم تسجل السينما مأساتهم، وأن «امر بالنسيان» لا يسعى لوضع مقاربات مع آليات السلطة الحالية لأننا «عمدنا الى تصوير سلطة اخرى ومجتمع آخر في سياق تاريخي محدد».
الرســالة المقــصودة واحدة وفق تأكيد صانعي الفيلم: الإنسان هو اغلى ما لدينا وهو خلق حراً، ولكن في تلك الســنوات تمّ تجاهل كل الحقوق الإنسانية وكانت ارادة شخص واحد قوي اعلى من القانون ومن ارادة المجتمع كله».
طابور خامس
ويبدو تأكيد منتجي الفيلم عدم جواز عقد مقارنات مع المرحلة الراهنة متعمداً بعد قرار الحظر، فالقانون الجديد الذي غدا حظر «امر بالنسيان» تدشيناً له، جاء على خلفية مواجهة سياسية غير مسبوقة مع الغرب، وضمن سلسلة قوانين اعتبرت من يخالف رأي السلطات «طابوراً خامساً في المجتمع تتوجب محاربته». المفارقة تكمن في ان تهمة «الطابور الخامس» هي نفسها حرفياً التي بنى عليها ستالين قراره بالتنكيل بالشيشانيين في حينها.
اللافت ان قرار الحظر اسفر عن رد فعل عكسي عند كثر من أهل الفن السابع محلياً وعالمياً، اذ اكد مخرج العمل حسين ايركيونف ان «امر بالنسيان» تلقى دعوات للمشاركة في مهرجانات دولية عدة بينها فينيسيا والقاهرة ودبي واليابان وبراغ، بعدما سقطت دعوته بفعل القرار عن مهرجانَي موسكو وكازان للأفلام الإسلامية.
اذاً سيتمكن المشاهد خارج روسيا من متابعة الفيلم الذي اثار هذه الضجة، وهذا يعني ان صناع الفيلم نجحوا جزئياً في اطلاق رسالته، لكن خلافاً لفيلم مماثل عن ترحيل تتار القرم من موطنهم في الحقبة نفسها سيبقى الفيلم موضوعاً داخل العلب في استديوات روسيا. علماً أن حظ فيلم الفيلم التتري كان افضل فهو عرض في مهرجان كازان للأفلام الإسلامية العام الماضي. اي قبل صدور القوانين الجديدة وقبل اندلاع المواجهة الجديدة مع الغرب، وإن كان لم يحظ تماماً بفرص المنافسة لأنه حرم من دخول المسابقة الرسمية في المهرجان بناء على توصية من الخارجية الروسية.
http://alhayat.com/Articles/3073834
لم يسبق ان اثار امر بحظر فيلم سينمائي في روسيا كل هذه الضجة التي علت اخيراً بعد صدور القرار الرقابي بحظر الفيلم الشيشاني «امر بالنسيان». والفيلم الذي يجمع تقنيات التسجيل التاريخي في اطار درامي يعد اول محاولة سينمائية جادة لتقديم احداث شباط (فبراير) في العام 1944 على الشاشة الكبيرة، لكنه حظه العاثر انه جاء «في توقيت غير مناسب» كما قال احد النقاد.
يتناول «امر بالنسيان» مأساة الترحيل الجماعي القسري لسكان جمهورية شيشان - انغوشيا (كما كانت تسمى في العهد السوفياتي) الى سيبيريا بأمر من الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين. واللوحة المتعلقة بالفيلم، والتي ظهرت على شبكات التواصل الاجتماعي لقطات مسربة منه بعد قرار الحظر وتبرز حال الذعر والفوضى وفقدان الأمل في واحدة من اقسى المراحل في تاريخ شعوب المنطقة، رغم انها تبرز في الوقت ذاته «آلام الضحايا من الطرفين» كما قال منتج العمل رسلان كونانايف، الذي اصر على ان فيلمه حاول ان ينصف ضحايا الكارثة التي اسفرت عن ترحيل مئات الألوف في غضون ايام قليلة وقتل من اعترض على تنفيذ القرار. كما يبرز الفيلم آلام من اضطر لتنفيذ القرار الصادم ولم يجرؤ على اعلان العصيان على الأوامر العسكرية الصادرة.
هكذا يبدو مشهد الجندي الروسي المصدوم وهو يتلقى امراً بقــتل طــفل حـــديث الولادة لأنه صبي، فالأوامر كانت واضحة بالتخلص من الذكور. أو عندما يسمع القرار بأن تبدأ عمليات الترحيل في الخامسة صباحاً من ذلك اليوم المشؤوم وأن يكون التنفيذ حازماً ولا يرحم من يعترض. والمشهد ذاته يتكرر عندما تصدر الأوامر بإشـــعال النار في معــسكر اعـــتقال اقيم على عجل لجمع الرافضين لتــنفيذ القرار. وقال واضعو الفيلم انهم تعمدوا اجراء المراجعة بهذا الشكل حتى يزيلوا النظرية الخاطئة بأن «كل الروس متهمون بارتكاب المجزرة في شتاء 1944».
حرق بالجملة
واللافت ان مشاهد الحرق الجماعي بالتحديد شكلت الذريعة الرسمية لحظر الفيلم، ليس بسبب قسوتها ولكن لأنها «تحمل تزويراً للأحداث التاريخية ما يسبب بث الفتن وإثارة النعرات القومية»، وفق نص قرار وزارة الثقافة الذي استند الى قانون جديد يحظر تقديم «رؤية تاريخية مغايرة للأحداث» ويعتبرها محاولة لتزوير التاريخ.
وفي الرسالة الموجهة إلى منتج الفيلم أكدت الوزارة انها «لم تعثر في ارشيف اللجنة الشعبية للشؤون الداخلية في الاتحاد السوفياتي (جهاز الأمن الداخلي) على وثائق تثبت وقوع عمليات احراق جماعية في قرية خيباخ الشيشانية» ما وفر سبباً لاعتبار ان الفيلم احتوى مواد في تزوير للحقائق التاريخية.
لكن اصحاب اللوحة التي انتجتها «مؤسسة غروزني فيلم» وتمت عمليات المونتاج وتصوير غالبية مقاطعها الداخلية في الشركة الروسية العريقة «موسفيلم»، ابدوا استغراباً للذريعة المقدمة. واعتبر المنتج كونانايف ان قرار الوزارة اهانة لذاكرة الشعوب التي شهدت الكارثة، ومحاولة معاصرة لتزوير احداث تاريخية عبر انكارها.
وتساءل المنتج: «ماذا نفعل بـ 250 الف شخص كانوا شهوداً وتم التنكيل بهم وطردهم قسرياً الى سيبيريا وسجلت شهادات كثير منهم ممن لا يزالون احياء الى اليوم؟» وزاد المنتج الذي يقول ان جدته كانت بين المهجرين وشكلت قصتها الحافز لوضع الفيلم ان «حقيقة الآلاف الذين رفضوا التوقيع على اوراق الترحيل الإجباري وتم تجميعهم في قرية خايباخ قبل وصول الأوامر بإشعال النيران في معسكر الاعتقال، لا تقبل الجدل من الناحية التاريخية وقد اقرت بها لجنة التحقيق الروسية التي تشكلت بعد انهيار الدولة السوفياتية، كما ان كثيراً من اقربائهم مازالوا احياء ويذكرون كيف اختفت آثارهم تماماً يوم 27 شباط (فبراير) من ذلك العام». وأخيراً كما يقول المنتج فإن القرية نفسها لم تعد منطقة مأهولة منذ ذلك الوقت وظلت على مدى سبعين عاماً مزاراً يقام فيه الحداد كل عام منذ رحيل ستالين وإصدار قرار عودة المرحلين الى ارضهم.
وخلف هذا السجال يؤكد المنتج ان الفيلم لا يهدف الى تقديم رسالة سياسية، بل الى إنصاف ضحايا كثر، لم تسجل السينما مأساتهم، وأن «امر بالنسيان» لا يسعى لوضع مقاربات مع آليات السلطة الحالية لأننا «عمدنا الى تصوير سلطة اخرى ومجتمع آخر في سياق تاريخي محدد».
الرســالة المقــصودة واحدة وفق تأكيد صانعي الفيلم: الإنسان هو اغلى ما لدينا وهو خلق حراً، ولكن في تلك الســنوات تمّ تجاهل كل الحقوق الإنسانية وكانت ارادة شخص واحد قوي اعلى من القانون ومن ارادة المجتمع كله».
طابور خامس
ويبدو تأكيد منتجي الفيلم عدم جواز عقد مقارنات مع المرحلة الراهنة متعمداً بعد قرار الحظر، فالقانون الجديد الذي غدا حظر «امر بالنسيان» تدشيناً له، جاء على خلفية مواجهة سياسية غير مسبوقة مع الغرب، وضمن سلسلة قوانين اعتبرت من يخالف رأي السلطات «طابوراً خامساً في المجتمع تتوجب محاربته». المفارقة تكمن في ان تهمة «الطابور الخامس» هي نفسها حرفياً التي بنى عليها ستالين قراره بالتنكيل بالشيشانيين في حينها.
اللافت ان قرار الحظر اسفر عن رد فعل عكسي عند كثر من أهل الفن السابع محلياً وعالمياً، اذ اكد مخرج العمل حسين ايركيونف ان «امر بالنسيان» تلقى دعوات للمشاركة في مهرجانات دولية عدة بينها فينيسيا والقاهرة ودبي واليابان وبراغ، بعدما سقطت دعوته بفعل القرار عن مهرجانَي موسكو وكازان للأفلام الإسلامية.
اذاً سيتمكن المشاهد خارج روسيا من متابعة الفيلم الذي اثار هذه الضجة، وهذا يعني ان صناع الفيلم نجحوا جزئياً في اطلاق رسالته، لكن خلافاً لفيلم مماثل عن ترحيل تتار القرم من موطنهم في الحقبة نفسها سيبقى الفيلم موضوعاً داخل العلب في استديوات روسيا. علماً أن حظ فيلم الفيلم التتري كان افضل فهو عرض في مهرجان كازان للأفلام الإسلامية العام الماضي. اي قبل صدور القوانين الجديدة وقبل اندلاع المواجهة الجديدة مع الغرب، وإن كان لم يحظ تماماً بفرص المنافسة لأنه حرم من دخول المسابقة الرسمية في المهرجان بناء على توصية من الخارجية الروسية.
http://alhayat.com/Articles/3073834