Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

سيرة حزبية 4... الرفيق عارف و«المسألة اليهودية» دلال البزري

لأحد 11 أيار 2014 - العدد 5029 - صفحة 12     (وكان كل الوقت يجيبني بأنني ما زلت برتبة «إتصال»، أي انه يمتحن التزامي ويثقفني: تعرفين الباق...

لأحد 11 أيار 2014 - العدد 5029 - صفحة 12    

(وكان كل الوقت يجيبني بأنني ما زلت برتبة «إتصال»، أي انه يمتحن التزامي ويثقفني: تعرفين الباقي، فأنتِ أيضا كنتِ «إتصال»، وبعدها صرتِ «حلقة». والآن نحن في الحلقة، أحد بنود إجتماعاتنا هي كم من «الاتصال» تمكنا أن نجمع خلال الأسبوع المنصرم (...).)

لا يمر وقت طويل قبل أن نفهم، عارف وأنا، أن «تأخير» إدخالنا إلى واحدة من الحلقات يعود إلى «مفاوضات» كانت تجري بين تنظيمين، «لبنان الإشتراكي» و»منظمة الإشتراكيين اللبنانيين». وان الإسم الجديد، أي «منظمة العمل الشيوعي»، هو «تجريب» لما ستكون عليه بعد مؤتمر لاحق، يعدّ له من بعيد، يصل إلينا القليل القليل من صداه... ما علينا، نحن الآن في المقهى، ندردش... عارف هو الآن أقرب إليّ مما كان. أريد أن أبوح له بسرّ، طالما صرنا أقرب إلى بعض. أتردّد قليلاً، سوف أقولها بسرعة، والكلمات تكاد تقفز:

ـ عارف، أريد أن أعترف لكَ بشيء... وسوف تغفر لي. أليس كذلك؟

ـ ماذا؟ قوليّ... هيا!

ـ حسنا، تذكر يوم اجتماعنا في بيتك؟ في تلك الغرفة المليئة بالكتب؟

ـ....

ـ سرقت منها كتاباً من مكتبتك...

ـ كيف؟ كيف لم أنتبه!؟ أي كتاب هذا الذي أغراكِ؟

تتغير ملامح وجهه قليلا، يستغرب، يريد أن يغضب... ولكنه مهذّب:

ـ «المسألة اليهودية»، لكارل ماركس.

ـ كيف لم أنتبه؟ كيف حصل ذلك، ونحن لم نفترق إلا بعد انتهاء الاجتماع؟

أذكِّره، في نهاية الاجتماع وقفنا لبضعة دقائق، كأننا لا نريد الخروج، كنا نثرثر والمكتبة خلف ظهرنا. وقع نظري على الكتاب، فتناولته ووضعته في تلك الشنْطة الضخمة التي لا تفارقني. هل ترى هذه الشنْطة يا عارف؟ يمكنك أن تضع فيها عمارة إذا شئت. كل شيء في داخلها: هل كان يمكنك أن تحْزر ساعتها انها انتفخت بكتاب صغير مثل «المسألة اليهودية»؟ يتفهم عارف قليلاً... عقدة البرجوازي، أو الشعور النبيل بالتضامن مع الرفاق الذين ليس بوسعهم اقتناء مكتبة كتلك التي في غرفته... ربما الإثنين معاً. تزداد حاجتي إلى مزيد من الاعتراف: عارف، يجب أن تعرف أنني أسرق الكتب من مكتبة أنطوان التي في البلد، خلف السرايا الحكومي، وأنني لم أجد على رفوفه «المسألة اليهودية». تسرقين الكتب؟ كيف تفعلين؟ إشرحي لي. تفهّمه يشجعني. ندخل إلى المكتبة، أجيب، أنا والرفيقة سامية، نتوقف عند الكتب الفرنسية، ألقي نظرة سريعة على ما يهمّني منها، ثم أبدأ بتصفّحها، ببطء وهدوء، وفي لمحة بصر أضع كتاباً في هذه الشنْطة، تكون الرفيقة سامية في هذه الأثناء في «وضعية» مراقبة الموظفين... أحيانا نكررها مرة أو اثنتين، حسب «الجو»؛ الزحمة الشديدة لصالحنا كل مرة. نخرج من المكتبة سالمات، مبتهجات، خصوصاً أنا. ما ينقذنا ربما، أن الموظفين لا يتصورون أن قرّاء الفرنسية قد يسرقون، هم أيضاً، الكتب، على غرار قرّاء العربية.

سامية لا تشاركني السرقة، تتواطأ معي فقط؛ تقول أنها «تتضامن». هي مثلك يا عارف، مكتبتها عامرة. «أعرف انك لا تبالين بمصلحة صاحب المكتبة، ولكن الموظفين... ألم تفكري بالعقاب الذي سيناله الموظفون بعد اكتشاف صاحب المكتبة أن الحسابات يشوبها خلل؟». كلا، لا يهمّني، إن ضميري مرتاح، أسرق بضمير مرتاح، لأن المعرفة لا يجب أن تكون حكراً على أحد. والبرجوازية تحرمنا من المعرفة، تريد أن ندفع الكثير من أجلها. وأنا لست قادرة على ثمن الكتب الفرنسية. «تصور تسع ليرات للكتاب الواحد! معقول!؟». يأخذ عارف نفساً طويلا من سيجارة الجيتان، يصمت قليلا، ثم ينفجر بالضحك... وعندما يهدأ يقول بأن «المسألة اليهودية» يمكن أن تعتبريه هدية مني. فأنا عندي نسخة أخرى منه.

عارف هو أول رجل، بعد إخوتي الصبيان، أقيم معه صداقة. قبل ذلك، صداقاتي في المدرسة هي مع البنات؛ وفي الصفوف الثانوية، كان الطلاب إما بعيدين، أو أصحاب «مشاريع»، كما نقول. واحد منهم فقط لفتني، وكان «تقدميا وشاعراً»، كما يحب أن يصف نفسه. ولكن انتباهي له لم يدم. صداقتي مع عارف، أقصد الصداقة الفعلية، حيث المؤانسة والحميمية من دون «مشاريع»، هي أولى تجاربي بالصداقة مع الرجال. هي مرجع هذا النوع من الصداقة، كيف يكون الصديق الصدوق؟ كما كان عارف: لا يترك شيئاً في قلبه أو في عقله أو يومياته، قبيحاً، جميلاً، مضحكاً... إلا ويود أن يتقاسمه معي... حتى «مشاريعه» و»مشاريعي»، تصبح مادة للتبادل بيننا، وأحياناً للتندّر.

أعود فألتقي بعارف في اجتماعين أو ثلاثة، وتظاهرات وتوزيع مناشير؛ ومقهى «الجندول» يتخلّل نضالاتنا أو يختمها مع سيجارة وفنجان قهوة إكسبرس. هكذا أتعرف على عارف العميق، الصافي. تلك القصة التي أخبرنا إياها حول «بطولته» في تقبيل إبنة الجيران، مثلاً، لها أساس من الصحة، ولكن ليست هي الموضوع. صحيح انه قبّل إبنة الجيران، ولكن أهله لم «يلقطوه»، ولو فعلوا، ما كانوا نهروه، لأنهم «متحررون»، كما يقول، عاشوا في الخارج، ولا يرون في القبلة أذى، أو مخالفة. الحقيقة، أن ما يدفعه للإنخراط في المنظمة هو فكرة الحرية الجنسية التي تشرّبها من القراءات، ومن رحلة باريس ومن أهله أيضاً. إذ يبدون له من مؤيدي الحرية الجنسية. المهم أن شيئا يدفعه نحو الموجة اليسارية العارمة، فكانت المنظمة ألأفضل والأنشط والأكثر مرونة و»نضارة» من بين المجموعات الأخرى. ولكن يا عارف، لماذا اخترعت قصة البطولة الوهمية هذه إذن؟ ولماذا تريد أن تصور للرفاق بأن أهلك رجعيون؟ لا يعرف: «كنتُ ربما بحاجة ملحة لقصة، كان علي أن أرتجل قصة، فطلعت القبلة وإبنة الجيران، ورجعية أبي وأمي، لتضخيم البطولة، أو للتغطية على الجانب البرجوازي لعائلتي، غير المحمود في منظمتنا، كما تعلمين».

عارف بريء ومختلف. كان سوف ينتبه ، بعد سنوات قليلة على قصته هذه، إلى أن أبناء البرجوازية كانوا معزَّزين مكرمين في المنظمة. الرفيق، فايز، الرفيق حمدي، الرفيق خالد... البرجوازيون، أبناء الوجهاء: تهجو المنظمة البرْجزة، تبث معايير الرفيق الصالح، المتجرد من كل الامتيازات، ثم تعامل هؤلاء معاملة خاصة، تضعهم فوق رأسها، في عينيها... هذا ما لا ينتبه إليه عارف، وبقية قصته تفسر هذه الغفلة. فكانت كل هذه الإختراعات.

حسنا، الآن، طالما ان التحرر الجنسي كان دافعك نحو المنظمة، ما الذي جعلك تهتم بالقضية الفلسطينية، وأن تكون خناقتك مع أحد التلاميذ المتعصبين هي التي تدفعك للتعرّف على الرفيق أندريه؟ وتكون الآن هنا في مقهى الجندول، بعد تظاهرة طويلة وصاخبة دعماً للفدائيين في الجنوب؟ ما الذي شدّ برحالك نحو القضية الفلسطينية؟ يجيب عارف ببطء وتردّد، كأنه يصيغ فكرته للمرة الأولى: «كيف أقولها لك يا سهى...؟ أنظري، حركة الطلاب الفرنسيين التحررية كانت تربط بين التحرّر الجنسي والتحرّر من السلطات القمعية. من أجل التحرر الجنسي يجب أن يكون هناك تحرّر سياسي. النضال السياسي مرتبط بالنضال من أجل التحرر الجنسي... يتوازيان. أنظري الآن إلينا، نحن أيضاَ نناضل ضد السلطة القمعية التي لا تريد لقضية محقة مثل قضية فلسطين أن تأخذ حريتها في لبنان، مع إنها وقّعت على اتفاقية القاهرة، التي تعطي للفلسطينيين كل الحق بالنضال من أجل فلسطين في الأراضي اللبنانية. هل يوجد أبشع من هذا...؟»

هل يعني ذلك بأنك دخلت بعقلك إلى المنظمة؟ «نعم، عندما أناضل في المنظمة كأنني أناضل من أجل الحرية الجنسية. كأنه زواج عقل بيني وبين المنظمة، حبي لفلسطين من حبي للحرية الجنسية. أعرف ان هذه يوتوبيا جميلة، لكن الطليعة، بنضالها تحقّقه». هل تعني انك باشرتها تلك اليوتوبيا، على أساس انك «طليعة أيضاً». ينظر إليّ بعتاب، كأنه يلمح سخرية في سؤالي. يتردد في الشرح. لا يريد أن أهزأ منه.

ـ قلّ يا عارف... هيا...

«من أين أبدأ؟» يتساءل، ثم تنطلق الكلمات: من أن نظرية الحرية الجنسية ليست سهلة التطبيق، وبأن البنات، من أول قبلة، يطلبن منه «أن يقابل البابا»؟ وبأن «تحرر» أهله له حدود، وبأنهم يغضون الطرف عن القبلة، والقبلة فقط... لا أكثر من ذلك؟ ومن في «تحررهم» هذا هم مزيفون، يسايرون التقاليد، والأهل، أكثر مما يدعون. وأنه ليس بوارد التوجه نحو «شارع المتنبي»، حيث يُباع الجنس... تكفي الرائحة الخارجة منه لتصد نفسه، بدل أن تكون عطرة تفتح الشهية؟ فالحرية الجنسية تعني إلغاء النظام الجنسي القائم على «بيع الهوى»، على البغاء... يسلّعون اللذة، يشيؤون المرأة، يفقد الإثنان الرجل والمرأة إنسانيتهما. على كل حال، سهى إبنة الجيران تزوجت مهاجراً من أفريقيا، وقد نسيتها. كانت قبلتها رخوة...

ولكن الآن الآن، أين قلبك يا عارف؟ (...) لأحد 11 أيار 2014 - العدد 5029 - صفحة 12    
سيرة حزبية 4
الرفيق عارف و«المسألة اليهودية»
   
 
دلال البزري
(وكان كل الوقت يجيبني بأنني ما زلت برتبة «إتصال»، أي انه يمتحن التزامي ويثقفني: تعرفين الباقي، فأنتِ أيضا كنتِ «إتصال»، وبعدها صرتِ «حلقة». والآن نحن في الحلقة، أحد بنود إجتماعاتنا هي كم من «الاتصال» تمكنا أن نجمع خلال الأسبوع المنصرم (...).)

لا يمر وقت طويل قبل أن نفهم، عارف وأنا، أن «تأخير» إدخالنا إلى واحدة من الحلقات يعود إلى «مفاوضات» كانت تجري بين تنظيمين، «لبنان الإشتراكي» و»منظمة الإشتراكيين اللبنانيين». وان الإسم الجديد، أي «منظمة العمل الشيوعي»، هو «تجريب» لما ستكون عليه بعد مؤتمر لاحق، يعدّ له من بعيد، يصل إلينا القليل القليل من صداه... ما علينا، نحن الآن في المقهى، ندردش... عارف هو الآن أقرب إليّ مما كان. أريد أن أبوح له بسرّ، طالما صرنا أقرب إلى بعض. أتردّد قليلاً، سوف أقولها بسرعة، والكلمات تكاد تقفز:

ـ عارف، أريد أن أعترف لكَ بشيء... وسوف تغفر لي. أليس كذلك؟

ـ ماذا؟ قوليّ... هيا!

ـ حسنا، تذكر يوم اجتماعنا في بيتك؟ في تلك الغرفة المليئة بالكتب؟

ـ....

ـ سرقت منها كتاباً من مكتبتك...

ـ كيف؟ كيف لم أنتبه!؟ أي كتاب هذا الذي أغراكِ؟

تتغير ملامح وجهه قليلا، يستغرب، يريد أن يغضب... ولكنه مهذّب:

ـ «المسألة اليهودية»، لكارل ماركس.

ـ كيف لم أنتبه؟ كيف حصل ذلك، ونحن لم نفترق إلا بعد انتهاء الاجتماع؟

أذكِّره، في نهاية الاجتماع وقفنا لبضعة دقائق، كأننا لا نريد الخروج، كنا نثرثر والمكتبة خلف ظهرنا. وقع نظري على الكتاب، فتناولته ووضعته في تلك الشنْطة الضخمة التي لا تفارقني. هل ترى هذه الشنْطة يا عارف؟ يمكنك أن تضع فيها عمارة إذا شئت. كل شيء في داخلها: هل كان يمكنك أن تحْزر ساعتها انها انتفخت بكتاب صغير مثل «المسألة اليهودية»؟ يتفهم عارف قليلاً... عقدة البرجوازي، أو الشعور النبيل بالتضامن مع الرفاق الذين ليس بوسعهم اقتناء مكتبة كتلك التي في غرفته... ربما الإثنين معاً. تزداد حاجتي إلى مزيد من الاعتراف: عارف، يجب أن تعرف أنني أسرق الكتب من مكتبة أنطوان التي في البلد، خلف السرايا الحكومي، وأنني لم أجد على رفوفه «المسألة اليهودية». تسرقين الكتب؟ كيف تفعلين؟ إشرحي لي. تفهّمه يشجعني. ندخل إلى المكتبة، أجيب، أنا والرفيقة سامية، نتوقف عند الكتب الفرنسية، ألقي نظرة سريعة على ما يهمّني منها، ثم أبدأ بتصفّحها، ببطء وهدوء، وفي لمحة بصر أضع كتاباً في هذه الشنْطة، تكون الرفيقة سامية في هذه الأثناء في «وضعية» مراقبة الموظفين... أحيانا نكررها مرة أو اثنتين، حسب «الجو»؛ الزحمة الشديدة لصالحنا كل مرة. نخرج من المكتبة سالمات، مبتهجات، خصوصاً أنا. ما ينقذنا ربما، أن الموظفين لا يتصورون أن قرّاء الفرنسية قد يسرقون، هم أيضاً، الكتب، على غرار قرّاء العربية.

سامية لا تشاركني السرقة، تتواطأ معي فقط؛ تقول أنها «تتضامن». هي مثلك يا عارف، مكتبتها عامرة. «أعرف انك لا تبالين بمصلحة صاحب المكتبة، ولكن الموظفين... ألم تفكري بالعقاب الذي سيناله الموظفون بعد اكتشاف صاحب المكتبة أن الحسابات يشوبها خلل؟». كلا، لا يهمّني، إن ضميري مرتاح، أسرق بضمير مرتاح، لأن المعرفة لا يجب أن تكون حكراً على أحد. والبرجوازية تحرمنا من المعرفة، تريد أن ندفع الكثير من أجلها. وأنا لست قادرة على ثمن الكتب الفرنسية. «تصور تسع ليرات للكتاب الواحد! معقول!؟». يأخذ عارف نفساً طويلا من سيجارة الجيتان، يصمت قليلا، ثم ينفجر بالضحك... وعندما يهدأ يقول بأن «المسألة اليهودية» يمكن أن تعتبريه هدية مني. فأنا عندي نسخة أخرى منه.

عارف هو أول رجل، بعد إخوتي الصبيان، أقيم معه صداقة. قبل ذلك، صداقاتي في المدرسة هي مع البنات؛ وفي الصفوف الثانوية، كان الطلاب إما بعيدين، أو أصحاب «مشاريع»، كما نقول. واحد منهم فقط لفتني، وكان «تقدميا وشاعراً»، كما يحب أن يصف نفسه. ولكن انتباهي له لم يدم. صداقتي مع عارف، أقصد الصداقة الفعلية، حيث المؤانسة والحميمية من دون «مشاريع»، هي أولى تجاربي بالصداقة مع الرجال. هي مرجع هذا النوع من الصداقة، كيف يكون الصديق الصدوق؟ كما كان عارف: لا يترك شيئاً في قلبه أو في عقله أو يومياته، قبيحاً، جميلاً، مضحكاً... إلا ويود أن يتقاسمه معي... حتى «مشاريعه» و»مشاريعي»، تصبح مادة للتبادل بيننا، وأحياناً للتندّر.

أعود فألتقي بعارف في اجتماعين أو ثلاثة، وتظاهرات وتوزيع مناشير؛ ومقهى «الجندول» يتخلّل نضالاتنا أو يختمها مع سيجارة وفنجان قهوة إكسبرس. هكذا أتعرف على عارف العميق، الصافي. تلك القصة التي أخبرنا إياها حول «بطولته» في تقبيل إبنة الجيران، مثلاً، لها أساس من الصحة، ولكن ليست هي الموضوع. صحيح انه قبّل إبنة الجيران، ولكن أهله لم «يلقطوه»، ولو فعلوا، ما كانوا نهروه، لأنهم «متحررون»، كما يقول، عاشوا في الخارج، ولا يرون في القبلة أذى، أو مخالفة. الحقيقة، أن ما يدفعه للإنخراط في المنظمة هو فكرة الحرية الجنسية التي تشرّبها من القراءات، ومن رحلة باريس ومن أهله أيضاً. إذ يبدون له من مؤيدي الحرية الجنسية. المهم أن شيئا يدفعه نحو الموجة اليسارية العارمة، فكانت المنظمة ألأفضل والأنشط والأكثر مرونة و»نضارة» من بين المجموعات الأخرى. ولكن يا عارف، لماذا اخترعت قصة البطولة الوهمية هذه إذن؟ ولماذا تريد أن تصور للرفاق بأن أهلك رجعيون؟ لا يعرف: «كنتُ ربما بحاجة ملحة لقصة، كان علي أن أرتجل قصة، فطلعت القبلة وإبنة الجيران، ورجعية أبي وأمي، لتضخيم البطولة، أو للتغطية على الجانب البرجوازي لعائلتي، غير المحمود في منظمتنا، كما تعلمين».

عارف بريء ومختلف. كان سوف ينتبه ، بعد سنوات قليلة على قصته هذه، إلى أن أبناء البرجوازية كانوا معزَّزين مكرمين في المنظمة. الرفيق، فايز، الرفيق حمدي، الرفيق خالد... البرجوازيون، أبناء الوجهاء: تهجو المنظمة البرْجزة، تبث معايير الرفيق الصالح، المتجرد من كل الامتيازات، ثم تعامل هؤلاء معاملة خاصة، تضعهم فوق رأسها، في عينيها... هذا ما لا ينتبه إليه عارف، وبقية قصته تفسر هذه الغفلة. فكانت كل هذه الإختراعات.

حسنا، الآن، طالما ان التحرر الجنسي كان دافعك نحو المنظمة، ما الذي جعلك تهتم بالقضية الفلسطينية، وأن تكون خناقتك مع أحد التلاميذ المتعصبين هي التي تدفعك للتعرّف على الرفيق أندريه؟ وتكون الآن هنا في مقهى الجندول، بعد تظاهرة طويلة وصاخبة دعماً للفدائيين في الجنوب؟ ما الذي شدّ برحالك نحو القضية الفلسطينية؟ يجيب عارف ببطء وتردّد، كأنه يصيغ فكرته للمرة الأولى: «كيف أقولها لك يا سهى...؟ أنظري، حركة الطلاب الفرنسيين التحررية كانت تربط بين التحرّر الجنسي والتحرّر من السلطات القمعية. من أجل التحرر الجنسي يجب أن يكون هناك تحرّر سياسي. النضال السياسي مرتبط بالنضال من أجل التحرر الجنسي... يتوازيان. أنظري الآن إلينا، نحن أيضاَ نناضل ضد السلطة القمعية التي لا تريد لقضية محقة مثل قضية فلسطين أن تأخذ حريتها في لبنان، مع إنها وقّعت على اتفاقية القاهرة، التي تعطي للفلسطينيين كل الحق بالنضال من أجل فلسطين في الأراضي اللبنانية. هل يوجد أبشع من هذا...؟»

هل يعني ذلك بأنك دخلت بعقلك إلى المنظمة؟ «نعم، عندما أناضل في المنظمة كأنني أناضل من أجل الحرية الجنسية. كأنه زواج عقل بيني وبين المنظمة، حبي لفلسطين من حبي للحرية الجنسية. أعرف ان هذه يوتوبيا جميلة، لكن الطليعة، بنضالها تحقّقه». هل تعني انك باشرتها تلك اليوتوبيا، على أساس انك «طليعة أيضاً». ينظر إليّ بعتاب، كأنه يلمح سخرية في سؤالي. يتردد في الشرح. لا يريد أن أهزأ منه.

ـ قلّ يا عارف... هيا...

«من أين أبدأ؟» يتساءل، ثم تنطلق الكلمات: من أن نظرية الحرية الجنسية ليست سهلة التطبيق، وبأن البنات، من أول قبلة، يطلبن منه «أن يقابل البابا»؟ وبأن «تحرر» أهله له حدود، وبأنهم يغضون الطرف عن القبلة، والقبلة فقط... لا أكثر من ذلك؟ ومن في «تحررهم» هذا هم مزيفون، يسايرون التقاليد، والأهل، أكثر مما يدعون. وأنه ليس بوارد التوجه نحو «شارع المتنبي»، حيث يُباع الجنس... تكفي الرائحة الخارجة منه لتصد نفسه، بدل أن تكون عطرة تفتح الشهية؟ فالحرية الجنسية تعني إلغاء النظام الجنسي القائم على «بيع الهوى»، على البغاء... يسلّعون اللذة، يشيؤون المرأة، يفقد الإثنان الرجل والمرأة إنسانيتهما. على كل حال، سهى إبنة الجيران تزوجت مهاجراً من أفريقيا، وقد نسيتها. كانت قبلتها رخوة...

ولكن الآن الآن، أين قلبك يا عارف؟ (...)

ليست هناك تعليقات