بعد زيارات متعددة لتايلاند، وبعد ان قصدت المدينة الريفية الشمالية تشانغ ماي ست مرات، كان لا بدّ لي أن أحكي عن هذه التوليفة ا...
بعد زيارات متعددة لتايلاند، وبعد ان قصدت المدينة الريفية
الشمالية تشانغ ماي ست مرات، كان لا بدّ لي أن أحكي عن هذه التوليفة الساحرة التي
تلمسها في جوانب المدينة المختلفة. تجمع تلك البقعة الآسيوية بين خصائص المدينة
والمجتمع الريفي في آن، تجمع بين الصخب والهدوء بتوليفة تنزع عنك احتمالات الملل.
تقع تشانغ ماي في الشمال الأقصى لتايلاند، فبعد ان تستقل القطار من العاصمة بانكوك
هارباً من وطأة العمارات والازدحام تبدأ بشق طريقك عبر الحقول والسهوب والجبال
الصغيرة باتجاه الريف. أربعة عشر ساعة كفيلة للوصول الى تلك التوليفة التي تقصدها
عشرات الجنسيات المختلفة.
ثلاثة أيام كافية لتبدأ الانخراط في لعبة المدينة الريفية،
ثلاثة أيام وتُصادرك المدينة لصالح نمطها المُعاش. فمظاهر المصادرة تتبدى في حركتك
اليومية والعلاقات التي تنسجها من حولك وثيابك. قميص قطني وسروال قصير وشحاطة
وابتسامة ويكتمل هندامك لتخرج الى نهاراتك. يبدأ النهار على متن الدراجة حيث تجول
المدينة المربعة المسوّرة بحيطان القرميد وبخنادق مليئة بالمياه كسور وقائي لغزاة
كانت المدينة في ما مضى على عداوة معهم. هذه المدينة تتأهب على الدوام لاستقبال
الوافدين إليها. لقد أعدت لزوارها "ثقافة" كاملة للبيع، من حانات ليلية
وأسواق متنوعة الى العاهرات والمتحولون جنسياً "الليدي بوي" وأمكنة
التدليك التايلاندي التقليدية. ثقافة كاملة للبيع بحجة السياحة وثقافة أخرى سائدة
يتداولها المحليون بتفاوت إنتماءاتهم الطبقية والإثنية. ثقافة قِوامها
"القداسة"، تلك القداسة التي تهضم أي جديد وتُقوْلبه وفقاً لما تراه
ملائماً. تنتصب المعابد البوذية وتتوزع في المدينة لتشكل نقطة تقاطع بين
الثقافتين، فزبائن الثقافة الأولى هم زبائن الثقافة الثانية. المعابد وكهنتها
تتأرجح بين الدين والسياحة.
ترتفع الجبال والهضاب حول المدينة كالنواطير الحارسة، تمدها
بالفاكهة الإستوائية والمنتجات الحرفية و"بن الهضاب". سكان الهضاب
الأصليون القابعون في عزلتهم لغاتهم متنوعة كما أصولهم ومشاربهم. تتميز ملامحهم
بالسمرة والنقاء فهواء الهضاب، كما شمسها، علامة فارقة لريف تايلاند. تنتشر بيوت
القبائل، الفلاحين والحرفيين منهم، داخل الغابات الكثيفة كحبات الفطر. بيوت من خشب
ترتفع في عمارتها عن الأرض لتشكل مساحة إضافية يتشاطرها الخنازير والدجاج. سكان
الهضاب بمنأى عن ادعاءات الحضارة، لهم أعرافهم وتقاليدهم ويومياتهم ونمط عيشهم غير
آبهين بتعقيدات المدينة. المدينة بالنسبة لهم سوق منتجاتهم يقصدونها في النهار
ويغادرونها ليلاً تاركينها تستعد لارتداء ثوب السهرة.
الليل في المدينة حافلاً بالأمنيات والرغبات وكل هِوامات
الساهرين. يتنقل الناس بين علب الليل متعقبين أصوات الموسيقة الغربية وزجاجات
البيرة المحلية الملوّنة وابتسامات الفتيات.. إنها عملية مطاردة لكل أنواع الوهم.
إن ليل تشانغ ماي اجتماع كوني فالمصابيح الخافتة عين الله الساهرة. مصابيح تنير
درب العودة المترنحة الى منازلنا. تطول السهرة في أحيان كثيرة لنعود فجراً بخطى
متعرجة تراقبنا السناجب التي تلهو على أسلاك الكهرباء.
ليل تشانغ ماي ليس كنهارها. فالنهار استراحة محارب أو فرصة
للتخلص من آثار الليلة الماضية. قهوة بن الهضاب الطازجة وفطور
"إيكزوتيك" وكأس عصير من عشب القمح الأخضر زوادة لا بأس بها لتبدأ
استكشاف معالم الدينة ومقاهيها المنتشرة في كل مكان، أجملها تلك التي أخذت لها من
ضفاف الأنهر موقعاً. هذه المقاهي فرصة إضافية للتلاقي مع التايلانديين لاسيما طلاب
الجامعات وأبناء الطبقة الميسورة. أرصفة المقاهي تزدحم بالمارة، تزدحم بأمم من
الناس وباعة متجولين يقدموا لنا فُرجة مجانية. ما يميز الباعة هؤلاء هم باعة
الأمنيات أولئك الذين يحملون أقفاصاً من القش فيها عصافير ملونة. نشتري القفص
ونضمر أمنية ونطلق سراح العصافير الى الهضاب المجاورة من جديد. عند ملامح الغروب
تستعد الأغلبية للذهاب الى أماكن التدليك للبدء بإزالة آثام الليل والاستعداد لليل
أكثر نضارة.
الذهاب الى تشانغ ماي ليس كمغادرتها. الذهاب المفعم باللهفة
والتشويق لا يُشبه العودة المشحونة بالصور والمذاقات وبعض الحسرة. وطأة الرحيل عن
هذه المدينة تبدأ بتوضيب ما استحليت منها وماستطعت ابتياعه،
تبدأ بقرار الانسلاخ عن نمط ما لبث ان صادرك عن نمط يولّف بين ثنائيات متضاربة.
يقف أفراد العائلة التي تدير منزل الضيوف لوداعك، عندها تعلم مدى لطافة الناس هناك
بمعزل عن غايات السياحة. بدماثة مندرجة ضمن تضاعيف الثقافة السائدة يعاملك
التايلانديون، بدماثة غير قابلة للبيع كمنتج سياحي. هذه المدينة الواقعة على
"أرض الإبتسامة" كما يحلو للبعض تسميتها، هي تلك التوليفة الساحرة.
خاص "الرومي"
ليست هناك تعليقات