كم من الوجوه اختبأت خلف تلك اللحية الأسطورية: وجه رجل حرب العصابات والخطيب الذي لا يكلّ، وجه قائد دول عدم الإنحياز، ومتلقّي الرشوة م...
كم من الوجوه اختبأت خلف تلك اللحية الأسطورية: وجه رجل حرب العصابات والخطيب الذي لا يكلّ، وجه قائد دول عدم الإنحياز، ومتلقّي الرشوة من السوفيات، وجه صديق المثقفين وسجّان الشعراء، وجه قاطع قصب السكّر، والعسكري عديم الإحساس... عدد لا يحصى من الوجوه، بقدر الأكاذيب الكامنة خلفها. وهل فيديل كاسترو هو شيء آخر غير تراكم الأقنعة التي عرف كيف يصنع منها أسطورة؟ ولكن القناع الذي يسقط اليوم هو من صنع الكوبي رينالدو سانشيز والفرنسي أكسل جيلدن، اللذين اقتربا من حقيقة الرجل العارية. حقيقة رجل في حياته العميقة هي غياهب من ظلام الديكتاتور.
الصحافي أكسل جيلدن هو أحد كبار المراسلين لمجلة «الاكسبرس»؛ وقد حاور رينالدو سانشيز، وهو شاهد ثمين، أحد الرجال الصامتين الذين عاشوا داخل السرايا الكاستروية، والذين نجد له المئات من الصور وهم واقفون بالقرب من الديكتاتور؛ انه رجل الآلة المجهول والضروري في آن. فرينالدو سانشيز بقي سبعة عشر سنة حارساً شخصياً لكاسترو، قبل أن يفقد حظوته ويرميه الزعيم في إحدى الزنزانات. هو رجل عاش بالقرب من كاسترو، شيء من ظله. وبعيونه شاهد فيديل كاسترو الخائن لعشيقاته ولأولاده غير الشرعيين، المالك لعشرات العقارات، المالك لجزيرة بعينها ولليخوت، واللاهي في الحفلات الماجنة على شاطئ البحر. رينالدو سانشيز رافق كاسترو في يومياته، التي كانت تتخللها نوبات من جنون الإضطهاد والعظمة، وهي عقدة كانت تدفعه إلى تسجيل كل شيء وحول كل شيء، والى تمرير ثيابه على آلة كشف الإشعاعات النووية بعد تنظيفها، وامتناعه عن شرب الحليب من البقرة نفسها، كل مرة بقرة لكوب من الحليب...
ورينالدو سانشيز كان ينظم رحلات كاسترو إلى الخارج ويشارك فيها. حيث كان يلاحظ مزيجاً من جنون العظمة والريبة وعبقرية سياسية فذة. ذلك ان الكاستروية تمدّ إشعاعاتها إلى خارج الجزيرة. بل استقبل كاسترو منذ اثنتي عشرة سنة مجموعة من رجال حرب العصابات الكولومبية، حيث قدموا له «سيف سيمون بوليفار»، بعدما سرقوه من متحف العاصمة بوغوتا؛ وهو مذاك، يضع هذا السيف على مكتبه. ورينالدو سانشيز كان مقرباً من كاسترو إلى حدّ انه التقى بشبيهه. اسمه سيلفينو الفاريز، له الجبين نفسه والأنف نفسه، وقد فرضوا عليه أن يرخي لحيته... ويحتاج كاسترو اليه عندما تسري شائعات عن إصابته بالمرض، ينزله إلى سيارته المكشوفة، وينظّم له نزهة في شوارع العاصمة هافانا... وهذه ليست مجرد شائعات. ففي العام 1983، كاد كاسترو أن يموت، وكذلك عام 1992، حيث لم ينجُ إلا بفضل إثنين من حراسه الشخصيين اللذين يحملان فئة الدم نفسها (-A)، وهي فئة نادرة.
رينالدو سانشيز يرى كل ذلك؛ لكنه شاهد أيضا على حفلات السكر التي كان يسترسل بها شقيق فيدل الأصغر، راوول كاسترو، وهو اليوم في السلطة ومقتنع، بعد إعدام الجنرال الشعبي أوشوا عام 1989، بأن دوره أتٍ لا محالة، هو أيضا. علينا أن لا ننسى بأن فيديل كاسترو هو قبل كل شيء ديكتاتور من أسوأ الأنواع، من النوع الذي يموت في سريره، وليس برصاص شعب غاضب. ديكتاتور قادر على التضحية بكل شيء، حتى أقربائه، حتى قناعاته. هكذا، فان الدولار الذي كان مكروها، صار مرحباً به. كذلك، فان المنفيين الكوبيين الذين كان يطلق النار عليهم وهم في عرض البحر يسبحون باتجاه الجزيرة، أصبحوا فجأة مدعوين إلى العودة، وبتسهيلات خارقة (...).
في كاسترو جنون ما، ولكن أيضا عقل، وهو عقل بارد، يحسب بدقة، وتسيطر البراغماتية فيه على الأيديولوجيا. لذلك لم تتحول كوبا إلى كوريا شمالية ثانية. فكاسترو يجد دائماً حلولاً لكل المشكلات، كلها سينيكية، كلها فعالة، مثل التداعيات الجيوسياسية، لفشل الثورات في أميركا اللاتينية أو إنهيار الإتحاد السوفياتي. هكذا يضع كاسترو أسس الإقتصاد الموازي، مدعوماً من شركات تابعة للقطاع العام والإحتكارات التجارية وبالرقابة على التهريب؛ وغرضه الوحيد ملء خزينة الدولة، التي تسمح له بالإستمرار على نمط حياته الباذخ، وتمويل الحلقات المقربة منه، وهي ضرورية لبقاء سيطرته على البلاد.
لا قانون ولا قناعات عند كاسترو. هو يدعم مهربي المخدرات ليسمم أميركا ويثري نظامه. لا مبدأ ولا أخلاق يثنيانه عندما تكون مصلحته الشخصية هي المعنية: طالما ان دعم المنظمات الإرهابية الباسكية أو الفلسطينية توجِد له عملاء وحلفاء. ولا يتردّد في إقامة شبكة من السجون السياسية السرية، التي تدين بالكثير للـ»غولاغ» السوفياتي. ويتكلم رينالدو سانشيز أيضا عن ديبلوماسي فرنسي أوقفته السلطات الكوبية بتهمة تهريب أعمال فنية ومجوهرات ثمينة، والذي تحول إلى جاسوس كوبي، يعمل حتى الآن في وزارة الخارجية الفرنسية... واذا كانت مجلتنا تخصص غلافها لعنوان كتاب رينالدو سانشيز «الحياة السرية لفيدل كاسترو»، ليس لأن شهادة صاحبها من الأهمية بمكان، وتغير قراءته قراءتنا للتاريخ المعاصر، بأسلوب شيق جذاب؛ ليس هذا وحسب، إنما أيضا، لأن الكاستروية ما زالت تخدع السذج، ولأنها مرفوعة مثل المرجعية لدى أصحاب الحنين لماركسية بالنكهة الكاريبية وثوريي التمثيليات المسرحية.
خمسة وخمسون عاما من التيه والقمع لم تطفئ المنارة المخيفة التي ما زالت تجذب الفراشات. في فرنسا، الزعيم اليساري جان لوك ملانشون لا يمكنه ان يتنكّر لهذا الإيمان، هو الذي يدعو إلى إنتفاضة شعبية مازجاً بين كاسترو والزعيم الفرنسي جان جوريس. كان يمكننا ان نهزأ من بلادنا التي انتجت المداحين الهزليين للديكتاتور الكوبي، مثل اليساري جيرار بورغوان، أو الممثل جيرار ديبارديو، من دون ان ننسى دانيال ميتران السيدة الاولى الضائعة. ولكن هذا الفلكلور قد يتحول إلى دراما، كما نرى اليوم في فنزويلا، حيث يواجه ورثة هيغو شافيز، آخر عناقيد الكاستروية، الكارثة الإقتصادية التي تسببوا بها، بحملة قمعية لا ترحم ضد شبابها الغاضب (...).
[كريستوف باربييه - مجلة «الإكسبرس» الفرنسية (21 ايار 2014)
http://www.almustaqbal.com/v4/article.aspx?type=NP&ArticleID=619305
http://www.almustaqbal.com/v4/article.aspx?type=NP&ArticleID=619305
ليست هناك تعليقات