Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

ميرا صيداوي(*)... أنا الرأس العاشق لتعذيب ذاته

أضع رأسي على الطاولة هذا الصباح. سيجارة المارلبورو البيضاء أعلّقها في شفاه رأسي الموضوع على الطاولة بغرابة. يقول الرأس :" لست ق...

أضع رأسي على الطاولة هذا الصباح. سيجارة المارلبورو البيضاء أعلّقها في شفاه رأسي الموضوع على الطاولة بغرابة. يقول الرأس :" لست قادراً على فهم هذه الحاجة في خلاياي إلى تعذيب الذات. أنا الرأس العاشق لتعذيب ذاته, أفكر في الأشياء التي حدثت ولم تحدث وقد تحدث,وأفتح خزانة للشك وخزانة أخرى للبحث مما يسبب لي الدوار.أنا الرأس الأحمق المغطى في أوراق من البدايات والنهايات والكثير من الهتافات.
 لا قدرة على حمل شئ آخر سواي. أنا الرأس المدّور تتحرك على ايقاع أوامري الحياة كلها.
لا شيء أكبر مني لا شيء يصغرني, أحب وما أحب أعود لأكرهه. تدور الرؤوس حولي كأوطان صغيرة معلّقة لا ندخلها إلا بجواز سفر فكري.
يقدم المارة جواز سفرهم وأحدّق طويلاً في قبول دخولهم أو رفض الطلب. لا أذكر مساحات اليابسة في رأسي فلا يابسة في هذا الرأس باتت قادرة على البقاء. الماء في رأسي ابتلع كل شيء. طوفان فكريٌّ يحاصرني.. كلما أردتُ النوم يعود الأخضر إلى عينيّ.الأخضر لون الأرض التي أحلم أن أرى ، لون البقاء, لون الحالة بين طفولتي والآتي.لا أتفق مع هذا الهديل المتباكي الذي يحملني. أما الأعضاء الأخرى في هذا الجسد لا أراها, ولا تعنيني اهتماماتها أنا صانع الاهتمامات الأول..أنا كل شيء تتحرك قدماي الصغيرتين لتتأهب في الدفاع عن مشكلتها في التواجد داخل جسد لا يشبهها بشيء ولم تعد تشعر بالرغبة في حمله.تقول القدمان:" لا وجه واضح لأصابعي الصغيرة, لوني البنيّ تحول مع مرور الوقت إلى عفن تلوكه الأرض يومياً. الأحذية الضيقة التي لا أطيق,رائحة العرق في غرف النوم المتسخة.كل هذا وأعلم أنني لا أطيق ولا أريد البقاء ولا أقوَ على الرحيل أيضاً. كيف أرحل أنا القدم الصغيرة من وطن لا يتسع لغيري؟. الأنامل تتخبط بين البوح وابتلاع المعنى, تقول الأنامل لبعضها,اليوم صرت في العاشرة من عمري وفي هذا اليوم أمطرت السماء على رأسي مرات عديدة ولأنني خفت البرد فضلت القفز على حروف الحاسوب الآلي لأكتب ما يأمرني الرأس الأحمق بكتابته.أنا لا أطيق هذا الرأس .. الرأس لا يمثل قناعاتي ولا اختلافي عن سائر الأعضاء.أنا كل شيء الأنامل تتحرك في وتيرة من القفز واللمس. نحن نلمس كل شيء، التراب، الموتى، الصور، الجسد ،الحب, الرأس لا يلمس شيئاً إلاّ أنه يتصرف وكأنه عالم بما نشعر.لا يعلم الشعور إلاّ صاحبه. يقول جسدي لي أنت أسوء من حملنا. أنت من أفظع الكائنات البشرية التي لا تفهم ولا تحترم فلسفة أعضاء جسدها.غبيّ أنت, تدور الأرض حولك وبينما تبتلع الكحول كالمجنون وتبكي على كل ما حدث لك وكل ما لم يحدث, نتساقط نحن واحد تلو الآخر.عضو تلو الآخر.نحن نعلّمك أيها البشري الحقير أن جسدك يحضّر ثورةً قريبة ستشارك فيها كل الأعضاء وسنسقطك وببطء قد لا تشعر أنت فيه. ينام الجسد فيَّ، وأنام أنا على حافة الطريق وحيداً.الشارع في بيروت هذا المساء يوحي بمطر كثيف، الناس تخلع بعد خروجها من البارات حلمها بالأبد، وأنا الفقير الوحيد هنا أنصِتُ لمؤامرة جسدي الهزيل عليّ وأنتظر ثورته القريبة مثلما ينتظر الجنين لحظة خروجه من الرحم.أتأمل كل شيء الشوارع المزدحمة بأناس لا يعرفونني, ويخترق البرد أعضائي فأحتضن جسدي كطفل صغير وحينما أشعر باقتراب عاصفة أخرى, أتلو بعض الآيات من كافكا العظيم وأقول قد يصل هذا الصوت الى كافكا فينجدني. أضحك.. ومن شدة خوفي من الطيران نتيجة الريح الهائجة, أسأل الله على أرض أكبر من زواية الرصيف هذه, قد تتسع لي ولجسدي ولوطنين فيهما كامل الاختلاف وكامل الرغبة بالتشابه ..


- كاتبة وروائية فلسطينية مقيمة في لبنان (فايسبوك)


ليست هناك تعليقات