tي زمن الفردية والعزلة التي فرضتها الحياة المعاصرة، وانتشار كلّ ما هو افتراضي نتيجة التطوّر التكنولوجي الكبير الذي عرفه العالم، يطلع علي...
tي زمن الفردية والعزلة التي فرضتها الحياة المعاصرة، وانتشار كلّ ما هو افتراضي نتيجة التطوّر التكنولوجي الكبير الذي عرفه العالم، يطلع علينا مفهوم “التفاعل”، بحيث بتنا نسمع الكثير عن “التلفزيون التفاعلي” و”المسرح التفاعلي”، وحتى عن “التعليم التفاعلي” أيضاً.
فما هي سمات هذا المسرح، وما حاجتنا إليه اليوم؟
يبدو المسرح التفاعلي ضرورة اليوم، وردّاً صريحاً وواقعياً ملموساً على الجدار الذي شيّد بيننا كأفراد في المجتمع، وما نعيشه من وحدة في حياتنا اليومية. فقد ظهر المسرح التفاعلي في البداية، كمسرح ملتزم داخل المجتمعات، في وقت غابت فيه فكرة الالتزام. ظهرت هذه الصيغة المسرحية وتطوّرت نتيجة لعوامل عدّة، لها علاقة بتطوّر المجتمعات والصيغ الفنّية، أهمّها على الإطلاق كان ظهور المجتمعات المدنية والبحث عن أفق أو سبل موازية لمكافحة المشكلات التي يعرفها العالم المعاصر، والمشكلات التي تعاني منها الدول على اختلاف سياساتها(مثل الصراعات أو الحروب الاقتصادية وموضوعات الهجرة والمهاجرين والحروب..إلخ)، والتعامل مع القضايا التي خلّفتها العولمة، فاعتبر المسرح وسيلة مثل أيّ وسيلة أخرى لمعالجة هذه المشكلات على مستوى الأفراد والجماعات. لذلك نلحظ تهافت التمويل غير المؤسّساتي والمؤسّساتي على هذا النوع من المسرح.. وقد تعرفنا عليه ومارسناه من خلال برنامج للأمم المتّحدة للسكان وبطلب منهم.
ما هو المسرح التفاعلي؟ إنه مسرح يخلق علاقة تفاعلية مع جمهوره، وهو مسرح يختلف عن المسرح التقليدي، الذي يتعامل مع متلقيه كمستقبل غير مشارك. فالمسرح التفاعلي يقوم على المشاركة الواعية، وهو بذلك يختلف عن الفنون السلبية، مهما كانت طبيعتها (كانت هناك محاولات لإنتاج برامج تفاعلية على الشاشة الصغيرة طبعاً). هذا المسرح الذي سمّي في بعض الأحيان بـالـ “تحفيزي” أيضاً، يعتمد على المبدأ التفاعلي مع المشاركين لخلق علاقة بنّاءة تكون مفتاح بناء المسرحية ومبتغاها، وغالباً ما يشارك فيها المتفرج بالتمثيل ( إعادة تمثيل الموقف وإيجاد حلّ له أو تمثيل حكايته).
مع انتشار المسرح التفاعلي، صارت له استخدامات عديدة، أغلبها كانت في محلها، وإن جاءت بشكل عشوائي وسطحي أحياناً.
هذا التعريف البسيط له تاريخ طويل من الممارسة والتجربة، وصولاً إلى ربط هذا المسرح بالتعليم والتنمية المجتمعية والثقافة والأزمات، حتى السياسية منها، والحروب.
هذا التعريف البسيط له تاريخ طويل من الممارسة والتجربة، وصولاً إلى ربط هذا المسرح بالتعليم والتنمية المجتمعية والثقافة والأزمات، حتى السياسية منها، والحروب.
ظهر المسرح التفاعلي كردّة فعل لحركات المعارضة في أوروبا والولايات المتّحدة الأميركية بعد العام 1968، وقد تطوّرت صيغة هذا المسرح مع تطوّر شكل العالم الحالي والصراعات التي تحكمه. من الناحية المسرحية، كان هذا المسرح وليد صيغ مسرحية سبقته مثل مسرح الأغيت بروبagit prop في روسيا، والمسرح السياسي، والمسرح الشعبي، والمسرح الوثائقي، ومسرح الشارع، ومسرح العصابات، وكلّها صيغ مسرحية ظهرت في بدايات القرن الماضي، وتطوّرت مع كتّاب ومخرجين ومنظّرين ورجالات مسرح خلّفوا تأثيرهم في الحركة المسرحية في العالم ( أذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، أعمال الألمانيين برتولد بريشت وبيتر فايس، والفرنسي أندريه بينيديتو وغيرهم).
“مسرح المضطهد”
لكن المنظّر والممارس الأهمّ لهذا المسرح هو قطعاً البرازيلي ” أوغستو بوال”، الذي ابتدع صيغة “مسرح المضطهد” في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه. وقد أطلق اسم هذه الصيغة على تجربته المسرحية التي قام بها بدايةً في البيرو مع الفلاحين، ثم في بقية دول أميركا اللاتينية في السبعينيّات من القرن الماضي لمحو الأمية، ثم في أوروربا بعد السبعينيات.
كانت صيغة هذا المسرح في البداية صيغة مسرح شعبي يخدم قضايا المجتمعات المتخلفة أو النامية. وقد قدم ” بوال” معالجة نظرية لتجربته في كتب عدّة، منها بعد “مسرح المضطهد”، وفيه رفض النظام التطهيري الإكراهي عند أرسطو (الذي يعتمد على التماهي والتطهير، كما يحدث اليوم لمتفرج المسلسلات التلفزيونية)، وكل الفلسفات المسرحية السائدة، ومن ثم كل التظاهرات والتجارب المختلفة المعروفة في مناطق عديدة في العالم. كتب “قف إنه سحر”، ” قوس قزح الرغبة “، “ألعاب للممثلين وغير الممثلين”.. وفي هذه النصوص، التي استوحى منها أغلب العاملين في مجال المسرح التفاعلي في ما بعد، وضع ” بوال” أسساً لجمالية مغايرة، ولوظيفة جديدة للمسرح، واقترح أشكالاً مسرحية جديدة، منها المسرح الخفي، ومسرح الجريدة. من ذلك مثلاً، اعتماده مبدأ الإسكتش، أي المشهد القصير، الذي يعرض حلولاً لحادثة أو لحدث يبدو أنه واقعي، ثم يتطوّر إلى حدّ ما أمام المتفرج، ويُطلب من المتفرج من ثمة التدخل في الحدث أو المشكلة التي يعرضها المشهد لمناقشتها، وإيجاد الحلول اللازمة، لأن النهاية تكون غير معروفة ومفتوحة للنقاش دائماً. كما تقوم بإدارة هذه اللعبة الدرامية شخصية مستوحاة من شخصيات مسرح القرون الوسطى، وهي مديرة اللعبة ” الجوكر”.
المستند النظري الأساسي في هذا النوع من المسرح هو مبدأ التفاعل، التفاعل انطلاقاً من مفهوم اللعب في المسرح والحوار والمسرحة، اللعب الدرامي كما هو معروف عالمياً، والذي يستخدم في المجالات التربوية والنفسية والاجتماعية، وفي المدارس والإصلاحيات وغيرها. هنا تتمّ مسرحة الواقع، ومن ثم مناقشة أو محاكمة هذا الواقع بمشاركة الجمهور. وهو في كتاباته يقدّم توصيفاً دقيقاً للتجارب التي قام بها هو وفرقته.
هنالك تجارب عديدة في العالم انبثقت عن هذا الفهوم، ووصلت بلادنا العربية لا مجال للتوسع فيها هنا. لكن ما نستطيع قوله هو إن ما يجمع التجارب كلّها في العالم، هو اختلاف هذا المسرح عن المسرح التقليدي من حيث توجهه من جهة، ومن حيث علاقته بالجمهور من جهة ثانية. وهو مسرح يتعامل مع متفرجه بطريقة مختلفة، لكونه يحدّد نوعية هذا المتفرج سلفاً (الفلاحون في المناطق الزراعية، الطلاب في المدارس والجامعات..إلخ)، ويتوجه إليه مباشرة مدركاً ما يريده منه.
ثمة خصوصية لكل حالة بحسب المكان والزمان، أي بحسب الظرف الموضوعي للعمل مع الجمهور. فمجموعة ” أوغستو بوال” عملت في مجالات محو الأمية في أميركا اللاتينية، وعملت بطريقة مباشرة ومختلفة في أوروبا، وشكّلت مدرسة تأسس على يديها الكثير من العاملين في المسرح. وهناك في بعض الدول العربية مجموعات، ما زالت شابة، تؤسّس لهذا النوع من المسرح في لبنان وسوريا وموريتنيا والمغرب.. إلخ.
أحد المبادئ الأساسية التي تمّ الاستناد إليه هو الارتجال، ليس ارتجال الممثل فقط، لكن الارتجال بمعناه الواسع أيضاً، الارتجال كأسلوب عمل لكلّ أعضاء الفريق. هذا الارتجال هو ارتجال مدروس من حيث إنه تمّ التحضير له بدرجة كبيرة من خلال التدريبات التي تسبق التنفيذ، ولكنه يسمح بالتفاعل مع المتفرج، وتوجيهه، وإدارة الموقف الراهن.
ونظراً لغياب تقاليد الحوار في مجتمعاتنا، فإننا نشعر بأن هذا المسرح مهمّ جداً لبلادنا، ولاسيما أنه – كمسرح تفاعلي- يقوم في جوهره على الحوار والتفاعل.
أكاديمية وناقدة مسرحية من سوريا*
ليست هناك تعليقات