عمر قدور كنا صغاراً يا صاحبي()، ولم نكن نترقب قدوم المونديال باللهفة التي يترقبها الصغار الآن، ولم يكن الإعلام المحلي حينها يعطي لكرة ال...
عمر قدور
كنا صغاراً يا صاحبي()، ولم نكن نترقب قدوم المونديال باللهفة التي يترقبها الصغار الآن، ولم يكن الإعلام المحلي حينها يعطي لكرة القدم مساحة واسعة لنطلع على تطورات الفرق العالمية بين مونديالين. لكن ذلك المونديال كان استثنائياً حقاً، وبينما نحن نترقب بدء مبارياته بدأت الحرب، بالأحرى بدأ الغزو الإسرائيلي، وخلال ثمانية أيام دخل الجيش الإسرائيلي بقيادة شارون إلى بيروت الشرقية ليبدأ حصاره لبيروت الغربية. لم نكن نعرف الكثير عن بيروت التي انقسمت بين غربية وشرقية، مع أن الإذاعات التي كان يستمع إليها الكبار تتحدث طوال الوقت عن واحدة مسيحية وأخرى إسلامية. هكذا كان يفعل على الدوام المذيع الذي يشدد على الكلمات ويتأنى بنطقها من إذاعة لندن، المذيع الذي طالما نفرنا منه وانتظرنا أن يُمنّ علينا بتبديل الموجة إلى إذاعة مونت كارلو الأكثر عصرية ورشاقة، حتى إذا استخدم مراسلها في بيروت المفردات نفسها.
كنا برازيليين في ذلك الوقت، حتى صديقنا الذي ينحدر من عائلة شيوعية يشجع البرازيل سراً في البيت، واضطر إلى كتم فرحته بالفوز بينما عائلته تتحلق حول التلفزيون لتشجع فريق الاتحاد السوفياتي، بقرار حزبي ربما. حينها لم نعلم بتلك الحلقات الشيوعية للكبار، التي بات عليها الخروج من مجلدات لينين وكتيّب «ما العمل» لتشجع فريقها العالمي العائد إلى المنافسة بعد ثلاث دورات، الرفاق البعيدون كل البعد عن الكرة لم يُمنحوا الوقت الكافي لتنمية معارفهم، وبعضهم اختلط عليه الأمر وراح يشجع البرازيل ظناً أن الفريق الأقوى لا بد أن يكون سوفياتياً.
كانت المحطة الحكومية الوحيدة تبث مباريات المونديال وأخبار الحرب، حيث يواظب المعلق الرياضي على تذكيرنا بمنّة نقل مباريات المونديال كافة، بينما لا يكل مذيع الأخبار من تقريع «الأمة العربية» على اهتمامها بالكرة وعدم الدفاع عن إحدى عواصمها. المعلق البارع يخبرنا بما نراه على الشاشة بصوت حماسي، فالكرة المرفوعة من فالكاو إلى سقراط تصبح «مرفوووعة»؛ ربما ورث تلك الطريقة من التعليق الإذاعي وفاته أن المشاهِد لم يعد بحاجة لمن يقول له أين هي الكرة الآن وكيف وصلت، الأمر الذي كان يجعله أيضاً غير قادر على الصمت عندما تتجه الكاميرا لترصد كرنفالات الجماهير على المدرجات، ففي كل مرة كان يخبرنا بأن هذه هي الطريقة الخاصة بالجمهور البرازيلي، ويذكرنا بأنهم يرقصون السامبا.
في هذا الجو بدا محتماً أن تمتلئ رؤوسنا بأسماء وشخصيات لا رابط بينها، وربما أن تختلط الصور ببعضها بعضاً، كأن تحضر صورة لاعب الدفاع الإيطالي «جنتلي» مع اسم شارون! ما كنا لنستوعب كل ما يحدث بالتزامن على الجبهتين، وربما كنا نظن أن مَن يدافع عن قلعة «الشقيف» مقاتلون أشبه بالفريق البرازيلي، بسبب الأساطير التي رويت عنهم آنذاك. إحدى تلك الأساطير أن طفلاً في الثانية عشرة من عمره دمّر أكثر من عشر دبابات بالآر بي جي. هذا الطفل الذي صدقنا وجوده ومآثره، منحنا الشعور بالفخر والخزي معاً، فلم يعد صغرنا يشفع لنا بمتابعة المباريات بدل الذهاب للدفاع عن بيروت. أما بيروت فظلت مستعصية على فهمنا بين شرقية وغربية وأسماء تتكرر في الأخبار، مثل «غاليري سمعان» الذي لا نعلم لماذا يقع الكثير من الحوادث في منطقته!
ثلاثة لن ننساهم لوقت طويل، لأنهم حرمونا من متعة المونديال، شارون وباولو روسي وفالدير بيريز؛ الأول بأسلحته التي كانت تدك بيروت وتدمر ثلثها ليأتي مذيع الأخبار ويوبخنا بسببه، والثاني الذي لم نرَه إلا وهو يتجول ببطء وترهل عند خط الدفاع البرازيلي ليقتنص ثلاثية في مرمى فالدير بيريز الذي ربما يستحق لقب أسوأ حارس لفريق الأحلام. سيزيد من شعورنا بالقهر أن باولو روسي لم يعد إلى الملاعب إلا قبل شهرين من المونديال، وكان يقضي عقوبة السجن بسبب فضيحة تتعلق بالغش في المباريات والمراهنات الكروية، كأنه أتى من القدَر فقط ليأتي على أحلامنا بفوز البرازيل، القدَر ذاته الذي جعل «زوف» حارساً لمرمى المنتخب الإيطالي بدل أن يكون حارس البرازيل؛ كنا نقارن بين الحارسين بنوع من الحسرة تزداد وطأة عندما نتخيل أن يكون للبرازيل حارس ببراعة الحارس السوفياتي داساييف.
نسمع تصريحاً لجورج حاوي، بما معناه أنه كان ينتظر أن تهتز العواصم العربية جراء الاجتياح فأتت التظاهرة الوحيدة في الجزائر فرحاً بانتصار فريقها الكروي على ألمانيا. يفسد علينا التصريح فرحة فوز الجزائر؛ أيضاً تختلط علينا الأسماء بسبب الشاعر خليل حاوي الذي انتحر احتجاجاً على الصمت والتخاذل حيال اجتياح لبنان. تزيد من المرارة المؤامرة التي تعرض لها منتخب الجزائر في مباراة ألمانيا والنمسا، التي أدت نتيجتها إلى إقصائه؛ كانت مظلومية مبكرة أن نرى خروج الجزائر بهذه الطريقة مع الاجتياح الإسرائيلي، وأن ننتظر تتويج الفريق الإيطالي الذي لم يفز بأي من مبارياته في الدور الأول.
كنا صغاراً، ولم يكن أحد ليكترث بإبعادنا عن الاستماع إلى نشرات الأخبار؛ كان التلفزيون متاحاً لجميع أفراد العائلة طوال الوقت، كذلك هو الأمر بالنسبة للراديو الذي يبقى على إذاعتي لندن ومونت كارلو في النهار، أي قبل بدء البث التلفزيوني آنذاك. كنا برازيليين لسبب نجهله، وربما لأن موضة تلك الأيام أن يبدأ الواحد شغفه بالكرة مشجعاً للبرازيل، ثم فيما بعد يختار فريقه المفضل. لذا لم يكن ليخطر في بال أحدنا أن البرازيل سترد الدين بعد ثلاث دورات فتقصي رفاق باجيو عن كأس العالم في الولايات المتحدة، لم يكن ليخطر في بال أحد أنه سيتجرع الكأس المرّة مرتين، مرة وهو يشجع البرازيل ومرة أخرى بعد أن يصبح من أنصار «كتيبة اللاعبين الوسيمين». المفارقة الأكبر كانت في أن إيطاليا بعد نحو عقد ستصبح أكثر برازيلية، وتتخلى عن الأسلوب الدفاعي القديم، بينما سيتجه المنتخب البرازيلي ليصبح أكثر انضباطاً وتكتيكية. صرح زيكو بعد وقت طويل بأن الكرة العالمية دفعت ثمن خسارة البرازيل أمام إيطاليا في مونديال 1982 بقوله: «لو أننا فزنا بهذه المباراة لكانت كرة القدم قد اختلفت عن يومنا هذا، فبدل اعتماد الأسلوب الهجومي بدأ التفكير في الخروج بنتائج بأي ثمن، وأصبحت كرة القدم تتمحور حول كيفية إيقاف تحركات الفرق المنافسة وعرقلة المنافسين». أضاف زيكو في تصريحه: «أنا متأكد من أنني إذا حاولت التقدم للاختبار في أحد أندية كرة القدم بمعايير اليوم فإنه سيرفضني».
لأننا كنا صغاراً، كان طعم الهزيمة أمضى في الوجدان، فخلال شهر من متابعة أخبار الاجتياح والمباريات راح العالم الجميل يتوارى أمام الأقوى، وكان الأقوى شريراً ولا حيلة لنا أمامه. كان الأقوى هو شارون، أو جنتلي الذي ترعب خشونته مهاجمي الفرق الأخرى، أو ألكسندر هيغ وزير خارجية الولايات المتحدة المناصر لإسرائيل بقوة. كان الأقوى هو بشير الجميل، قائد «القوات اللبنانية» الذي يقدمه لنا الإعلام المحلي كخائن، ولم نكن نتوقع حينها أن يأتي يوم نغير فيه من فرقنا الكروية المفضلة مثلما ستغير الوقائع من رؤيتنا السياسية، لم نكن لنصدق لو أخبرنا منجّم بأن «القوات اللبنانية» ستساند ثورة السوريين بخلاف من ظننا وقتها أنهم وطنيون. في الأصل، لم نكن حينها لنتخيل حدوث ثورة في بلدنا، وأن أطفالاً ربما في مثل أعمارنا سيخطون على حيطان مدرستهم شعارات مضادة للنظام. كنا أبرياء أكثر مما ينبغي، أو كنا سذّجاً كما ينبغي أن يكون الصغار عليه، فكان العدو دائماً يأتي من خارج الحدود، وكان الخصم هو الفريق المنافس قليل المهارات، الذي لا يجيد اللعب النظيف.
البعض منا فقط كان أكثر حساسية، واحد منا استطاع الحصول على تسجيلات لمباريات منتخب البرازيل، ليعيد مشاهدتها بين حين وآخر، وفي كل مرة كان يبكي بسبب الخسارة أمام إيطاليا كأنها حدثت للتو. على الرغم من ذلك، كانت هزيمتنا أقل وطأة، فقد كان زمناً لا يسمح لنا بالمغالاة. لم نكن نملك مثلاً ترف لبس قمصان لاعبينا المفضلين والزهو بها أمام أقراننا. الآن صار بوسع الأطفال عموماً الحصول على قمصان من طراز قمصان نجومهم المحببين. وقد لا ينتبه الكثيرون إلى أن الطفل الذي قُتل في حلب تحت قصف قوات النظام للمدينة بالبراميل المتفجرة كان يلبس قميص ميسي في نادي برشلونة، ذلك الطفل الصغير لو بقي حياً كان من أجل ميسي سيشجع بحماسة منتخب الأرجنتين، ويحلم بأن يصير نجماً على شاكلته. أما نحن الذين تفتح وعينا على مونديال 1982 فلن نملك الحماسة نفسها، لقد سبق لنا رؤية المونديال الحالي بشكل مشابه، وقد لا يتعدى الأمر حالياً أن نتابع مونديال 1982 مرة ثانية.
«كنا صغاراً يا صاحبي» لازمة استخدمها الكاتب سليم بركات في كتابه: سيرة الطفولة «الجندب الحديدي».
عن ملحق نوافذ
ليست هناك تعليقات