محمد الحجيري لم يُثر كاتب حديث ما أثاره الروائي التشيكي فرانز كافكا (1838 – 1924) من تعدّد القراءات واختلاف التأويل، فكلّ قراءة كان تر...
محمد الحجيري
لم يُثر كاتب حديث ما أثاره الروائي التشيكي فرانز كافكا (1838 – 1924) من تعدّد القراءات واختلاف التأويل، فكلّ قراءة كان ترى في الروائي أفكاره مُسقطةً همومه ومشاغله، ولا أظنّ أن أديباً واحداً اجتمعت المتضادّات في وصفه مثلما اجتمعت في كافكا، ففيما كان البعض يصفه بأنه واحد من عظام كتّاب الواقعية، اعتبره فريق آخر الإرهاصة الأولى التي دشّنت العبث الوجودي، وتهيّأ لآخرين أنه من وضع أسس الأدب السوريالي، وقد قرأه السورياليون من خلال الحلم واللاشعور والدعاية السوداء، وفسّر أصحاب الفكر الديني كتاباته مترسّمين خطى ماكس برود
فاعتبروها رموزاً وأليغورات وأمثولات وحكماً. أما أتباع المذهب الوجودي فوصلوه بكيركغارد وبنظريات العبث، وركّز أنصار التحليل النفسي من مارت روبير إلى جيل دولوز وفيلكس غاتاري على مشكلته الأوديبيّة، ورأى فيه آخرون ذلك الكاشف الألمعي عن فظائع القرن الماضي، الذي يسخر من كلّ شيء في الدنيا، أو ذلك الشخص المصاب بنزعة مرضيّة في بلوغ الكمال...
وتتابعت الشخصيات متنافرةً، فهو: اشتراكي، ملحد، مؤمن، متشائم، سوداوي، يهودي، إنساني، عابث، باحث عن الحقيقة، شاعر، وفاشل.
في المقدّمة التي كتبها الروائي الأميركي جون أبدايك لكتاب "فرانز كافكا، القصص الكاملة" يقول: "بعد مرور أكثر من قرن على ميلاده، يبدو فرانز كافكا كآخر الكتّاب المقدّسين والممثّل الأنبل للمصير الإنساني في العالم الحديث".
... إضافة إلى ذلك كلّه، كافكا في نظر بعض الشعراء شاعر قصيدة نثر (راجعوا قصصه القصيرة).
تكمن أهمية كافكا أولاً في تلك الجملة السحرية التي افتتح بها روايته الشهيرة "المسخ" التي تقول: "عندما استيقظ غريغور سامسا في الصباح وجد نفسه وقد تحوّل حشرةً كبيرةً (أو هامةً أو صرصاراً)". وسامسا "كانت له أرجل كثيرة تظهر نحيلة في شكل مثير للشفقة مقارنة ببقيّة جسمه". كان بنيّ اللون وتبلغ قامته من الطول المسافة الممتدّة بين مسكة الباب وأرض الغرفة. وهو أعرض من نصف الباب. لا يتحرّك فمه بالطريقة التي تتحرّك بها أفواهنا. وله، مثلنا، حاجبان ورقبة...
هذا الوصف للحشرة أشبه بالصعقة التي تصيب القارئ في الصميم؛ في الشعور الدفين، تجعله يتحسّس نفسه كأنه حشرة، أو كأن الانمساخ قد أصابه هو الآخر، خصوصاً أن الرواية سيكولوجية، إذ يقرأها المرء وكأنه يعيش بين ثنايا كلماتها وأحداثها، فقد جعل كافكا من تقنيّة الشعور بالذنب شِعراً وشعوراً أخّاذَيْن.
لم تنبثق الكافكاوية من شخص كافكا، بل من الحال التي أبدع في رسمها، فقد كان يتنبّأ بالمصير البشري في ظلّ مناخات الرعب التي انتشرت تحت الأنفاس الثقيلة
للأنظمة التوتاليتارية الكلاّنيّة؛ هنا وهناك انفلت الرعب من عِقاله وساد العبث؛ تحوّل الكائن البشري إلى ما يشبه الحشرة المذعورة.
على أن كافكا بحسب مواطنه الروائي ميلان كونديرا أيضاً حوّل مادّة مضادّة للشعر على نحو عميق (أي مادّة المجتمع البيروقراطي) إلى شعر عظيم للرواية. وفي هذا السياق يقول مارتن بفايفر وجان - ماري شتراوب في دراسة بعنوان "المفقود في المجتمع الصناعي"، نُشرت ضمن أعمال كافكا المترجمة الى العربية، إن المدهش في كافكا هو أنه كان الشاعر الأوّل - وحتى الآن الوحيد على الأرجح - لما يُسمَّى المجتمع الصناعي. وإضاءةً لهذه الجملة يكتب المترجم السوري إبراهيم وطفي بأن كلمة "شاعر" في هذا الكتاب تُستخدم في المعنى الأوروبي: مبدع أيّ أدب رفيع، موزوناً كان أم منثوراً، روائياً قصصياً كان أم مسرحياً.
في وسعنا أن نقول إن كافكا كان شاعراً بالمعنى الحقيقي للشعر، وفي شعره كثافة الشعور بالأشياء والتحوّلات والمصير البشري، وهو الممثّل الأبرز لروح العصر الحديث. لقد حقّق نجاحاً لافتاً في تصوير العدمية التي ألقت بظلالها الداكنة والكالحة على مجتمع فقد صلته بإله يمنح الفرد نوعاً من الطمأنينة الميتافيزيقية والاستقرار النفسي، تماماً كما نجح في كشف (وفضح) آثار العقلانية المفرطة للهيمنة البيروقراطية التي توقع الفرد في حبائلها العنكبوتية.
كافكا الموظّف
على عكس صورته المرسومة من خلال نثره ككاتب انطوائيّ ومستغرق في تأمّلات ميتافيزيقية وكابوسية، يُجمع كتّاب سِيَر كافكا و"محازبوه"، على أنه كان رجلاً عملياً في حياته المهنية حصل على ترقيات عدّة. اشتغل كافكا 13 سنة موظفاً في مكتب للتأمين ضدّ الحوادث في مملكة بوهيميا. هناك كانت مهمّته أن يكتب التقارير عن الحوادث التي تصيب العمّال. وقد كان على وشك أن ينال ميدالية الدولة "لإسهامه في تأسيس مآوي المتخلّفين عقلياً وتشغيلها" حين انهارت إمبراطورية الهابسبورغ عام 1918. ومارس كافكا تأثيراً قوياً على الكثير من الروائيين والشعراء، فأكثر قصصه إيجازاً قُرئت في وصفها قصائد نثر، والأمر نفسه في يومياته المتناثرة، ولا تنبع الحساسية الشعرية في أعماله من المؤثرات الشكلية، بل من الغرابة والغموض والبعد الفانتازي عبر أحداث غاية في الكثافة. وقد أتت هذه الحساسية تتويجاً لمرحلة برزت فيها الاتجاهات الحديثة في القصة والرواية، ونشأت حساسية فنّيّة جديدة بدأت في فضّ تقنياتها، وفي اختراق أشكال النثر: تحطيم السياق الزمني المتعاقب، انتهاك الترتيب السردي، تفجير اللغة وتحميلها طاقة شعرية عالية، وبالتالي لم يعد النثر محض وسيلة لتحقيق غاية وعظيّة، حيث الاعتماد على اللغة الإنشائية المباشرة، والاستطراد والإسهاب والشرح. بل اكتُشفت عناصر شعرية جديدة في النثر، وتبيّن أن في السرد شحنة شعرية كثيفة، وفي الإيقاع والحوار إحساس شعريّ عالٍ. ولهذا اعتبر النثر شكلاً من أشكال التعبير الشعري.
تميّزت كتابات كافكا في فترة ما، بقطع نثرية قصيرة تتراوح ما بين بضعة أسطر والثلاث صفحات، قائمة على فظاعة المحتوى، وغالباً ما نُشرت بعد وفاته إما كقصص قصيرة، وإما كـ"أمثولات". ومن بين هذه القطع "رسالة الإمبراطور" (ضُمَّت في ما بعد إلى الرواية القصيرة "سور الصين العظيم")، و"أمام القانون" (ضُمَّت كمدخل لرواية "المحاكمة")، وكأنهما تلخيصان مكثّفان، أو هامشان ممهّدان لهذين العملَين الطويلَين.
اقتصاد مجنون
يرى بعض النقّاد أن ثمة قطعاً نثرية كافكاوية تكاد تكون أشبه بقصائد نثر، بل ذهبت سوزان برنار إلى أن "رسالة الإمبراطور" تنطوي على توتّر يكاد لا يطاق يلخّص الحدث باقتصاد مكثّف إلى حدّ الجنون، وهذا السرد قد أثّر على بعض شعراء قصيدة النثر الفرنسيين في ثلاثينيات القرن الماضي.
كما يستند هؤلاء النقاد في اعتبارهم هذا، إلى فكرة مفادها أن ثمة في يوميات كافكا ورسائله ما يدلّ على أنه كان مطّلعاً على الأدب الفرنسي، وبالأخصّ على الترجمات الألمانية التي تمّت لقصائد بودلير ورامبو النثرية، بحسب ما يقول الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي في تقديمه لقصائد كافكا النثرية التي ترجمها صالح كاظم، ("إيلاف").
يعرف الجميع أن الجنس الأدبي الوحيد الذي كان كافكا واعياً له هو "الأمثولة"، نظراً إلى انهمامه، كما تؤكّد عشرات الصفحات في يومياته، في معرفة انتمائه اليهودي. لذلك تبحّر في تراث يهود أوروبا الوسطى، وكتب التلموديّات وتفسير التوراة المليء بالأمثولات، فوجد أن فنّ الأمثولة هو الأقرب إلى نفسه. عن ذلك يقول الجنابي إن الأمثولة تتميّز بصفتين هما من الصفات الأساسية لقصيدة النثر: الإيجاز والسرد. على أن للأمثولة صفةً ثالثة هي أن يكون ثمة حقل دلاليّ غرضيّ مشترك بين قائل الأمثولة ومتلقّيها. فمغزى أمثولة ما يقوم على مَن قالها، وفي أي حقبة قيلت، والظرف الذي فرضها، وإلى مَن هي مُوجَّهة. وإلا فمن دون ذلك تعود مجرّد حكاية لا غرضَ لها، أي لا جمهور معيّناً يضطر صاحب الأمثولة إلى إعطائه مفاتيح بين السطور لفهم المغزى المُراد من أمثولته. لكن كافكا ليس صاحب رسالة كالمسيح أو كإمبراطور أو صاحب دعوة له أتباع، لذلك فإن بعض ما كان يكتبه من قطع نثرية على طريقة الأمثولة، يُسبِّب، على نحو تلقائي، انزياحاً؛ عدولاً عن الأصل، منتجاً المطلب الثالث والأساسي لقصيدة النثر: اللاغرضية؛ المجانية المطلقة.
(*) روائي وكاتب لبناني
«الغاوون»، العدد 2، 1 نيسان 2008
ليست هناك تعليقات