عن "الجريدة" الكويتية أخيراً مات غابرييل غارسيا ماركيز (87 عاماً) جسدياً بعد سنوات من المعمعة والإشاعات التي لا تنتهي، وبدا...
عن "الجريدة" الكويتية
أخيراً مات غابرييل غارسيا ماركيز (87 عاماً) جسدياً بعد سنوات من المعمعة والإشاعات التي لا تنتهي، وبدا الفصل الأخير من حياته رواية عجائبية تتفوق على روايات {الواقعية السحرية} بمضمونها الافتراضي، فمنذ إشاعة نشر وصية موته عبر الإنترنت، إلى الحديث عن مرضه وصولاً إلى الإشاعة الأخيرة التي تحدثت عن خرفه، كلها أمور أشارت إلى أن السنوات الأخيرة من حياة هذا الكاتب العظيم باتت رواية أشد عمقاً من روايته نفسها.
يقول جيرالد مارتن (مؤلف سيرته): {لو ألقينا نظرة على روائيي القرن العشرين، لاكتشفنا أن معظم الاسماء الكبيرة التي يتفق النقاد اليوم بشأنها، تعود الى السنوات الأربعين الأولى من ذلك القرن (جويس، بروست، كافكا، فوكنر، وولف)، أما في النصف الثاني من القرن فربما حظي ماركيز وحده بإجماع حقيقي.
مات ماركيز النوبلي الذي قالت الأكاديمية الملكية السويدية لدى منحه جائزة نوبل (1982): {يقودنا في رواياته وقصصه القصيرة إلى ذلك المكان الغريب الذي تلتقي فيه الأسطورة والواقع}.
هو أشهر روائي في أميركا اللاتينية والعالم، بيع أكثر من 65 مليون نسخة من كتبه. وكان الكاتب الأبرز ضد الدكتاتوريات في بلاده، وصديق اليسار في أميركا اللاتينية، والمثقف حامل الأفكار والرسائل بلا ايديولوجيا خشبية. وفي رواياته بحث عن متعة القص والحكاية، وإن كان فيها شخصيات مركبة من هنا وهناك. كذلك يعتبر ماركيز ظاهرة فريدة، فهو كاتب جاد لكنه {شعبوي} على غرار ديكنز أو هوغو أو همنغواي، تباع كتبه بالملايين وتقترب شهرته من شهرة نجوم الرياضة والمؤلفين الموسيقيين ونجوم السينما، وكلماته حاضرة في بعض محطات المترو.
وغابو أو غابيتو كما يدلع ماركيز، كاتب نادر، من ناحية حضوره، سواء من خلال مواقفه أو رواياته أو صداقاته. عاش بعزلة في سنواته الأخيرة، لكن اخباره المفبركة كانت صاخبة، عندما كتب مقرصن {وصية} افتراضية لماركيز أحدث صدمة، وعندما أعلن ماركيز اعتزاله الكتابة لأنه لم يتمكن في 2005 من كتابة سطر واحد، أحدث صدمة. وحين أُشيع عن إصابته بالخرف حدثت بلبلة في الصفحات الثقافية، خصوصاً أن ماركيز صاحب الحكمة الأثيرة التي وردت في مذكراته وتقول: {الحياة ليست ما يعيشه أحدنا وإنما هي ما يتذكره وكيف يرويه}، أو يقول: {عشت لأروي}، ويعترف في مقدمة مجموعته القصصية {12 حكاية عجيبة} التي كتبها في إبريل 1992 بأن {متعة الكتابة أعظم المتع حميمية ووحدة على الإطلاق}، ويضيف في المقدمة نفسها: {أحس بأنني أكتب لمتعة القص وحدها والتي ربما كانت أشبه الحالات الإنسانية بانعدام الوزن}. في مكان آخر يقول: {الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان!!}
أشيع أنه سيصدر رواية بعد مرضه وبدأ الضجيج حول ماذا سيكتب، كل ما حدث بعد توقف ماركيز عن الكتابة كان صاخباً يظهر مدى قوة حضوره في العالم، حضور لم يأت من فراغ وليس من نجومية عابرة، بل من كتب كانت وليمة ثقافية لكل متحمس للقراءة، وهي نتاج روائي انطلق من نقطة الصفر وصار اسمه بين الكبار (الكبار)...
قصص وخرافات
كان ماركيز مفتوناً بقصص جدّه وخرافات جدته، وعداه هو وجده، كان البيت بيت نساء، ذكر ماركيز في ما بعد أن معتقداتهن جعلته يخشى مغادرة مقعده، يستمع إلى قصص الحرب الأهلية، قصة مذبحة الموز، زواج والديه، المزاولات اليومية للطقوس المتعلقة بالخرافات، إضافة إلى حضور الخالات ومغادرتهن، وبنات جّده غير الشرعيات... كل هذه الأمور كتب عنها غارسيا ماركيز قائلاً: {أشعر أن كتاباتي كانت حول التجارب التي مررت بها وسمعت عنها وأنا برفقة جدي}.
مات جد ماركيز عندما كان في الثانية عشرة من عمره، ونتيجة لذلك ساءت حالة العمى لدى جدته، فذهب ليعيش مع والديه في سوكر، فقررا أن الأوان حلّ ليتلقى تعليمه بشكل رسمي، فأرسلاه إلى مدرسة داخلية في بارانكويللا، مدينة تقع على ميناء نهر ماغدالينا، وقد اشتهر، آنذاك، بقصائده الظريفة ورسومات الكاريكاتور، كان جاداً وغير رياضي إلى درجة أن أقرانه في الفصل أطلقوا عليه كنية {الرجل العجوز}.
في تلك الفترة حصل على منحة دراسية تؤهله الدخول إلى الليسيه ناسيونال، مدرسة ثانوية للطلاب الموهوبين يديرها يسوعيون متدينون، تقع في مدينة زيباكويرا التي تبعد 30 ميلاً إلى الشمال من العاصمة بوغوتا، كانت الرحلة إليها تستغرق أسبوعاً، فتوصل إلى نتيجة أنه لا يحب بوغوتا.
اهتمّ ماركيز بدراسته إلى أقصى حدّ، وفي الأمسيات كان يقرأ على زملائه، في السكن الداخلي، محتوى الكتب بصوت مرتفع. بعد تخرجه في الثامنة عشرة من عمره (1946)، حقق أمنية والديه بالالتحاق بجامعة يونيفيرسيداد ناسيونال في بوغوتا، لدراسة القانون بدلاً من الصحافة، لاحقاً عمل في الصحافة التي كانت مقدمة لكتاباته الروائية.
عن أسباب كتابته للرواية، يقول ماركيز: {بدأت الكتابة بمحض الصدفة: ربما لكي أبرهن لأحد أصدقائي أن جيلي قادر على أنجاب كتّاب. بعد ذلك سقطت في شرك الكتابة من أجل المتعة، ثم في الشرك التالي وهو اكتشاف أن عشقي للكتابة يفوق حبي لأي شيء آخر في الدنيا}.
مئة عام من العزلة
كافح ماركيز طويلا حتى وصل إلى الشهرة، ربما من يقرأ سيرته التي كتبها جيرالد مارتن يدرك ذلك، جاء في هذه السيرة أنه، في مطلع أغسطس 1966، ذهب ماركيز بصحبة زوجته مارسيدس إلى مكتب البريد ليرسل إلى العاصمة بيونس آيرس مخطوطة كتابه الجديد {مائة عام من العزلة}. كانا في حالة يرثى لها وأشبه بناجيين من كارثة. ضمن الرزمة: 490 صفحة منضدة، فطلب موظف البريد اثنين وثمانين بيزوساً.
راقب ماركيز زوجته وهي تبحث في حقيبة يدها عن المال، لم يكن لديهما سوى خمسين بيزوساً، لذلك لم يكن باستطاعتهما ارسال سوى نصف الكتاب، فجعل ماركيز موظف البريد يقتطع الصفحات من المخطوطة كما يقتطع شرائح اللحم المقدد حتى بقي ما يمكن ارساله بخمسين بيزوساً... وعندما عادا إلى المنزل، رهنا جهاز التدفئة، ومجفف الشعر والعصارة، ثم عادا إلى مكتب البريد لإرسال ما تبقى، لدى خروجهما، توقفت مارسيدس والتفتت الى زوجها قائلة: {غابو، لا ينقصنا الآن سوى أن يكون الكتاب سيئاً}.
حققت الرواية شهرة بعد نشرها مباشرة (1967)، وباعت أكثر من 30 مليون نسخة في أنحاء العالم، وأعطت دفعة لأدب أميركا اللاتينية. كان ظهورها في ذروة التحول بين الرواية الحداثوية وما بعد الحداثوية. يمزج ماركيز الأحداث المعجزة والخارقة بتفاصيل الحياة اليومية والحقائق السياسية في أميركا اللاتينية.
قال إنه استلهم الرواية من ذكريات الطفولة والقصص التي كانت ترويها جدته، ويغلب عليها التراث الشعبي والخرافات، لكنها قدمت أكثر الوجوه استقامة.
{ماكوندو{ هي البلدة التي تدور فيها أحداث {مائة عام من العزلة}، ويقع الموقع الجغرافي الحقيقي لماكوندو، على أرض أميركا اللاتينية، في مخيلة ماركيز. إنها المدينة - العالم التي أعاد ماركيز بناءها بكل ما يحمل في قلبه من ذكريات الطفولة وبيت النمل وحكايات الجدة، والموتى الأحياء. وبالنبرة ذاتها التي كانت تحكي بها الجدة الحكايات، تحدث ماركيز عن الحرب والعنف وضياع المبادئ، وسط الثورات الدامية والخلافات الإيدلوجية التي كانت تفتك ببلاده.
{مائة عام من العزلة} علامة فارقة في تاريخ الرواية ومقدمة لروايات ماركيز وروايات من مشى على طريق الواقعية السحرية. تحولت كتابة ماركيز الى {سحر}، من كتاباته عن ثقافة بيل كلينتون ومخدرات أسكوبار وسحر شاكيرا التي وضعها في خانة النجوم الذين يؤثّرون في أطفال العالم، إلى كتاباته عن قارئه الأسطوري. ففي إحدى المرات كان الصحافي الكولومبي ليساندرو دوكي نارانخو، ضيفاً في بيت ماركيز الذي كان يكتب {الجنرال في متاهته}. طلب منه أن يجلس لينتظره، بينما تابع الكتابة.
تصنّع دوكي أنه يقرأ في مجلة بينما كان ينظر إلى ماركيز وهو يكتب، مفكراً أنه لن تتاح له فرصة، دائماً، لمشاهدة عبقري يكتب. وعندما توقف ماركيز عن الكتابة، أجرى مكالمة هاتفية صدمت دوكي. كان غابو يسأل أحد علماء الفلك إن كان قد تحقّق من أن القمر كان بدراً في 10 يونيو 1813، فجاءت الإجابة مخيّبة لآماله، لأن ماركيز تغيّر وجهه وطلب من متحدّثه التأكد من هذه المعلومة في أقرب وقت ممكن لأمر عاجل.
ولأن الأمر يتعلّق بالقمر في القرن الماضي، لم يهتم الصحافي والتزم الصمت. حينئذ شرع ماركيز في الحديث قائلاً إن الأمر يتعلّق بفصل كامل كتبه في روايته هذه وينسبه إلى بوليفار، ويرتبط بهذه الليلة، ليلة إيروتيكية كان القمر فيها بدراً، {وفي حال كان القمر غير كامل ليلة 10 يونيو، سأحذف الفصل كاملاً}.
سأله دوكي حينئذ: {أي قارئ سيهتم بهذه المعلومة، ومن سيبحث إن كان القمر يوم 10 يونيو 1813 كاملاً أم لا؟} فأجابه ماركيز: {فرناندو غارابيتو، لهذا أريد أن أسبقه، فلو كان القمر بدراً في تلك الليلة، أنتصر عليه}. بعدها حُكي له أن غارابيتو أمسك بأخطاء في روايات سابقة وبناء على ذلك يعتبره أصعب قارئ له، ورغم أنه لم يكن يعرفه شخصياً إلا أنه كان يلعب معه ضمنياً لعبة القط والفأر.
عندما صدرت رواية {الجنرال في متاهته} لم يجد دوكي الفصل الذي يحتوي على ليلة سيمون بوليفار الإيروتيكية، فعرف أن ليلة 10 يونيو 1813 في غرناطة الجديدة لم يكن قمرها بدراً. بعد ثلاث أو أربع سنوات تعرّف دوكي إلى غارابيتو وأخبره بلقائه بماركيز، حينها قال غارابيتو: {من المؤسف أن نُحرم من فصل بهذا الجمال بسببي}.
مصادر مؤثرة
تحدثت الكتب النقدية عن المصادر الثقافية والروائية التي أثرت في حياة ماركيز، فالروائي عمل على تطوير خرافات الشعوب وحكاياتها التي كانت تسردها عليه جدته، وتزرع فيه، من دون وعي منها، البذرة الأولى لتوجيهه نحو أسلوب الحكي الخرافي والعجائبي.
في مطلع شبابه أعجب ماركيز بأدب فرانز كافكا، ومن يعرف تجربة كافكا وعوالمه الاستثنائية والكابوسية سيكتشف مصدراً مهماً من مصادر الواقعية السحرية لدى ماركيز ومعظم الروائيين الكبار.
قال ماركيز إنه عندما قرأ {المسخ} لكافكا، اهتدى إلى أن يكون كاتباً، وكان في السابعة عشرة من عمره. ويذكر ماركيز في أحد حواراته أنه عندما قرأ الجملة الأولى من رواية {المسخ} لكافكا: {ما إن أفاق غريغور سامسا ذات صباحٍ من أحلامه المزعجة حتى وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمةٍ} فكّر: {اللعنة... هكذا كانت جدتي تتحدث}...
كذلك يعترف ماركيز بتأثير فوكنر القوي فيه، وإذ ينكر، في البدء، مثل هذا التأثير في حوار مطوّل أجراه معه بيلينيو أبوليو مندوزا، مشيراً إلى التماثل الجغرافي لا الأدبي، بين عمله وعمل فوكنر، ينبهه مندوزا في زاوية ضيقة إلى تشابهات تتعدى النطاق الجغرافي: {ثمة خط معين من النسب بين العقيد سارتوريس والعقيد أوريليانو بوينديا، بين ماكوندو ويوكناباتاوفا كونتي... عندما تحاول ألا تعترف بفوكنر كعنصر مؤثر مهم، ألا ترتكب بذلك جريمة قتل ضد أقرب الناس إليك؟}
يجيب ماركيز: {ربما أكون كذلك، لذلك قلت إن مشكلتي لم تكن في كيفية تقليد فوكنر، بل في كيفية تدميره. كان تأثيره يشل حركتي}. يوضح ماركيز في حديث آخر: {إذا كانت رواياتي جيدة فلسبب واحد، أنني حاولت تجاوز فوكنر في كتابة ما هو مستحيل وتقديم عوالم وانفعالات، يستحيل أن تقدمها الكتابة والكلمات مثل فوكنر، ولكن لم أستطع تجاوزه أبداً إلا أنني اقتربت منه}.
فضلاً عن كافكا وفوكنر أعجب بياسوناري كواباتا، فماركيز، الصاخب بواقعيته السحرية، أعلن في احدى المرات أن {الكِتاب الوحيد الذي وددت لو أكون كاتبه هو {الجميلات النائمات} للياباني كواباتا.
يختار ماركيز كتاباً ينتمي الى ثقافة البطء، وفي روايته الأخيرة {ذاكرة غانياتي الحزينات} اختار التناص مع رواية كواباتا، وهي مستوحاة من رواية {الجميلات النائمات}. لم تحظَ باهتمام النقاد، اذ لم تكن بمستوى روايات ماركيز السابقة.
تحكي روايته سيرة كاتب صحافي عجوز ينتبه، فجأة، إلى أن عليه الاحتفال بعيد ميلاده التسعين، فيما هو يعيش في عزلة تامة ولا رابط له بالدنيا سوى مقاله الأسبوعي الذي يكتبه في صحيفة المدينة. من دون أن ننسى التأثير الأهم في ثقافة ماركيز، وهي قصص ألف ليلة وليلة أو {الليالي العربية} التي لها حضورها الخاص في أميركا اللاتينية، وماركيز الذي يتحدث عن مصادر الهامه وتأثيره لم يكن أسيرها، ولم يقع تحت التقليد الحرفي لها، كان يعيد تركيب الأشياء ضمن نصه الخاص.
ثقافة اللامكان
في 2007 زار ماركيز مسقط رأسه، في بلدته أراكاتكا، بعد ربع قرن من الغياب عنها تقريباً. انتقل إليها بالقطار من مدينة سانتا مارتا، على ساحل الكاريبي، مع 300 شخص شاؤوا مرافقته في تلك الرحلة، بينهم: فنانون، مغنون، أفراد أسرته، فضلاً عن وزير الثقافة الكولومبي.
المشهد فاق الوصف، لا سيما لدى تدفق الحشود نحو القطار لملاقاة ماركيز، إذ يعتبرون أنه خلّد هذه البلدة التي أصبحت مرادفاً لقرية {ماكوندو{ المتخيّلة والتي قدمها ماركيز في روايته {مائة عام من العزلة}. حمل بعضهم لافتات ترحب بابن البلدة ما اضطر قوات الأمن إلى التدخل للسماح للكاتب بالنزول. بعد القطار، طاف ماركيز في البلدة على متن عربة يجرها حصان، ومرّ على المكتبة الرئيسة والبيت الذي نشأ فيه، ثم ما لبث أن عاد بالقطار بعدما أمضى ساعات في البلدة حيث احتفل مرافقوه بعيده الثمانين.
سمعنا أساطير كثيرة تدور حول عودة ماركيز إلى أرضه، يقول بعضها إن ماركيز عاد إلى ماكوندو مرات بعد نيله {نوبل}. وثمة أسطورة سوداء تحكي أنه لم يعد أبداً، أما أسطورة أهل ماكوندو فتقول إن ماركيز لم يفعل شيئاً لأرضه. هنا يقدم ماركيز دليلا على انشغاله بهذه الارض، مقدماً إهداء إحدى رواياته على هذا النحو: {الى رفائيل الذي لم أفعل شيئاً من أجله سوى تقديم هذا الكتاب وكتب أخرى}. وبعد فوزه بجائزة نوبل، قال ماركيز عبارة صارت كالنقش: {لم أنس أبداً، تحت أي ظرف، أنني لم أكن في حقيقتي ولن اكون إلا أحد الأبناء الستة عشر لأب عامل تليغراف في أراكاتاكا»...
واليوم تفتقد ماكوندو مبتكرها...
صديق الرؤساء
كان ماركيز صديقاً للرئيس الأميركي بيل كلينتون وعلى علاقة وطيدة بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو الذي كان غالباً القارئ الأول لمخطوطات رواياته، وكان يبدي ملاحظاته عليها. اعترف ماركيز أن كاسترو صوب بعض اخطائه بشأن نوع من السلاح في روايته {الجنرال في متاهته}، وأنه سلمه مخطوطة مذكراته، وبعدما قرأها كاسترو لم يستطع كاسترو كبح صوت المبدع في داخله، واعترف إلى إحدى الصحف الكولومبية بأنه لو كان ثمة تناسخ أرواح لتمنى أن يكون كاتباً مثل صديقه ماركيز. توطدت الصداقة بين الزعيم الكوبي و{غابو{، مع الأيام بفعل اهتمام الاثنين بالأدب.
يقول غابو إنه اكتشف على الفور ما لا تعرفه سوى قلة، وهو أن كاسترو قارئ نهم محب للأدب الجيد، ومتابع له في كل وقت حتى في أصعب المراحل، وأن الكتاب لا يفارقه في وقت الفراغ.
ظل ماركيز موالياً لكاسترو، حتى في الأوقات التي كانت فيها جموع المثقفين في مناطق واسعة من العالم تنتقد الثورة الكوبية، بسبب الرقابة وسوء معاملة المفكرين والفنانين وأصحاب الرأي، حتى الكاتب البيروفي ماريو فارغاس وصف ماركيز بأنه من حاشية الرئيس الكوبي. وكان ماركيز يصر على أن صداقته مع كاسترو تتجاوز السياسة، وأن قربه منه سمح له بإنقاذ كمّ من المنشقين بهدوء.
عندما توجه ماركيز إلى كوبا لحضور الاحتفالات العامة بعيد ميلاد كاسترو، بقي هناك شهراً، لكنه لم يتمكن من مقابلة صديقه القديم، ما حدا بمجلة {سيمانا} الكولومبية إلى القول إنها المرة الاولى التي لا يلتقي فيها الصديقان عندما يزور ماركيز الجزيرة، في حين قلل هذا الأخير من شأن ذلك واعتبره مؤشراً على صحة ما يتردد عن وضع كاسترو الصحي، فاعتزل الأخير السلطة واعتزل غابو الكتابة وسبقه الى الموت.
هذيان الأصل اللبناني – المصري
فور إعلان وفاة ماركيز انتشر على مواقع الإنترنت خبران مفادهما «رحيل ماركيز صهر المصريين»، و«زوجة ماركيز من أصل لبناني»، من دون الأخذ في الاعتبار أن أميركا اللاتينية كلها من أصول أخرى، مع قلة من السكان الأصليين.
أهمية زوجة ماركيز ليست في أن أصلها من الشرق، بل في كونها جزءاً من منظومة ثقافية اتبعها ماركيز واستمد منها بعض ثقافته، مثل كتاب «ألف ليلة وليلة»، أو كتب عنها كما في روايته «قصة موت معلن».
ثقافة عربية
تعرّف ماركيز إلى زوجته، حين كانت في الثالثة عشرة من عمرها، وكانت شديدة السمرة وهادئة، يقول ماركيز إنها «أكثر إنسان ممتع قابله في حياته». بعد تخرجه في الليسيه ناسيونال، أخذ إجازة قصيرة مع والديه قبل دخوله الجامعة، في تلك الفترة طلب يدها للزواج.
زوجة ماركيز حفيدة مهاجر مصري من أصل لبناني، كان يملك صيدلية في بلدة «ماغانغي» بولاية بوليفار الكولومبية. اسمها الكامل Mercedes Raquel Barcha Pardo، {باردو{ مستمد من والدتها راكيل باردو لوبيز، في حين أن {بارشا} مستمد من جدتها، الأم الكولومبية لوالدها Demetrio Barcha Velilla ابن المهاجر إلى كولومبيا Elias Facure المولود في الاسكندرية من أب لبناني من عائلة فاخوري وأم مصرية.
ذكرت زوجة ماركيز عن جدها اللبناني- المصري: {كان مصرياً خالصاً (...)، كان يحملني على كتفيه لألعب، ويجلسني في حضنه. وكان يغني لي باللغة العربية، ويرتدي قطنيات بيضاء باستمرار، ويملك ساعة ذهبية ويضع قبعة قش على رأسه، توفي عندما كنت في السابعة من عمري تقريباً}.
كانت لماركيز علاقة، بطريقة ما، ويومية مباشرة، بالثقافة العربية الشرقية. يبدو ذلك واضحاً في بعض رواياته، أهمها {مائة عام من العزلة}، وتعيد روايته القصيرة {قصة موت معلن}، بطلها من أصل لبناني أو عربي، سرد أحداث مقتل سانتياغو نصار على يد بيكاريو بيدرو وبابلو، أخوي أنجلينا بكاريو التي تتزوج بيادرو رامون، وفي ليلة الزفاف يكتشف بيادرو أن عروسه فقدت بكارتها، فيغضب ويتوجه إلى منزل أهلها ويخبرهم بسر {الفضيحة}، ولما عرف أخوا أنجيلا بما حدث غضبا، باعتبار أن شرف عائلتهما تدنس، وسألا شقيقتهما عن هوية مرتكب هذا الفعل {المدنس}، فأجابت أنه سانتياغو نصار، فما كان منهما إلا أن أمسكا سكينين وعقدا العزم على قتل سانتياغو نصار، وتجولا في القرية معلنَين نيتهما قتله، إلا أن أهل القرية لم يحركوا ساكناً، هكذا أمتلك الأخوان حقاً بالدفاع عن شرفهما ومحاولة غسل العار الذي لحق بعائلتهما بدم سانتياغو نصار، الذي لم يخبره أحد عن مصيره المنتظر أو المعلن.
مؤلفات ماركيز
روايات
- في ساعة شؤم (1962).
- مائة عام من العزلة (1967).
- خريف البطريرك (1975).
- الحب في زمن الكوليرا (1985).
- الجنرال في المتاهة (1989).
- عن الحب وشياطين أخرى (1994).
روايات قصيرة
- أوراق العاصفة (1955).
- الجنرال لا يجد من يكاتبه (1981).
- ذكريات عاهراتي الحزينات (2004).
قصص قصيرة
- عيون كلب أزرق (1947).
- جنازة الجدة (1962).
- الحكاية الحزينة لأنديرا البريئة وجدّتها القاسية (1978).
- قصص مختارة (1984).
كتب
- حكاية غريق (1970).
- عزلة أميركا اللاتينية (1982).
- رائحة الجوافة ... حوارات بيلينيو ابوليو ميندوزا مع ماركيز.
- خبر اختطاف (1996).
- عشت لأروي (2002
أخيراً مات غابرييل غارسيا ماركيز (87 عاماً) جسدياً بعد سنوات من المعمعة والإشاعات التي لا تنتهي، وبدا الفصل الأخير من حياته رواية عجائبية تتفوق على روايات {الواقعية السحرية} بمضمونها الافتراضي، فمنذ إشاعة نشر وصية موته عبر الإنترنت، إلى الحديث عن مرضه وصولاً إلى الإشاعة الأخيرة التي تحدثت عن خرفه، كلها أمور أشارت إلى أن السنوات الأخيرة من حياة هذا الكاتب العظيم باتت رواية أشد عمقاً من روايته نفسها.
يقول جيرالد مارتن (مؤلف سيرته): {لو ألقينا نظرة على روائيي القرن العشرين، لاكتشفنا أن معظم الاسماء الكبيرة التي يتفق النقاد اليوم بشأنها، تعود الى السنوات الأربعين الأولى من ذلك القرن (جويس، بروست، كافكا، فوكنر، وولف)، أما في النصف الثاني من القرن فربما حظي ماركيز وحده بإجماع حقيقي.
مات ماركيز النوبلي الذي قالت الأكاديمية الملكية السويدية لدى منحه جائزة نوبل (1982): {يقودنا في رواياته وقصصه القصيرة إلى ذلك المكان الغريب الذي تلتقي فيه الأسطورة والواقع}.
هو أشهر روائي في أميركا اللاتينية والعالم، بيع أكثر من 65 مليون نسخة من كتبه. وكان الكاتب الأبرز ضد الدكتاتوريات في بلاده، وصديق اليسار في أميركا اللاتينية، والمثقف حامل الأفكار والرسائل بلا ايديولوجيا خشبية. وفي رواياته بحث عن متعة القص والحكاية، وإن كان فيها شخصيات مركبة من هنا وهناك. كذلك يعتبر ماركيز ظاهرة فريدة، فهو كاتب جاد لكنه {شعبوي} على غرار ديكنز أو هوغو أو همنغواي، تباع كتبه بالملايين وتقترب شهرته من شهرة نجوم الرياضة والمؤلفين الموسيقيين ونجوم السينما، وكلماته حاضرة في بعض محطات المترو.
وغابو أو غابيتو كما يدلع ماركيز، كاتب نادر، من ناحية حضوره، سواء من خلال مواقفه أو رواياته أو صداقاته. عاش بعزلة في سنواته الأخيرة، لكن اخباره المفبركة كانت صاخبة، عندما كتب مقرصن {وصية} افتراضية لماركيز أحدث صدمة، وعندما أعلن ماركيز اعتزاله الكتابة لأنه لم يتمكن في 2005 من كتابة سطر واحد، أحدث صدمة. وحين أُشيع عن إصابته بالخرف حدثت بلبلة في الصفحات الثقافية، خصوصاً أن ماركيز صاحب الحكمة الأثيرة التي وردت في مذكراته وتقول: {الحياة ليست ما يعيشه أحدنا وإنما هي ما يتذكره وكيف يرويه}، أو يقول: {عشت لأروي}، ويعترف في مقدمة مجموعته القصصية {12 حكاية عجيبة} التي كتبها في إبريل 1992 بأن {متعة الكتابة أعظم المتع حميمية ووحدة على الإطلاق}، ويضيف في المقدمة نفسها: {أحس بأنني أكتب لمتعة القص وحدها والتي ربما كانت أشبه الحالات الإنسانية بانعدام الوزن}. في مكان آخر يقول: {الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان!!}
أشيع أنه سيصدر رواية بعد مرضه وبدأ الضجيج حول ماذا سيكتب، كل ما حدث بعد توقف ماركيز عن الكتابة كان صاخباً يظهر مدى قوة حضوره في العالم، حضور لم يأت من فراغ وليس من نجومية عابرة، بل من كتب كانت وليمة ثقافية لكل متحمس للقراءة، وهي نتاج روائي انطلق من نقطة الصفر وصار اسمه بين الكبار (الكبار)...
قصص وخرافات
كان ماركيز مفتوناً بقصص جدّه وخرافات جدته، وعداه هو وجده، كان البيت بيت نساء، ذكر ماركيز في ما بعد أن معتقداتهن جعلته يخشى مغادرة مقعده، يستمع إلى قصص الحرب الأهلية، قصة مذبحة الموز، زواج والديه، المزاولات اليومية للطقوس المتعلقة بالخرافات، إضافة إلى حضور الخالات ومغادرتهن، وبنات جّده غير الشرعيات... كل هذه الأمور كتب عنها غارسيا ماركيز قائلاً: {أشعر أن كتاباتي كانت حول التجارب التي مررت بها وسمعت عنها وأنا برفقة جدي}.
مات جد ماركيز عندما كان في الثانية عشرة من عمره، ونتيجة لذلك ساءت حالة العمى لدى جدته، فذهب ليعيش مع والديه في سوكر، فقررا أن الأوان حلّ ليتلقى تعليمه بشكل رسمي، فأرسلاه إلى مدرسة داخلية في بارانكويللا، مدينة تقع على ميناء نهر ماغدالينا، وقد اشتهر، آنذاك، بقصائده الظريفة ورسومات الكاريكاتور، كان جاداً وغير رياضي إلى درجة أن أقرانه في الفصل أطلقوا عليه كنية {الرجل العجوز}.
في تلك الفترة حصل على منحة دراسية تؤهله الدخول إلى الليسيه ناسيونال، مدرسة ثانوية للطلاب الموهوبين يديرها يسوعيون متدينون، تقع في مدينة زيباكويرا التي تبعد 30 ميلاً إلى الشمال من العاصمة بوغوتا، كانت الرحلة إليها تستغرق أسبوعاً، فتوصل إلى نتيجة أنه لا يحب بوغوتا.
اهتمّ ماركيز بدراسته إلى أقصى حدّ، وفي الأمسيات كان يقرأ على زملائه، في السكن الداخلي، محتوى الكتب بصوت مرتفع. بعد تخرجه في الثامنة عشرة من عمره (1946)، حقق أمنية والديه بالالتحاق بجامعة يونيفيرسيداد ناسيونال في بوغوتا، لدراسة القانون بدلاً من الصحافة، لاحقاً عمل في الصحافة التي كانت مقدمة لكتاباته الروائية.
عن أسباب كتابته للرواية، يقول ماركيز: {بدأت الكتابة بمحض الصدفة: ربما لكي أبرهن لأحد أصدقائي أن جيلي قادر على أنجاب كتّاب. بعد ذلك سقطت في شرك الكتابة من أجل المتعة، ثم في الشرك التالي وهو اكتشاف أن عشقي للكتابة يفوق حبي لأي شيء آخر في الدنيا}.
مئة عام من العزلة
كافح ماركيز طويلا حتى وصل إلى الشهرة، ربما من يقرأ سيرته التي كتبها جيرالد مارتن يدرك ذلك، جاء في هذه السيرة أنه، في مطلع أغسطس 1966، ذهب ماركيز بصحبة زوجته مارسيدس إلى مكتب البريد ليرسل إلى العاصمة بيونس آيرس مخطوطة كتابه الجديد {مائة عام من العزلة}. كانا في حالة يرثى لها وأشبه بناجيين من كارثة. ضمن الرزمة: 490 صفحة منضدة، فطلب موظف البريد اثنين وثمانين بيزوساً.
راقب ماركيز زوجته وهي تبحث في حقيبة يدها عن المال، لم يكن لديهما سوى خمسين بيزوساً، لذلك لم يكن باستطاعتهما ارسال سوى نصف الكتاب، فجعل ماركيز موظف البريد يقتطع الصفحات من المخطوطة كما يقتطع شرائح اللحم المقدد حتى بقي ما يمكن ارساله بخمسين بيزوساً... وعندما عادا إلى المنزل، رهنا جهاز التدفئة، ومجفف الشعر والعصارة، ثم عادا إلى مكتب البريد لإرسال ما تبقى، لدى خروجهما، توقفت مارسيدس والتفتت الى زوجها قائلة: {غابو، لا ينقصنا الآن سوى أن يكون الكتاب سيئاً}.
حققت الرواية شهرة بعد نشرها مباشرة (1967)، وباعت أكثر من 30 مليون نسخة في أنحاء العالم، وأعطت دفعة لأدب أميركا اللاتينية. كان ظهورها في ذروة التحول بين الرواية الحداثوية وما بعد الحداثوية. يمزج ماركيز الأحداث المعجزة والخارقة بتفاصيل الحياة اليومية والحقائق السياسية في أميركا اللاتينية.
قال إنه استلهم الرواية من ذكريات الطفولة والقصص التي كانت ترويها جدته، ويغلب عليها التراث الشعبي والخرافات، لكنها قدمت أكثر الوجوه استقامة.
{ماكوندو{ هي البلدة التي تدور فيها أحداث {مائة عام من العزلة}، ويقع الموقع الجغرافي الحقيقي لماكوندو، على أرض أميركا اللاتينية، في مخيلة ماركيز. إنها المدينة - العالم التي أعاد ماركيز بناءها بكل ما يحمل في قلبه من ذكريات الطفولة وبيت النمل وحكايات الجدة، والموتى الأحياء. وبالنبرة ذاتها التي كانت تحكي بها الجدة الحكايات، تحدث ماركيز عن الحرب والعنف وضياع المبادئ، وسط الثورات الدامية والخلافات الإيدلوجية التي كانت تفتك ببلاده.
{مائة عام من العزلة} علامة فارقة في تاريخ الرواية ومقدمة لروايات ماركيز وروايات من مشى على طريق الواقعية السحرية. تحولت كتابة ماركيز الى {سحر}، من كتاباته عن ثقافة بيل كلينتون ومخدرات أسكوبار وسحر شاكيرا التي وضعها في خانة النجوم الذين يؤثّرون في أطفال العالم، إلى كتاباته عن قارئه الأسطوري. ففي إحدى المرات كان الصحافي الكولومبي ليساندرو دوكي نارانخو، ضيفاً في بيت ماركيز الذي كان يكتب {الجنرال في متاهته}. طلب منه أن يجلس لينتظره، بينما تابع الكتابة.
تصنّع دوكي أنه يقرأ في مجلة بينما كان ينظر إلى ماركيز وهو يكتب، مفكراً أنه لن تتاح له فرصة، دائماً، لمشاهدة عبقري يكتب. وعندما توقف ماركيز عن الكتابة، أجرى مكالمة هاتفية صدمت دوكي. كان غابو يسأل أحد علماء الفلك إن كان قد تحقّق من أن القمر كان بدراً في 10 يونيو 1813، فجاءت الإجابة مخيّبة لآماله، لأن ماركيز تغيّر وجهه وطلب من متحدّثه التأكد من هذه المعلومة في أقرب وقت ممكن لأمر عاجل.
ولأن الأمر يتعلّق بالقمر في القرن الماضي، لم يهتم الصحافي والتزم الصمت. حينئذ شرع ماركيز في الحديث قائلاً إن الأمر يتعلّق بفصل كامل كتبه في روايته هذه وينسبه إلى بوليفار، ويرتبط بهذه الليلة، ليلة إيروتيكية كان القمر فيها بدراً، {وفي حال كان القمر غير كامل ليلة 10 يونيو، سأحذف الفصل كاملاً}.
سأله دوكي حينئذ: {أي قارئ سيهتم بهذه المعلومة، ومن سيبحث إن كان القمر يوم 10 يونيو 1813 كاملاً أم لا؟} فأجابه ماركيز: {فرناندو غارابيتو، لهذا أريد أن أسبقه، فلو كان القمر بدراً في تلك الليلة، أنتصر عليه}. بعدها حُكي له أن غارابيتو أمسك بأخطاء في روايات سابقة وبناء على ذلك يعتبره أصعب قارئ له، ورغم أنه لم يكن يعرفه شخصياً إلا أنه كان يلعب معه ضمنياً لعبة القط والفأر.
عندما صدرت رواية {الجنرال في متاهته} لم يجد دوكي الفصل الذي يحتوي على ليلة سيمون بوليفار الإيروتيكية، فعرف أن ليلة 10 يونيو 1813 في غرناطة الجديدة لم يكن قمرها بدراً. بعد ثلاث أو أربع سنوات تعرّف دوكي إلى غارابيتو وأخبره بلقائه بماركيز، حينها قال غارابيتو: {من المؤسف أن نُحرم من فصل بهذا الجمال بسببي}.
مصادر مؤثرة
تحدثت الكتب النقدية عن المصادر الثقافية والروائية التي أثرت في حياة ماركيز، فالروائي عمل على تطوير خرافات الشعوب وحكاياتها التي كانت تسردها عليه جدته، وتزرع فيه، من دون وعي منها، البذرة الأولى لتوجيهه نحو أسلوب الحكي الخرافي والعجائبي.
في مطلع شبابه أعجب ماركيز بأدب فرانز كافكا، ومن يعرف تجربة كافكا وعوالمه الاستثنائية والكابوسية سيكتشف مصدراً مهماً من مصادر الواقعية السحرية لدى ماركيز ومعظم الروائيين الكبار.
قال ماركيز إنه عندما قرأ {المسخ} لكافكا، اهتدى إلى أن يكون كاتباً، وكان في السابعة عشرة من عمره. ويذكر ماركيز في أحد حواراته أنه عندما قرأ الجملة الأولى من رواية {المسخ} لكافكا: {ما إن أفاق غريغور سامسا ذات صباحٍ من أحلامه المزعجة حتى وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمةٍ} فكّر: {اللعنة... هكذا كانت جدتي تتحدث}...
كذلك يعترف ماركيز بتأثير فوكنر القوي فيه، وإذ ينكر، في البدء، مثل هذا التأثير في حوار مطوّل أجراه معه بيلينيو أبوليو مندوزا، مشيراً إلى التماثل الجغرافي لا الأدبي، بين عمله وعمل فوكنر، ينبهه مندوزا في زاوية ضيقة إلى تشابهات تتعدى النطاق الجغرافي: {ثمة خط معين من النسب بين العقيد سارتوريس والعقيد أوريليانو بوينديا، بين ماكوندو ويوكناباتاوفا كونتي... عندما تحاول ألا تعترف بفوكنر كعنصر مؤثر مهم، ألا ترتكب بذلك جريمة قتل ضد أقرب الناس إليك؟}
يجيب ماركيز: {ربما أكون كذلك، لذلك قلت إن مشكلتي لم تكن في كيفية تقليد فوكنر، بل في كيفية تدميره. كان تأثيره يشل حركتي}. يوضح ماركيز في حديث آخر: {إذا كانت رواياتي جيدة فلسبب واحد، أنني حاولت تجاوز فوكنر في كتابة ما هو مستحيل وتقديم عوالم وانفعالات، يستحيل أن تقدمها الكتابة والكلمات مثل فوكنر، ولكن لم أستطع تجاوزه أبداً إلا أنني اقتربت منه}.
فضلاً عن كافكا وفوكنر أعجب بياسوناري كواباتا، فماركيز، الصاخب بواقعيته السحرية، أعلن في احدى المرات أن {الكِتاب الوحيد الذي وددت لو أكون كاتبه هو {الجميلات النائمات} للياباني كواباتا.
يختار ماركيز كتاباً ينتمي الى ثقافة البطء، وفي روايته الأخيرة {ذاكرة غانياتي الحزينات} اختار التناص مع رواية كواباتا، وهي مستوحاة من رواية {الجميلات النائمات}. لم تحظَ باهتمام النقاد، اذ لم تكن بمستوى روايات ماركيز السابقة.
تحكي روايته سيرة كاتب صحافي عجوز ينتبه، فجأة، إلى أن عليه الاحتفال بعيد ميلاده التسعين، فيما هو يعيش في عزلة تامة ولا رابط له بالدنيا سوى مقاله الأسبوعي الذي يكتبه في صحيفة المدينة. من دون أن ننسى التأثير الأهم في ثقافة ماركيز، وهي قصص ألف ليلة وليلة أو {الليالي العربية} التي لها حضورها الخاص في أميركا اللاتينية، وماركيز الذي يتحدث عن مصادر الهامه وتأثيره لم يكن أسيرها، ولم يقع تحت التقليد الحرفي لها، كان يعيد تركيب الأشياء ضمن نصه الخاص.
ثقافة اللامكان
في 2007 زار ماركيز مسقط رأسه، في بلدته أراكاتكا، بعد ربع قرن من الغياب عنها تقريباً. انتقل إليها بالقطار من مدينة سانتا مارتا، على ساحل الكاريبي، مع 300 شخص شاؤوا مرافقته في تلك الرحلة، بينهم: فنانون، مغنون، أفراد أسرته، فضلاً عن وزير الثقافة الكولومبي.
المشهد فاق الوصف، لا سيما لدى تدفق الحشود نحو القطار لملاقاة ماركيز، إذ يعتبرون أنه خلّد هذه البلدة التي أصبحت مرادفاً لقرية {ماكوندو{ المتخيّلة والتي قدمها ماركيز في روايته {مائة عام من العزلة}. حمل بعضهم لافتات ترحب بابن البلدة ما اضطر قوات الأمن إلى التدخل للسماح للكاتب بالنزول. بعد القطار، طاف ماركيز في البلدة على متن عربة يجرها حصان، ومرّ على المكتبة الرئيسة والبيت الذي نشأ فيه، ثم ما لبث أن عاد بالقطار بعدما أمضى ساعات في البلدة حيث احتفل مرافقوه بعيده الثمانين.
سمعنا أساطير كثيرة تدور حول عودة ماركيز إلى أرضه، يقول بعضها إن ماركيز عاد إلى ماكوندو مرات بعد نيله {نوبل}. وثمة أسطورة سوداء تحكي أنه لم يعد أبداً، أما أسطورة أهل ماكوندو فتقول إن ماركيز لم يفعل شيئاً لأرضه. هنا يقدم ماركيز دليلا على انشغاله بهذه الارض، مقدماً إهداء إحدى رواياته على هذا النحو: {الى رفائيل الذي لم أفعل شيئاً من أجله سوى تقديم هذا الكتاب وكتب أخرى}. وبعد فوزه بجائزة نوبل، قال ماركيز عبارة صارت كالنقش: {لم أنس أبداً، تحت أي ظرف، أنني لم أكن في حقيقتي ولن اكون إلا أحد الأبناء الستة عشر لأب عامل تليغراف في أراكاتاكا»...
واليوم تفتقد ماكوندو مبتكرها...
صديق الرؤساء
كان ماركيز صديقاً للرئيس الأميركي بيل كلينتون وعلى علاقة وطيدة بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو الذي كان غالباً القارئ الأول لمخطوطات رواياته، وكان يبدي ملاحظاته عليها. اعترف ماركيز أن كاسترو صوب بعض اخطائه بشأن نوع من السلاح في روايته {الجنرال في متاهته}، وأنه سلمه مخطوطة مذكراته، وبعدما قرأها كاسترو لم يستطع كاسترو كبح صوت المبدع في داخله، واعترف إلى إحدى الصحف الكولومبية بأنه لو كان ثمة تناسخ أرواح لتمنى أن يكون كاتباً مثل صديقه ماركيز. توطدت الصداقة بين الزعيم الكوبي و{غابو{، مع الأيام بفعل اهتمام الاثنين بالأدب.
يقول غابو إنه اكتشف على الفور ما لا تعرفه سوى قلة، وهو أن كاسترو قارئ نهم محب للأدب الجيد، ومتابع له في كل وقت حتى في أصعب المراحل، وأن الكتاب لا يفارقه في وقت الفراغ.
ظل ماركيز موالياً لكاسترو، حتى في الأوقات التي كانت فيها جموع المثقفين في مناطق واسعة من العالم تنتقد الثورة الكوبية، بسبب الرقابة وسوء معاملة المفكرين والفنانين وأصحاب الرأي، حتى الكاتب البيروفي ماريو فارغاس وصف ماركيز بأنه من حاشية الرئيس الكوبي. وكان ماركيز يصر على أن صداقته مع كاسترو تتجاوز السياسة، وأن قربه منه سمح له بإنقاذ كمّ من المنشقين بهدوء.
عندما توجه ماركيز إلى كوبا لحضور الاحتفالات العامة بعيد ميلاد كاسترو، بقي هناك شهراً، لكنه لم يتمكن من مقابلة صديقه القديم، ما حدا بمجلة {سيمانا} الكولومبية إلى القول إنها المرة الاولى التي لا يلتقي فيها الصديقان عندما يزور ماركيز الجزيرة، في حين قلل هذا الأخير من شأن ذلك واعتبره مؤشراً على صحة ما يتردد عن وضع كاسترو الصحي، فاعتزل الأخير السلطة واعتزل غابو الكتابة وسبقه الى الموت.
هذيان الأصل اللبناني – المصري
فور إعلان وفاة ماركيز انتشر على مواقع الإنترنت خبران مفادهما «رحيل ماركيز صهر المصريين»، و«زوجة ماركيز من أصل لبناني»، من دون الأخذ في الاعتبار أن أميركا اللاتينية كلها من أصول أخرى، مع قلة من السكان الأصليين.
أهمية زوجة ماركيز ليست في أن أصلها من الشرق، بل في كونها جزءاً من منظومة ثقافية اتبعها ماركيز واستمد منها بعض ثقافته، مثل كتاب «ألف ليلة وليلة»، أو كتب عنها كما في روايته «قصة موت معلن».
ثقافة عربية
تعرّف ماركيز إلى زوجته، حين كانت في الثالثة عشرة من عمرها، وكانت شديدة السمرة وهادئة، يقول ماركيز إنها «أكثر إنسان ممتع قابله في حياته». بعد تخرجه في الليسيه ناسيونال، أخذ إجازة قصيرة مع والديه قبل دخوله الجامعة، في تلك الفترة طلب يدها للزواج.
زوجة ماركيز حفيدة مهاجر مصري من أصل لبناني، كان يملك صيدلية في بلدة «ماغانغي» بولاية بوليفار الكولومبية. اسمها الكامل Mercedes Raquel Barcha Pardo، {باردو{ مستمد من والدتها راكيل باردو لوبيز، في حين أن {بارشا} مستمد من جدتها، الأم الكولومبية لوالدها Demetrio Barcha Velilla ابن المهاجر إلى كولومبيا Elias Facure المولود في الاسكندرية من أب لبناني من عائلة فاخوري وأم مصرية.
ذكرت زوجة ماركيز عن جدها اللبناني- المصري: {كان مصرياً خالصاً (...)، كان يحملني على كتفيه لألعب، ويجلسني في حضنه. وكان يغني لي باللغة العربية، ويرتدي قطنيات بيضاء باستمرار، ويملك ساعة ذهبية ويضع قبعة قش على رأسه، توفي عندما كنت في السابعة من عمري تقريباً}.
كانت لماركيز علاقة، بطريقة ما، ويومية مباشرة، بالثقافة العربية الشرقية. يبدو ذلك واضحاً في بعض رواياته، أهمها {مائة عام من العزلة}، وتعيد روايته القصيرة {قصة موت معلن}، بطلها من أصل لبناني أو عربي، سرد أحداث مقتل سانتياغو نصار على يد بيكاريو بيدرو وبابلو، أخوي أنجلينا بكاريو التي تتزوج بيادرو رامون، وفي ليلة الزفاف يكتشف بيادرو أن عروسه فقدت بكارتها، فيغضب ويتوجه إلى منزل أهلها ويخبرهم بسر {الفضيحة}، ولما عرف أخوا أنجيلا بما حدث غضبا، باعتبار أن شرف عائلتهما تدنس، وسألا شقيقتهما عن هوية مرتكب هذا الفعل {المدنس}، فأجابت أنه سانتياغو نصار، فما كان منهما إلا أن أمسكا سكينين وعقدا العزم على قتل سانتياغو نصار، وتجولا في القرية معلنَين نيتهما قتله، إلا أن أهل القرية لم يحركوا ساكناً، هكذا أمتلك الأخوان حقاً بالدفاع عن شرفهما ومحاولة غسل العار الذي لحق بعائلتهما بدم سانتياغو نصار، الذي لم يخبره أحد عن مصيره المنتظر أو المعلن.
مؤلفات ماركيز
روايات
- في ساعة شؤم (1962).
- مائة عام من العزلة (1967).
- خريف البطريرك (1975).
- الحب في زمن الكوليرا (1985).
- الجنرال في المتاهة (1989).
- عن الحب وشياطين أخرى (1994).
روايات قصيرة
- أوراق العاصفة (1955).
- الجنرال لا يجد من يكاتبه (1981).
- ذكريات عاهراتي الحزينات (2004).
قصص قصيرة
- عيون كلب أزرق (1947).
- جنازة الجدة (1962).
- الحكاية الحزينة لأنديرا البريئة وجدّتها القاسية (1978).
- قصص مختارة (1984).
كتب
- حكاية غريق (1970).
- عزلة أميركا اللاتينية (1982).
- رائحة الجوافة ... حوارات بيلينيو ابوليو ميندوزا مع ماركيز.
- خبر اختطاف (1996).
- عشت لأروي (2002
ليست هناك تعليقات