لم تعد الصورة، تلك الورقة الكرتونية، الكيميائية المصدر التي نحتفظ بها بين طيات الزمن لنستعيد فيها ذكريات الماضي، بل تخطى مفهومها ذلك لتص...
لم تعد الصورة، تلك
الورقة الكرتونية، الكيميائية المصدر التي نحتفظ بها بين طيات الزمن لنستعيد فيها ذكريات
الماضي، بل تخطى مفهومها ذلك لتصبح الدينامو المحرّك ليومياتنا على أكثر من صعيد. صارت
تتطوّر يوماً بعد يوم، وكأنها هي من كانت تسعى إلى إيجاد من يفهمها فعلاً... من يجد
فيها كل مرة شيئاً جديداً. تبدو وكأنها ليست ابتكاراً من صنع أحدهم، بل وكأنها بذرة
انتظرت من يرويها لتخرج من الظلمة إلى النور وتوزّع ثمارها. وإن دققنا فعلاً في آلية
التصوير والتحميض، نرى أنها فعلاً تخرج من الظلمة إلى النور.
حين تمّ اختراع الكاميرا،
كان الهدف منها توثيق مشهد ما ليبقى ويستمر. كان التحدي في أن يستطيع الواحد منا أن
يسجّل لحظة للتاريخ... لقطة طبيعية لا يمكن إعادتها مهما حاول المرء أن يجمع كل مقوّماتها.
وكان الهدف أيضاً الاستعاضة عن الرسم الذي يأخذ وقتاً طويلاً ولا يعطي التفاصيل الحيّة
مهما اقترب إلى الواقعية. فالرسام بحاجة إلى ريشة وألوان ووقت طويل يضطر فيه هو ومن
معه إلى استهلاك الكثير من الجهد، فيما المصوّر لا يحتاج إلا للكاميرا والإضاءة ليُخرج
لقطة في لحظة. ومن هنا تطوّر هذا الرسم ليصبح "فوتوغرافياً"... فمصطلح
"فوتوغرافي" يعني الرسم بواسطة الضوء.
تحقق الهدف إذاً،
وأصبحت الصورة بين الأيادي، لكن هذا الهدف بدأ ينسج خيوطاً ليمدّ حصيرة في أرض خصبة
فيها الكثير من مفترقات الطرق. تحوّلت الصورة إلى طفل بالتبني، يرغب في وجودها الكثيرون...
وهو ما أرادته وكأنها فعلاً شيء حي... إنها في انتظار من يمنحها النسب.
في الحروب، اعتمد
هتلر عليها بقوة في الحرب العالمية ليصنع منها بروباغدا تخيف الأعداء. وبعده اعتمد
الآخرون على هذا الأسلوب مع تطوير التقنيات والخطط. تحوّلت الصورة إلى ثقل يميل كفة
الميزان بين قوة وأخرى، والأمثلة على ذلك كثيرة، لعل أقربها إلينا صورة "مجزرة
المنصوري" لنجلاء أبو جهجاه والتي بيّنت حقيقة العدو الإسرائيلي وقلبت الموازين
عالمياً.
في جانب آخر، دخلت
الصورة عالم الأعمال بكل فروعه. باتت تنطق بلغة "البيزنيس" وترسم طرق النجاح
والفشل للكثير من المؤسسات ورجال الأعمال. تحوّلت من ذلك الطفل المتبنّى إلى امرأة
حامل، من الممكن أن تضع مولوداً أو اثنين أو عدداً كبيراً من التوائم، وقد تفقد جنينها
في أي لحظة.
في مقابل كل ذلك،
كان هناك من ينظر إلى الصورة نظرة العاشق... الذي يرى مكامن الجمال فيها حتى وإن قست.
الذي آمن بأنها ثقافة بحد ذاتها ومنها يمكن أن ينهل، وهي بالفعل لها ثقافتها لأنها
استطاعت أن تبحر في عالم مليء بالأهداف.
حُملت الصورة إلى
أماكن كثيرة، وعاشت وما تزال حياة الرحالة... تتنقّل بين المعارض وتراها تختلف بين
منظر وآخر... بين عين وأخرى. جمعت الصورة حولها الكثير من المهووسين بها، الذين باتوا
يدللونها في أكثر من زاوية. في البداية كانت مزيجاً من الأبيض والأسود، ثم تطورت لتنقل
الكادر بألوانه الطبيعية. وبقدر ما هي جميلة، بقدر ما هي قاسية أيضاً. تستطيع من خلالها
أن ترى براءة الطفل، وبإمكانها أن تريك قسوة الحياة في وجه عجوز مليء بتجاعيد حفرت
خطوط الزمن وشرايين استغلت جفاف يد أنهكها العمر.
وإن كان من أمر مهم
يُسجّل للصورة، فهي أنها ميّزت نفسها عن ثقافة اللغات لأنها أسست لغة خاصة بها، وفي
الوقت نفسه يمكن لشعوب العالم كله أن تتخاطب بها. الصورة هي أول من وحّد لغة العالم
وجعلت الناس ينطقون بالبصر. وإن كنا نعتقد أنها ورغم كل ما وصلت إليه من تطوّر وتقدم
لن تجد طريقها نحو المزيد من الاكتشافات... فلا شك أننا مخطئون.
(*) مصور فوتوغرافي لبناني

ليست هناك تعليقات