مقهى يونس هذا البحث الانتربولوجي الجامعي قدمته الزميلة أماني الدامرجي في "معهد العلوم الاجتماعية - الفرع الأول" ...
![]() |
مقهى يونس |
هذا البحث الانتربولوجي الجامعي قدمته الزميلة أماني الدامرجي في "معهد العلوم الاجتماعية - الفرع الأول" كرسالة تخرج، وجهدت على مدى اشهر في دراسة "ستايل" رواد مقهى يونس في شارع الحمرا وأنماط حياتهم، استنتجت الكثير من التفاصيل اليومية والحياتية في هذه الزاوية من زوايا شارع الحمرا البيروتي المديني الذي يجمع المتناقضات في مساحة ضيقة، أماني الدامرجي عاشقة الموضة والورد والزهور وعلم الاجتماع وتحب مهنة الصحافة، تحدت بيئتها الاجتماعية من اجل الانتربولوجيا وتحاول من خلال بحثها اضفاء اهمية على هذا النوع من العلوم في المجتمع اللبناني، بحث اماني يستحق الاهتمام والمتابعة والتشجيع وهو من دون شك يعطي صورة مصغرة عن شارع الحمرا الذي وبرغم كل الاوضاع السائدة ما زال يسحرنا، وحبذا لو تتبرع بعض دور النشر في اصدار بحث أماني في كتاب، او تلقي بعض الصحف اللبنانية الضوء عليه. هذه اجزاء بسيطة من البحث الذي يتألف من اكثر من مئة صفحة مع صور للمقهى.
"الرومي"
التّقديم:
استغرقت هذه الدراسة ما يقارب السنتين من العمل الحقلي، ومن تدريبي حول الكتابة "العالمة" أو الكتابة الأكاديمية، وعلى مدار السنتين كانت العقبة التي واجهتها تكمن في تنظيم أسلوبي في الكتابة، وفي تدريب ذهني على التفكير النمطي وممارسة الملاحظة السيستامية، ولولا متابعة أستاذي المشرف المستمرة وانتقاداته وتوجيهاته الدقيقة، لما استطعت إعداد هذه المذكرة.
تتمحور هذه المذكرة حول، فهم وظيفية مفهومي "الموضة" و"الستايل" في مقهى يونس، وبما أنني اخترت أن أنظر إلى "الموضة" و"الستايل" بمنظار رواد مقهى يونس، كان لا بد من الوقوف على بينة من المقهى، وهويته، وتاريخه، ومالكه، وطبيعة وظيفته، والعنصر الأهم في المقهى هو هوية وسلوكيات رواده وزبائنه. وفي محاولتي الأولية هذه، اضطررت بحسب ما يقوله المثل اللبناني إلى "أن أحمل بطيختين في يد واحدة": مقهى يونس، من جهة، وهو شبيه "بمسرح حيوي" يضخ مشاهد وصوراً مبطنة بالشحنات والدلالات الرمزية، وكشف النقاب، من جهة أخرى، عن وظيفية سيستام "الموضة" و"الستايل" على "الخشبة المسرحية" لمقهى يونس، وذلك بهدف محاولة تعريف المفهومين الآخرين، وتلمّس معاييرهما، ورصد أنماطهما المتداولة على ألسن رواد مقهى يونس وتميّز هيئاتهم ومظاهرهم.
تبقى معالجة هذا الموضوع (في حدود هذه المذكرة) مجرّد مدخل يخوّلني فهم بناءٍ مجتمعيّ متكامل في سنوات لاحقة. وقد عملتُ على استجماع ملامح عامّة لمستويات عدّة في محاولة لمفهمة "الموضة" و"الستايل" فى مقهى يونس، وذلك من خلال رؤية كلية الأبعاد تناولت جوانب متعددة ومختلفة. أتى هذا العمل ضمن إطار منظور إتنوغرافيّ وإتنولوجيّ، وهو مقسّم إلى ثلاثة فصول: الفصل الأول تناول تعريف مفهوم "الموضة"، وبما أن "أنتروبولوجيا الموضة" كميدان فتي يفتقد لتعريفات مرجعية، اضطررت إلى البحث في عناصر الموضة المتناثرة في بطون المراجع الأنتروبولوجية، كما توقفت على بينة من تعريفات مرجعية في سلك معرفي توأم، وبالتحديد في كتاب "سوسيولوجيا الموضة" (sociologie de la mode) لعالم الاجتماع فريدريك غودار من حيث استقيت بعض التعريفات. يتناول هذا الفصل شروط "الموضة"، ويصوّب على الأنسجة المجتمعية الثقافية "للموضة". أما الفصل الثاني فهو يُدخِل القارئ إلى تعريف مفهوم "الستايل"، ويُبرز الفرق بين "الموضة" و"الستايل"، ويعرض للشرائح والفئات المجتمعية ذات "الستايل" في مقهى يونس، ومعايير "الستايل"، ويستخرج أنماط "الستايل" الرائجة والمتداولة على ألسنة رواد مقهى يونس. ويُحيط الفصل الثالث والأخير بـ"الموضة" وبـ"الستايل" كلغة في التنافر والتناغم، ويشرح وظيفية "الموضة" و"الستايل" والتجاذب الجنسي، كما يسلّط الضوء على لغة "الموضة" و"الستايل" لخلق التقارب والتآلف كما التنافر، ويتناول مسألة لباس "الحاجة" في "الموضة" والستايل"، ويقف على بينة من إطلاق معايير الأحكام وألقاب مرتدي "الموضة" وأصحاب "الستايل". وتخلص مذكرة البحث هذه إلى استنتاجات وأسئلة توصلتُ إليها بعد تحليل وتأويل المقابلات والمعطيات الحقليّة، يتبعها عدد من الملاحق، الأول للصور الفوتوغرافية والثاني للخريطة والثالث للائحة المشروبات والأطعمة في مقهى يونس، والملحق الأخير كتيب عن تاريخ بن ومقهى يونس. وفي مطلع هذة المذكرة، تناولت عدداً من مقتضيات الانطلاق البحثي، كوصف وتحديد الواقعة المجتمعية اللافتة، وأسباب اختيار الموضوع، وأسئلة الانطلاق، والفرضيات، والمدرسة، والميدان، والحقل، والمفاهيم، والتقنيات، المستعملة والمتبعة.
وصف وتحديد الواقعة المجتمعية اللافتة:
ما أن تطلّ الشمس على شارع الحمراء، حتى يعلو ضجيج السيارات، وتتكاثف أقدام المارة والمتسّوقين والموظفين، بخاصة رواد مقاهي شارع الحمراء. في أحد مفارق هذا الشارع يأخذ مقهى يونس موقعاً استراتجياً فهو في قلب الشارع المزدحم لكنه بعيد عن ضجته، يغطي رصيف مقهى يونس شجرتين كبيرتين (صورة 1،20،23،28)، تحجبا أشعة الشمس عن طاولات رصيفه (أي حيزه الخارجي) فترى الجالسين والجالسات على طاولات الرصيف يتبادلون الأحاديث، ما يُعرف "بالدردشة"، وضجيج كلماتهم وضحكاتهم ورائحة دخانهم تعمّ المكان (صورة 10). ويلحظ المراقب مجموعات من الأشخاص تتشابه بأنماط ملابسها، فمثلاً: هذه مجموعة تلبس أزياء ذات ألوان داكنة (الأسود)، وتلك مجموعة تلبس أزياء ذات نمط رياضي، وعند الظهيرة تتوافد جماعة تتميز بارتداء زي القطع الثلاث الرسمي: السروال، القميص، السترة، وأحياناً يُلحظ مجموعة "صبايا" يلبسن السروال القصير "شورت" (short)، أو "الجينز" (jeans) الممزق عند الركبتين، أو "تي شرت" (t-shert) ممزقة (صورة 2)، وكأنهم سيؤدون عرضاً موحداً في اللحظة ذاتها، ومجموعة أخيرة، وليست آخرة، تتشارك بانتعال الحذاء الرياضي "كونفرس" (converse) . حتى النساء والرجال كبار السن نراهم مندمجين مع ما تروجه "الموضة" فيضعون النظارة الطبية الرائجة، يلبسون الحذاء الرياضي الشبابي (converse) (صورة 3) وسروال "الجينز" (jeans) أو يلبسن السروال القصير "شورت" (short) ويضعن الحلي والبعض منهن ترى على اظافرهن الوان "الموضة" الرائجة كالأخضر والبرتقالي الفاقع (الأورونج). وعند موسم التنزيلات نلحظ أكياس التسوق على طاولات ومقاعد المقهى.
تختلف حركة تآلف وتعارف رواد مقهى يونس بين الحيز الداخلي والحيز الخارجي (الجلسة الرصيفية). فحين يمر الرواد عبر الجلسة الرصيفية، نرى نمطاً من إلقاء التحية بالمصافحة والمشافهة، مع المجموعة الجالسة من حول إحدى الطاولات (صورة 26)، وبعد تبادل التحية يُدعى الوافد للانضمام إلى طاولة المجموعة، وهذا السلوك يوحي للمراقب كأنهم على معرفة سابقة ببعضهم البعض . حين يدخل الفرد إلى الحيز الداخلي، في الصالة الارضية والصالة العلية، نلحظ أن بعض الرواد يجلس متربعاً على الكنبة، وبعض آخر يمد رجليه على الطاولة الخشبية العريضة القصيرة (صورة 4،10)، وهذا المشهد يوحي للملاحظ وكأنهم جالسون بمفردهم وعلى حريتهم كما لو كانوا في منازلهم. واللافت بين الحيزين الداخلي والخارجي هو اختلاف نمط إلقاء التحية، إذ نراه في الحيز الداخلي يُقتَصر إيماءً بيد الداخل، فيبادله الجالس بابتسامة، والبعض الآخر بهزّ الرأس للأسفل (أي إيجاباً)، ويكمل قراءة كتابه أو يتابع درسه وانشغاله على حاسوبه النقال، فهذا القسم من المقهى يغلب على مرتاديه نشاط العمل، أو الدرس والمطالعة.
استنتجت من خلال الملاحظة بالمشاركة أن كلمة "عَالموضة" او"ستايلي" المتداولة بين رواد الحيز الخارجي في مقهى يونس، ("المجموعات" و"الشلل" والأفراد)، هي مفتاح موحد للتعارف والتآلف ومثال على ذلك: تعرَّفَت إحدى "الشلل" المؤلفة من ثلاثة شباب وأربع فتيات (أنا من ضمنهن)، التي تقصد مقهى يونس عند المساء، على شاب وصبية يتجادلان حول حدث سياسي بصوت مرتفع لا يخلو من انفعال ونبرة غضب، مما أدى إلى تدخل أحد شبان "الشلة" مخاطباً الشاب المنفعل، سائلاً إياه بلهجة لطيفة وابتسامة على شفتيه: كيف يستطيع مجادلة هذة الصبية ذات "الستايل المهضوم" بهذه الطريقة؟ متمنياً عليهما الهدوء والانضمام إلى طاولة "الشلة"، فضحكت الصبية وابتسم الشاب وأنهيا جدالهما معرّفيْن عن نفسيهما، فبادلهم أفراد "الشلة" بالمثل، وانتهى الجميع حول طاولة واحدة. وفي حادثة أخرى (صورة 5)، ثمة ثلاث نساء محجبات يجلسن على طاولة، وبمقابل طاولتهن تجلس امرأتان محجبتان أيضاً. ابتسمت إحداهما وسألت إحدى النسوة الثلاث اللواتي يجلسن بالقرب من طاولتهن قائلةً: "ستايل حجابك مصري، إنتي مصريه؟" فأجابتها بـ"نعم"، فتعارفن على بعضهن البعض وانضم الجميع إلى طاولة واحدة. وفي إحدى المرات التي كنت أجالس فيها "الشلل" المتنوعة والمختلفة في مقهى يونس قالت إحدى "الصبايا" لـ"صبية" أخرى تجالسها لماذا لم يجذبك ذاك الشاب، فهو يبدي اهتماماً واعجاباً كبيرين بك، فردت عليها قائلة "منو ستيلي" ولا أستطيع الارتباط بشخص "مِش عَستيلى"!
الموضوع:
تتمحور مذكرة بحثي حول الدُرجَة، أو ما يسمى "الموضة"، والأسلوب، المسمى "ستايل"، كلغة تواصل بصري يشكّل المفتاح الأول، (أي ما يعرف "بالطلَة"، أو الظهور الاول)، في العلاقات المجتمعية، الذي يترتب عليه موقفاً من الآخر بالسلب أم بالإيجاب. سأقف على بينة من هذين المفهومين "الستايل" و"الموضة" انطلاقاً من دراسة (وصف وتحليل) مسلكيات رواد أحد المقاهي الشبابية المستحدثة في شارع الحمراء بمدينة بيروت.
المشكلة أو تبرير الموضوع:
المبرر الموضوعي:
طرح أستاذي المشرف خلال إحدى المحاضرات الدراسية، في الجامعة، الميادين الجديدة التي بدأ اهتمام الباحثين الأنتروبولوجيين في التوجه إليها، وكان من ضمنها ميدان "أنتروبولوجيا الموضة". ونظراً لما أثار لديّ محور الأهتمام هذا من تساؤلات سابقة حول "الموضة" كوسيلة تواصل واتصال مجتمعي؟ وحول الدوافع اللاواعية الكامنة وراء حاجة الفرد لاقتناء آخر ما تروجه "الموضة"؟، كما حول الفرق بين "الموضة" و"الستايل"، وهل ثمة أنماط متعددة "للستايل"؟ ولماذا يسعى الإنسان في ابتكار "ستايل" خاص يميزه عن الآخرين؟ وكيف تلعب "الموضة" دوراً في تحديد "ستايل" خاص يميز جماعة عن أخرى؟، وَجَّهْت مذكرة بحثي إلى هذا الميدان، وأصبح همي الشخصي يقع في اتجاهين: الهم المعرفي أي التدريب على إتقان حرفة البحث العلمي من جهة، وتشذيب التساؤلات التي جالت في رأسي ومفهمتها أي (إضفاء المفاهيم عليها) من جهة أخرى. عليه، وجدتُ في موضوع "الموضة" و"الستايل" أي الأزياء والمظهر الخارجي للإنسان، مجالاً للمعاينة والدراسة. وبعد انقضاء فترة من التفكير الأولي والتأمل في هكذا موضوع بدأت نظرتي تختلف نحو هذه الأمور، أي بدأتُ أرى ما لم أكن أراه سابقاً من إشّارات دلالية في أزياء رواد مقهى يونس، وهو المقهى الذي كنت وما زلت من رواده. وبعد انقضاء فترة من التدّرج في ولوج هذا المقهى كحقل، بدأ ما كان بديهياً في نظرتي للأمور يصبح موضع تساؤل معرفي، تسعى هذه المذكرة إلى بلورته...
المبرر الذاتي:
إن هميّ الشخصي هو ما دفعني للبحث في هذا الموضوع في اتجاهين: الأول هو أنني كنتُ أرى دوماً في "الموضة" و"الستايل" قيماً جمالية وفناً بصرياً جاذباً، كونَ العين ترى أولاً، والأذن تسمع ثانياً، والعقل يحلل ثالثاً. فمنذ الصغر وأنا أبحث عن "الذوق الأمثل" الذي يعبّر عن الشكل "الأكثر" أناقةً ولباقةً لأكون عليه. استهوتني "الموضة" وتربيت على ملامحها، خصوصاً أنَّ والدتي هي "مصممة أزياء" وكنتُ بمساعدتها أصمم ما يرضيني من الملابس. كان اعتقادي دوماً أنّ مظهري "كاملٌ متكامل"، "أنيقٌ" يراعي "آخر صيحات الموضة"، إذ كان الجميع يثني عليه بالإعجاب إلى حين أن أقدم أحدهم يوماً وانتقد زييَّ معتبراً أنه "تقليدي جداً" وخارج إطار "الموضة الرائجة" إلى دَرَجة اعتباره "بشعاً"!. صدمني هذا التعليق وبيّن لي نسبيّة نظرة الأفراد "للموضة"، وجعلني أتسأل عن مدى تغاير "الستايل" عن "الموضة"؟ وهل السعي وراء آخر ما تبتكره الموضة من صيحات، يجعلنا مقبولين مجتمعياً؟ وما سرّ هذا القبول؟ ؛ والاتجاه الثاني هو ربط معرفتي العلمية الأكاديمية بأهدافي العملية (أي السوق) فمنذ الطفولة كنت أحلم بأن أبني خطاً لتصميم الأزياء الخاص بي، وأنا بصدد التحضير لتأسيس هذا العمل، وما هذه المذكره إلا خطوة أولى على طريق مفهمة العمل (السوق) أومهننة العمل البحثي (الأكاديمي) .
استنتاجات:
طرحت في بداية عملي الحقلي عدة أسئلة، منها ما كان يراودني قبل عملي هذا، ومنها ما أتى في المراحل الأولى لهذه المذكرة، وبعدما قرأت عدداً من الكتب والأبحاث والمقالات التي طالت موضوع "الموضة"، تبين لي أن قسم من الباحثين والكتاب تناولوا موضوع "الموضة" من جانب مبتكريها ومصنيعيها ومروجيها، وليس من جانب لابسيها ومتذوقيها، لذا حاولت في مذكرة بحثي هذه كأولى خطواتي في هذا الميدان الحديث والفتي "أنتروبولوجيا الموضة" أن أسلط الضوء على كيفية معايشة الناس "للموضة" و"الستايل" في حياتهم اليومية، انطلاقاً من رواد مقهى يونس (صورة 27).
كمحصلة وبالاستناد إلى كل ما ورد، وجدت أن "الموضة" و"الستايل" أو"القيم الجمالية" هي لغة وفن بصري، كما ذكرت في مدخل هذه المذكرة أن العين ترى أولاً والأذن تسمع ثانياً والعقل يحلّل ثالثاً. فلباس الفرد ومظهره الخارجي يضيف شحنة رمزية قد يتعذّر فهم مجمل أبعادها، إلا إذا توسعنا في العمل الحقلي. لكن بالارتكاز إلى معطياتي الحقلية وانطلاقاً من تأويلها أستطيع التأكيد أن "القيم الجمالية" ترتبط بما في ذلك بأشكال الملبس والتزين وما يتبعه من ملحقات ("اكسسوارات": قبعة، وشاح، أنواع متعددة من الأحذية ...) ارتباطاً سرياً وحميمياً بالجسد، إذ بها تفيض عليه بشيء من الجاذبية والشهوانية وجانب من التألق المتأنق والانتماء، وربما تعطي لصاحبه "الاحترام"، التقدير والثناء. "الموضة"، "الستايل" و"قيمهما الجمالية" تختلف بين ثقافة وأخرى وبين منطقة وأخرى في المدينة ذاتها، فهي دال على هوية تخص مجموعة إنسانية، طبقة مجتمعية معينة، انتماء دينياً أو انتماء مهنياً، وفي بعض الأحيان تتحول "الموضة" و"قيمها الجمالية" و"الستايل" إلى علامة متبادلة بين الأفراد. فالفرد الذي تتلبسه "الموضة" ويبتكر لنفسه "ستايل" يرمي إلى أن يتعرف عليه الآخر، سواء من خلال الحلي أو الأحذية ذات العلامات، فالأزياء العالمية تدل على الثراء، أو الوفرة الاقتصادية، أو من خلال مجموعة الشباب التي تلبس أزياء سوداء وكأنهم يرسلون إشارة ولا يتخلون عن الكوفية الفلسطينية لا صيفاً ولا شتاء.
تؤشر المعطيات الوصفية الحقلية، وبعد عدد من المقابلات، على أننا أمام عملية تبادلية دائمة. وكما افترضت في الفرضية الأولى "يعكس الواقع الاقتصادي والمجتمعي والسياسي والديني نفسه على أنماط الحياة كافة، والمظهر منها بوجه خاص. وبهذا المعنى المادي المعتقدي والجمالي تكون "الموضة" و"الستايل" هي لغة التواصل الأولى بين فئات من الأشخاص أو الجماعات (بصرياً: اللباس، الزينة، وقد يكون سمعياً أيضاً: طقطقة كعب حذاء المرأة العالي، وللعطور فاعلية على حاسة الشم أيضاً).
تبين من خلال تجربتي الحقلية أن كل انسان يرتاد مقهي يونس يصوّر لنفسه، من خلال "الموضة" و"الستايل" مشهداً بصرياً شبيهاً بـ"القناع الاجتماعي" كما صنفت الزهرة إبراهيم في كتابها وجوه الجسد حيث اعتبرت" الناس كيفما كانوا وأينما وجدوا هم ممثلون بدرجات متفاوتة، ومن شأن هذا أن يورط الوجه الإنساني في متعددة الأقنعة multu-masques، فتتلف من جراء تواترها الضاغط حقيقة الوجه الاول، وجه البراءة البكر قبل أن يتعلم الإنسان اللغة" . وبدوري أضيف بحسب الواقع الاقتصادي، أو الديني، أو السياسي، فأصحاب "الستايل الأسود" كانوا يمارسون الصّد، وكأنهم يرسلون رسالة قطع مع سيستام التفاعل المجتمعي في مقهى يونس على عكس جماعة الـ"converse" الذين يتفاعلون ويتجاذبون فيما بينهم، وكما ذكرت في الفصل الثالث إن تشابه أنماط الستايل يولد التفاعل والانجذاب ما بين الأفراد أو المجموعات، وهذا ما ولد رابط الزواج بين شاب وصبية من رواد مقهى يونس. ففي الكثير من الأحيان كانت تبدأ الأحاديث ثم التعارف من خلال تعليقات الأفراد عن أزيائهم، مثال على ما سمعته في مقهى يونس وبالأخص في الحيز الخارجي (الجلسة الرصيفية)، فالبعض يسألك "عن مصدر مقتنياتك وأزيائك"؟"، والبعض الآخر يسأل "هل ساعتك من هذه الماركة؟"، "هل أستطيع أن أرى نظارتك؟"، "من أين لك هذة الحقيبة؟"...
وكما افترضت في الفرضية الثانية عن دكتاتورية "الموضة"، أظهرت المقابلات ومن خلال معايشتي للحقل، ومعطياتي الوصفية، أن "الموضة" و"الستايل" حتى الذين لا يتابعون ولا يبالون بما تفرضه وتروجه "الموضة" نراهم ملزمين بشراء الملابس من كافة المحال التجارية التي تلتزم باختيارات "الموضة" وقوانينها، فإن لبسوا قصة "الجينز" أو القميص الذي كان رائجاً منذ سنتين، نراهم يلبسون الحذاء الرياضي والتي تعرض إعلاناته على كافة شاشات التلفزة. وفي إحدى المرات التي كنت أجالس فيها إحدى الشلل سأل أحد الاشخاص وهو على حد قوله لا يبالي بالـ"الموضة"، ولا يفكر بابتكار ستايل خاص به، لكنني صنفته من أصحاب "ستايل" الـ"كلاسيكي" لأنه غالباً ما يلبس قميصاً وسروالاً من القماش وأحياناً "الجينز"، وعن السؤال الذي طرحه لي أحد أفراد الشلة "من أين أستطيع شراء قميص مرتب وحلو؟".
![]() |
أماني في مقاهي الحمرا |
لعبت دورة التبادل التي طرحتها في الفرضية الثالثة دوراً بارزاً ومباشراً في تشغيل سيستام "الستايل" و"الموضة"، لأن هدف تركيب المظهر ضمن قواعد "الموضة" وابتكار "ستايل" يتميز الفرد به ضمن تفاعله المجتمعي، هو التبادل مع الآخر بغض النظر إلى أي اتجاه يهدف هذا التبادل إيجاباً أم سلباً. كلهما تبادلا، فـ"ستايل" الأزياء السوداء كان يرسل للمرسل اليه رسالة صدّ، وهذا نوع من التبادل الذي يوحي للآخر أو للجماعة بأن لا تقترب من هذا الشخص، وكأن هذا النمط من "الستايل" هو فصل نفسه أو "هجرة رمزية" عن وسطه المجتمعي ومحيطه، بما أنه متعارف عن لون الأسود في ثقافتنا المجتمعية بأنه لون الحداد والحزن والمرض، ولون يغطي عيوب الجسد ويخفيها، فالكثير من الفتيات اللواتي يعانين من زيادة الوزن يلبسن اللون الأسود.
ليست هناك تعليقات